المجتمع الذي يواجه الموت بثقافة الحياة

العراق مثالاً

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: أي مجتمع تفوق على اليأس والاحباط، واستبدل الانطواء على الذات بعلاقات اجتماعية متبادلة ملؤها التكافل والتواصي والتراحم، يكون قادراً على تحويل الكوارث الى فرص للنمو والتقدم. وامامنا امثلة عديدة عن شعوب لم تنحن امام عواصف المحن والازمات مهما كانت، بل تقدمت خطوات ثابتة الى الامام، ولنا أمثلة من بلاد قابلة للمقارنة مع بلادنا، مثل الهند والصين وكوريا الجنوبية. فقد كانت لفترة طويلة من الزمن ضحية سياسات استعمارية كبدتها خسائر فادحة في الارواح والاموال والثروات، وحتى لامست منحدر العبودية والإذلال، عندما كشفت الوثائق عن استغلال جنسي بشع لآلاف النسوة والفتيات من الصين وكوريا الجنوبية من قبل الجنود اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية.

ان موت عشرات الآلاف من البشر في هذه الدول وغيرها خلال الحروب المدمرة، لم يكن مبرراً لذوي القتلى بأن ينشروا ثقافة الموت والهزيمة في النفوس، بعد ان نشرتها القوى الخارجية على الارض. وهذا ما جعل هذه الدول ذات قامات عالية في عالم الاقتصاد والتكنولوجيا، وباتت تنافس تلك القوى المتغطرسة.

وهذا تحديداً ما يحتاجه العراق في هذه المرحلة العصيبة من تاريخه.. فالشعب العراقي يواجه اليوم ثقافة ممنهجة ومعد لها سلفاً، تقضي بأن يعيش اليأس والخيبة من كل شيء عندما يرى نجاح الارهابيين في تنفيذ عملياتهم الاجرامية ويحصدون يومياً العشرات من القتلى بفعل سيارة مفخخة تارةً، او بعبوات وأحزمة ناسفة تارة اخرى، علاوة على الاخطاء القاتلة في بعض الاجهزة الامنية والمؤسسات  الحكومية التي من شأنها تعميق الجرح وزيادة الألم.

لقد اتفقت كلمة الباحثين العراقيين على جملة من العوامل التي ساعدت الى نشوء ظاهرة العنف والدموية في العراق، حتى النشاط المفرط للجماعات الارهابية، فان الدراسات الموضوعية أكدت وجود العوامل الداخلية في نجاح عملها، فاذا كان التمويل خارجياً، فان التنظيم داخلياً. فهنالك الفقر – في بعض حالاته- والتهميش الى جانب العامل النفسي الجوهري في القضية، متمثلاً في التراكمات السلبية من منهج الإذلال وتجريح الكرامة خلال العهد الصدامي البائد.

لأي سبب كان، يبقى الحديث عن الموت اليومي في العراق، واسبابه وعوامله، تحصيل حاصل، إنما المهم والمفيد لهذا الشعب الذي يجد نفسه أشبه بالمصاب بداء وبيل وفتاك، هو البحث في كوّة النور وشعاع الأمل بالحياة والبديل الافضل.

فتجارب الشعوب وفي ظروف مشابهة، هي التي مكنتها من تطويق حالة الحزن وتحديدها في أطر محدودة، وعدم السماح للاحباط واليأس بالتوغل في النفوس، حيث ان الموت وتتابع التوابيت ربما يستغرق فترة زمنية طويلة، وتكون اعداد الضحايا بالمئات و ربما يكونوا بالآلاف، وبالنتيجة يتحول الموت، من نهاية مادية لفرد في المجتمع، الى بداية ومنطلق للمجتمع والشعب بأسره.

ان اعتماد القيم الانسانية الفاضلة، والتشجيع على التكافل والتواصي والتعاون وغيرها، ليست تجربة حديثة ومبتكرة، إنما هي بالحقيقة تعود الى أول تجربة حضارية قدمها الاسلام للبشرية، حيث يشير الباحثون الى ان مجتمع النبي الأكرم، لم يكن عدد افراده في مكة قبل الهجرة، يتجاوز المائتي انسان مستضعف، لكن بعد اقل من ربع قرن، استطاع هذه المجتمع الصغير أن ينشر الاسلام والقيم والمبادئ الى سائر المجتمعات في الجزيرة العربية ويصهرها في قالب مجتمع اسلامي واحد، وهذا لم يتحقق بالمعجزة من قبل النبي الأكرم، إنما بوجود عوامل الحياة في هذا المجتمع الصغير. فقد تعرّض المسلمون الى هزّات قوية في بداية الدعوة ولعل أبرزها ما حصل في معركة "أحد" واستشهاد كوكبة من خيرة الصحابة في مقدمتهم حمزة بن عبد المطلب، عمّ النبي الأكرم، وما به، صلى الله عليه وآله، من الحزن الشديد عليه، كما مروا بتجربة مماثلة في حرب الخندق، بيد ان كل ذلك لم يحل دون تقدمهم في المسيرة الحضارية، بفضل تلك القيم والمبادئ.

ويحفظ لنا التاريخ وكتب السيرة النبوية بشواهد عديدة عن اهتمام النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، بالايتام والارامل، في جبهة المسلمين، كما كان يراعي المشاعر الانسانية في جبهة الباطل، ويوصي بعد البدء بالحرب والقتال ومطاردة الهارب وغير ذلك.. وكذلك فعل أمير المؤمنين، عليه السلام، في تلك الحادثة المشهورة، عندما تجوّل بين بيوت الكوفة، وهو يحمل الدقيق لعوائل الشهداء في جيشه، ووصل الى تلك المرأة التي أعربت عن تبرمها من "علي بن ابي طالب" الذي أوصلها الى هذه الحال، فقدم لها الطعام وطلب منها أن تبرئ ذمة "علي".

وهذا بالحقيقة؛ يعد درساً بليغاً لجميع افراد المجتمع، وليس فقط للمسؤولين، بأن يكونوا على قدر المسؤولية الاجتماعية والاخلاقية ويوسعوا آفاق تفكيرهم الى ما بعد هذه المرحلة الراهنة، ويرتفعوا الى مستوى ثقافة الحياة والبناء.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 24/آذار/2014 - 21/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م