يجوز من الأنس وما لا يجوز في شريعة الجنس

د. نضير الخزرجي

 

يجد المرء في بعض الأحيان حرجاً كبيراً من الإقتراب من ما يُعتبر شأناً خاصأ، لا سيما عندما يتعلق الأمر بخصوصيات الفراش او ما يُعبر عنه بالمواقعة والاتصال الجنسي وأمثال ذلك من مسميات تعتمدها المجتمعات حسب ثقافاتها، فالخوض في مثل هذه المسائل يعد في بعض الثقافات من الخطوط الحمر، مع أن الحديث فيها وعنها في كثير من الأحيان في إطار الطب والشرع الطريق السليم الى حل معضلاتها أو الحد من آثارها السلبية والسيئة، نظراً لتحقق الرفض والقبول في العملية الجنسية وثنائية الخير والشر. فالاتصال الجنسي يتحقق في الزواج والزنى، فالأول مبارك وخير، وفي الإعلان عنه مبلغ البهجة والسرور، والثاني مذموم مجتمعيا يحرص الطرفان فيه على الكتمان وبسط السرية، لأن في الإفشاء مبلغ الفضيحة إلا في حدود معينة وضعتها بعض البلدان للذة الحرام المدفوعة الثمن لأغراض الضريبة والكسب الحرام لملء خزينة الدولة، وهو ما عليه عدد غير قليل من الدول الغربية.

ومن المفارقات، أن المرء قد يسمع بين الفترة والأخرى عن اعتقال عصابة للمتاجرة باللحم الحرام أو الهجوم على أوكار المتاجرة بها في هذا البلد أو ذاك، كما تطالعنا الصحافة البريطانية بين الفينة والأخرى، وقد يحسن القارئ الظن بالحكومة وإجراءاتها، وقد يذهب به بعيداً إلى أن الحكومة تمارس وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّ نشر الفضيلة هو الدافع وراء عمليات الدهم والاعتقال والإبعاد للعصابات القادمة من أوروبا الشرقية سابقاً، ولكن عندما يقترب المرء من أصل الخبر سيكتشف أن تجارة اللذة الحرام - بعيداً عن أعين دائرة مصلحة الضرائب- هو أحد الدوافع الرئيسة وراء الاعتقال، حيث تدخل مثل هذه المهنة المشينة في باب التجارة السوداء التي تؤثر على عمل المومسات المسجلات لدى السلطات واللواتي يدفعن الضريبة السنوية، وبالتالي فمن واجب السلطات التنفيذية منع مثل هذه التجارة أو تقنينها ضمن أطر معينة وأماكن معينة حتى لا تفقد مصلحة الضرائب مورداً مالياً، والحد من السوق السوداء.

بالقرب من دائرة اللذة بوجهيها الحرام والحلال يقترب الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي كعادته في سلسلة (الشرائع) من هذه الدائرة، واضعاً الخطوط العريضة وبرؤية فقهية لما يجوز ولا يجوز في إطار كتيب (شريعة الجنس) الصادر حديثا (2014م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 72 صفحة من القطع الصغير مع مقدمة وتعليقات للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.

غذاء كباقي الأغذية

ليس للإنسان، وبقية المخلوقات الأرضية، إلا أن يتناول الطعام، إن كان بغريزة الغذاء أو بغريزة البقاء سيان، وليس له إلا أن يشرب، فتناول الطعام والشراب أمر تكويني فطري، ويختلف من إنسان لآخر، وتتعدد المأكولات وطرقها حسب الأجواء والمجتمعات والبلدان والثقافات والأديان والمعتقدات، ولكن بالمحصلة الحتمية ان الطعام والشراب قرينا الكائن الحي لا يتخلف عنهما أبداً ما دام له عرق ينبض بالحياة.

والغريزة الجنسية لا تختلف من حيث الحاجة والاحتياج عن الطعام والشراب، فهي طاقة متولدة باستمرار ينبغي للإنسان من ذكر وأنثى تصريف شحناتها وإلا أصبحت وبالاً جسديا ونفسيا، ولأنها طاقة متولدة فإن العازب يصرفها بالاحتلام رغماً عنه فيكون في دائرة الحليّة، وقد يصرفها بالاستمناء مع سبق الإصرار "العادة السرية" فيقع في الحرمة وارتكاب الإثم، وقد يصرفها الإنسان في الزواج وهو الأمر الطبيعي فيكون عمله ذا قيمة عظيمة وصحة للمجتمع وسلامة، وقد يصرفها المتزوج والعازب خارج إطار الزوجية فيكون لتصرفه جنحة كبيرة ونقمة للمجتمع وندامة، فبالمجمل كما يؤكد الفقيه الكرباسي: "إن الشهوة الجنسية نعمة إلهية لابد أن يستخدمها الإنسان في سبلها الصحيحة ويسعد بها حياته كما هو الحال في الأكل والشرب وغيرهما، وهذا الإنسان القادر على أن يلجم إرادته قادر على أن يخلق المعجزات في الاتجاهين وقادر على أن يطور سبل الوجهتين ويخترع الوسائل في لجم نفسه أو تركها حسب تلك الإرادة، ويسهل له مركبها نحو التكامل أو التراجع". فالشهوة الجنسية إذن هي طاقة وحاجة ولذلك كما يؤكد المعلق الفقيه الغديري فإنَّ: "الممارسة الجنسية هي أحد الأسباب لتسكين النفس، فالسكون والمودة والرحمة من النعم الإلهية العظيمة التي أعطاها للإنسان".

وإذا كانت الغريزة الجنسية نعمة تكوينية وهي كذلك، فإن أقل الشكر على هذه النعمة أن يتم صرفها في الاتجاه السليم، والاقتران العلني المؤطر بالشريعة والعرف الاجتماعي السليم هو الشكر بعينه، والجحود يكون بسلوك الطرق الحرام في صرف الطاقة واشباع الرغبة، والوبال الاجتماعي ما ينتج عن هذه العلاقات المحرمة التي يزينها الشيطان للإنسان من ذكر وأنثى فيقع في حباله وهي من الطرق القصيرة وأوهن الحبال التي أذلت الصغار والكبار وقت الاختبار، والتي ينبغي للمرء أن يستعيذ بالله من شرور الشيطان وجنوده النارية والفخارية، فالزواج هو الحد الفاصل بين المشروع واللامشروع، وبتعبير الفقيه الكرباسي: "فكل ما كان في إطار الزواج الشرعي باركه الله وسمح لعباده أن يمارسوه إلا ما يضرّهم، وكل ما خرج عن نطاق الزواج فقد نهى الله عنه وأنزل عليه نقمته".

ثمار اللذة الحلال

لا يمكن تصور حياة على وجه الأرض بعيدا عن غريزة الطعام والشراب واللذة الحلال، فإعمار الأرض يتحقق من خلال هذه الغرائز وغيرها، فلو لم تكن قائمة لما صار الزرع والضرع ولما جرت المياه في الأنهر والسواقي، ولما قامت المجتمعات والمدنيات والحضارات، ولما ماتت أمم وقامت أخرى، ولما توارث الناس وتعاقبت الأجيال.

الفقيه الكرباسي الذي يتابع في 127 مسألة فقهية حول موارد صرف الطاقة الجنسية، يسجل مؤشرات عدّة على فلسفة الشهوة واللذة:

أولا: التكاثر، فلا حياة على الأرض من غير تكاثر، ولا تكاثر من غير اتصال جنسي، ولا اتصال جنسي من غير رغبة، ولا رغبة من غير طاقة وغريزة تكوينية كامنة لدى الذكر والأنثى، فلو انعدمت الأخيرة انعدمت الأولى.

ثانيا: التآلف، لا يمكن تصور حياة أليفة وتآلف بين بني الإنسان من غير تحقق العلقة الجنسية.

ثالثا: تحريك عجلة الحياة، فمن لا يجد من يصرف عليه كزوجة أو أولاد أو أجداد، لا يجد الوازع للعمل، فتموت الحياة وتتوقف عجلتها.

رابعا: تنشيط الاقتصاد، ومن لا يعمل وضع العصي في عجلة الاقتصاد، فلابد للحياة من كد وتعب، والعمل مدعاة لتنشيط الاقتصاد على مستوى الفرد والمجتمع والأمة، والأمة الناجحة الراشدة هي التي تأكل مما تزرع وتصنع وما تصدره للآخر.

خامساً: تطوير الحياة، ومن الطبيعي ان الذي يتكاثر ويتآلف وينتج ويأكل يسير في الاتجاه الصحيح على طريق تطوير الحياة بما يصلح أمر دينه ودنياه ويوفر الخير له وللأجيال.

سادسا: راحة النفس، فالإنسان السوي يجد راحته وسكنه في منزل الزوجية، فالزوجان لبعضهما سكن ومسكن، ومن راحة النفس تتحقق المودة بكل معانيها المعجونة بكيمياء الحب.

سابعا: الأمن، فالإنسان بطبعه يميل الى السلام والأمن، والعلقة الجنسية المتحققة بالزواج تحقق جانباً كبيراً من الأمن المجتمعي.

ثامناً: حب البقاء، فلا أحد يرغب في الموت، فهو حق يصعب تصوره، ولكن عزاء المرء في خلفه، فحب الخلود غريزة، وهي تتحقق في دار الدنيا بالذرية المتحققة من الزواج والرغبة الجنسية، وفي الآخرة باعمار الأرض بما فيه رضا الرب وصلاح المربوب فيحصد في الآخرة جزاء ما زرع في الأولى.

تاسعاً: الامتحان الإلهي، فالإنسان مهما بلغ من القوة والمكانة لا يستطيع أن يخرج من مملكة الله أينما كان على الأرض أو في الفضاء الخارجي، والغريزة واحدة من مقامات الامتحان والاختبار في الدنيا ولها تبعاتها في الحياة الأخرى، ولذلك فهي تجعله في حالة اختبار على الدوام بين أن يميل الى صرف الطاقة الجنسية في مواردها الطبيعية أو خارجها.

ثنائية الصلاح والطلاح

ولما كانت الأشياء تُعرف بأضدادها، فإن من الطبيعي أن مخالفة السنن الكونية تؤدي الى شيوع الأمراض المزمنة القاتلة لسلامة الفرد والمجتمع، ويؤشر الفقيه الكرباسي في المقدمة المستفيضة لشريعة الجنس على عدد من التوابع السيئة للغريزة الجنسية وتصريفها، في ثنائية متعارضة، منها:

أولا: المرض والسلامة، فالشهوة المحرمة خارج أسوار الزوجية مدعاة الى أمراض جنسية لا يختلف عليها اثنان، في حين أن الزواج مدعاة الى السلامة الجسدية والنفسية والروحية.

ثانيا: القلق النفسي والطمأنينة، فعش الزوجية يبعث الدفء والطمأنينة، ومن يمارس الحرام يعيش في قلق نفسي، ويقطع عن المجتمع أمصال الطمأنينة.

ثالثا: السلوك الصالح والطالح، فالشهوة المحرّمة مثلها كمثل اللقمة الحرام والشراب الحرام، مدعاة للجريمة والسلوك الطائش المخل بأمن المجتمع، وفي المقابل فإن الزواج يقضي على الكثير من أمراض المجتمع وينتج بشكل عام رجالا أسوياء النفس والسريرة لا يميلون الى الحرام كما يميل في سريرته ابن السفاح وإن صلُح.

رابعاً: الإعاقة والسلامة، فالممارسة الجنسية القائمة على النفس المطمئنة وبالأسلوب السليم نتاجها سيكون سليما، والعكس صحيح.

خامساً: الخلق الوضيع والرفيع، فالسلامة الجنسية دلالة على الخلق الرفيع والسلوك السوي، ومن يمارسها بغير محلها في الزواج وخارجه دلالة على السلوك الوضيع.

سادساً: الجهل والمعرفة، وفي الأعم الأغلب ان الذي ينجرف الى اللذة الحرام ويكوّن أسرة خارج رباط الزوجية، لا يميل الى العلم، ويصبح الجهل ملعبه، في حين أن الأسرة السليمة تسعى ما أمكنها الى تعليم أبنائها، فرغبة الأب أن يكون ابنه أفضل منه في هذه الحياة.

سابعاً: الانفلات والانضباط، من الثابت أن اللذة المحرمة مدعاة الى الانحراف، والأخير بدوره يفرز الانفلات والانزلاق في وحل المخدرات والاعتياد على الخمر وأمثالهما.

ثامناً: القُبح والحُسن، بالإضافة الى قبح الشهوة الحرام وحُسن حلالها، فإن الممارسة الجنسية الخاطئة مدعاة الى فقدان نضارة الوجه، ونظرة بسيطة الى المومسات والمنحرفين تقطع الشك باليقين.

تاسعاً: الخسارة والربح، ولا غبار أن اللذة الحرام من الناحية المادية تفضي الى خسارة مادية، في حين أن الأسرة السليمة تحقق التوازن المادي.

عاشراً: الحياة والموت، ولا يشك أحد بأن الممارسة الجنسية المخالفة للفطرة والطبيعة الإنسية منتجة للأمراض الجنسية التي تقضي على الإنسان في وقت مبكر، وعكسها الممارسة السليمة التي تخلق الراحة الجسدية والنفسية للجنسين معاً.

ممارسات خاطئة

وعلى الرغم من أهمية النقاط التي أشار إليها الفقيه الكرباسي، يمكن تصور سلبيات وايجابيات أخرى ناتجة عن الممارسة الجنسية في الزين والشين، داخل إطار الزوجية وخارجها، لأن الممارسات الخاطئة في اشباع الرغبة الجنسية لا تقتصر على اللذة الحرام كما قد يشي الأمر، فهناك من يمارس الحرام وهو على فراش الزوجية كما يشير اليه الفقيه الكرباسي، كمن يمارس الجنس مع زوجته بشهوة غيرها أو أن تمارس الزوجة الدور نفسه، فهو من المحرمات، وله تأثير غير مرئي ولاسيما على الوليد وسلوكه.

وقد ثبت بالتجربة ومن خلال الطب الحديث ان بعض الممارسات الجنسية التي تدخل من الناحية الشرعية في إطار الكراهية، لها صفة حيوانية وتحط من كرامة المرأة وتخل من رونق الحياة الزوجية، وهو ما يشير الى بعضها الفقيه الكرباسي في عدد من المسائل، من قبيل الوطء من الخلف وبخاصة لمن يرى الحرمة او الكراهية الشديدة ومن دون رضاها، وقد تؤدي مثل هذه الممارسات الخاطئة أو المرفوضة الى تقليل العمر الافتراضي للرغبة الجنسية لدى الرجل، وهو ما ينتهي الى خلق مشاكل اجتماعية أقلها أن تدعو المرأة الرجل الى طلاقها، وإذا رفض الرجل اعطاء مرادها مع وجود الرغبة الجنسية لديها، فهو طريق غير آمن لأمراض جنسية وجسدية ونفسية تتمركز في الزوجة فضلا عن افراز عواقب وخيمة مرفوضة اجتماعياً، من هنا فإن الفقيه الكرباسي يرى انه: (إذا لم يتمكن الزوج من تلبية حاجة الزوجة يجب عليه طلاقها إن لم تصبر على ذلك).

ومن الأخطاء الاجتماعية في هذا المجال هو امتناع الرجل عن المعالجة الطبية اذا أصيب بضعف جنسي، لأن العرف الاجتماعي في بعض البلدان، يرى في مراجعة الطبيب انتقاصاً من الرجولة، مثلما لا يراجع المريض نفسيا الطبيب خشية أن يتهمه المجتمع بالجنون والخبل، مع ان الأمراض تتحقق في الأجساد والأبدان سيان، ويحضرني هنا قول أحد الأطباء الأخصائيين لصديق يعالج من ضعف جنسي، بأن عدداً غير قليل من الطلاقات تحصل وبخاصة في المجتمعات الشرقية بسبب الضعف الجنسي وإحجام المريض عن مراجعة الطبيب المختص والاستسلام لما يراه مرضا مزمنا وقاتلا للرجولة، مع ان الضعف الجنسي هو الآخر مرض جسدي أو نفسي أو كلاهما معاً له علاجاته مع تطور العلوم، ولكن الثقافة المجتمعية الخاطئة لا تتعامل مع الضعف الجنسي كمرض قابل للعلاج، مما يعرض الزوجية الى الطلاق والأسرة الى التفكك، وخاصة مع رغبة الزوجة بالاستمتاع كحق من حقوقها الزوجية لا تجدها عند شريكها، وقد يعمد الزوج لسد النقص الى استخدام أقراص خارج استشارة الطبيب مما يعرضه لأضرار صحية ربما تكون قاتلة.

في الواقع إن كتيب "شريعة الجنس" الذي يدخل ضمن سلسلة (الشرائع) من ألف عنوان طبع منها العشرات، يؤسس لثقافة جنسية مؤطرة بالشرع الحنيف على قاعدة "لا حياء في الدين"، وهو ما تحتاجه البشرية التي تعيش القفزة العلمية في مجال المواصلات والاتصالات، بحيث أصبحت الثقافة الجنسية لازمة حياتية لحماية الفرد والمجتمع من الأعراض السلبية الماحقة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 26/آذار/2014 - 23/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م