ملامح التدعيش في "أثير الكراهية"

ياسر الحراق الحسني

 

"المطلوب في نظري أن نربّي الجيل القادم على ثقافة إحترام المختلف في أقصى خلافه مادام رأيه في حدود التعبير"

المفكر المغربي إدريس هاني

 

على ضوء هذا الكلام الحداثي الذي يعبر عن وعي عميق بتعددية المجتمعات وضرورة التعايش السلمي نسجل نقاطاً على محطة البي بي سي المفترض أن تكون محطة حداثية. ثقافة إحترام المختلف في أقصى خلافه ما دام في حدود التعبير ولا يتجاوز القوانين الجاري بها العمل في الدول الديموقراطية لا يعترض عليه سوى جماعات متطرفة مثل "الدولة الإسلامية في العراق والشام " المعروفة بإسمها المختصر "داعش".

فثقافة احترام التعددية وحق الإنسان في الإعتقاد والتعبير عن معتقداته سلمياً، وحقه في الوجود كما هو تقابله في الجهة الأخرى ثقافة مثل ثقافة التدعيش القائمة على إقصاء وجود الآخر المختلف. وفي وقت كان المأمول فيه من قناة مثل البي بي سي في نسختها العربية لما قدمت برنامج " أثير الكراهية" تسليط الضوء على التعبيرات الطائفية المحرضة على العنف، الذي رأيناه من تقرير الصحفي نور الدين الزورقي جسد خرقاً لقواعد العمل الصحفي وضرب نموذجاً لإزدواجية المعايير. تقرير مختل يفتقد إلى التوازن المطلوب والعلمية والدقة. تقرير جاء ليكشف الطائفية المقيتة وإذا به ينحاز إلى الطائفية المميتة. فأي إزدواجية إذاً ظهرت من خلال التقرير؟ وكيف حمل هذا التقرير ثقافة التدعيش؟..

البي بي سي بين حب سلمان رشدي ومعاداة التشيع

 أسد على الشيعة ومع رشدي نعامة.. إنه من غرائب الحداثة البريطانية أن تجد فيها هيئات إعلامية عظمى مثل البي بي سي تكيل بمكيالين في موضوع مثل حرية التعبير والإساءة إلى المقدسات. فمن جهة تجد بريطانيا توفر الحماية من أموال دافعي الضرائب للكاتب سلمان رشدي صاحب كتاب "آيات شيطانية" القائم على أبلسة إلاه المسلمين وتشويه صورة نبيهم بطريقة روائية يمتزج فيها النص الإسلامي المثير للجدل مع واسع الخيال الرشدوي وقبيح تعبيراته وتعميماته.

 ومن جهة اخرى تجد البي بي سي التي اعطت تغطية منقطعة النظير للإشهار بقضيته ومظلوميته تجاه فتوى الخميني الراحل بإهدار دمه في اواخر الثمانينيات على خلفية "آياته الشيطانية". البي بي سي في برنامجها حول سلمان رشدي والفتوى المذكورة المذاع في 19 سبتمبر 2012 ركزت على أعمال العنف المباشرة التي تلت نشر رشدي لكتابه ولم تحمله مسؤولية العنف وإعتبرت أن هناك الكثيرين ممن يتقاسمون معه الرؤية حول الإسلام. أكثر من ذلك، تجد رشدي يقول في ذات البرنامج أنه لو كان يعرف أن كتابه سيسبب ضجة بهذا الحجم لكان جعل مؤلفه أكثر حدة في النقد. فها هو رشدي على" أثير المحبة" البريطاني يقول ما يشاء وينوه بكتاب ممتلئ بإعادة إنتاج التاريخ الإسلامي المزيف والمجروح فيه والذي يهين إلاه المسلمين ونبيهم، في حين لما نقل برنامج البي بي سي "أثير الكراهية " ملاحظات لبعض الشيعة حول بعض الصحابة تعمد لقطع مقاطع الكلام محملاً اياهم العنف في العراق وسوريا. وهنا تكمن إزدواجية المعايير التي فتحت باب الشك في مصداقية البي بي سي على مصراعيها.

تصور مغالط ومقارنة باطلة

يدعي التقرير المصور المذكور فكرة تعقب القنوات الطائفية التي يرى أنها تثير الكراهية والعنف. ومعلوم أن إثارة الكراهية والعنف مسألة تتعلق بالتحريض الخطابي على الكراهية والعنف. ويشمل هذا خطاب التكفير الذي يقصد منه صاحبه المترتبات الشرعية كإقامة حد القتل والدعوة إلى العنف الصريح والتحريض على مخالفة القوانين التي تحفظ الأمن والإستقرار. ولا يعني أبداً تعقب القنوات المثيرة للكراهية والعنف تعقب رجال الدين أو غيرهم من الذين يعلنون احترامهم للقوانين الجاري بها العمل، وينبذون العنف بالمطلق ويكتفون بالتعبير عن آرائهم ومعتقداتهم وإن كانت فيها إهانة لمعتقدات الآخرين. ومن هنا مقارنة قنوات شيعية بقنوات مثل الصفا ووصال مقارنة خاطئة. ففي حين تلتزم القناتين الأولتين كمثال بنبذ العنف وتعترف بالقوانين المدنية، تجد أن قناتي وصال والصفا تحرضان مباشرة على العنف. وكان الشيخ الزغبي في الأخيرة هدد بإستعمال السلاح الأبيض لقتل الشيعة في مصر وحرضت قناة الصفا الشباب علانية على "الجهاد" في سوريا واستهداف الأشخاص وتعقبهم بناءً على الهوية المذهبية. وقام التقرير بإستغلال فظيع لمشكلة العنف في العراق وردها بطريقة ساذجة إلى القنوات الفضائية.

 اسلوب بسيط غير محترف يدل على جهل الصحفي بسياسة المنطقة. العراق الجريح في حقيقة الأمر ليس ضحيةً لقنوات هنا أو هناك، بل هو ضحية لحروب جهوية تغذيها دول تخشى من تطوره الديموقراطي وتأثيره على بنياتها الديكتاتورية والعشائرية النفطية. إن الدول المحيطة بالعراق باتت تخشى من تصديره للديموقراطية فعزمت على إحباط تجربته السياسية بتمويل الإرهاب فيه. وإدعاء التقرير أن الفضائيات هي المسؤولة عن الإرهاب في العراق والإقتتال في سورية يتنافى مع اقتتال أشرس عرفته المنطقة قبل زمن الفضائيات وبعد زمن الفضائيات. فهل الفضائيات هي من كان وراء حرب الثمان سنوات بين العراق وإيران؟ هل الفضائيات الطائفية هي من مزق أفغانستان؟ هل هي من مزق الشيشان؟ هل هي من مزق يوغوسلافيا؟ هل هي من فجر مدينة الدار البيضاء؟ هل القنوات الشيعية مثلاً مسؤولة عن العنف في السودان -الذي كانت بريطانيا مالكة الهيئة الإعلامية وراء تمزيقه-؟ هل قنوات الشيعة مسؤولة عن العنف في ليبيا ونيجريا والصومال؟. ثم حتى مع ثبوت التحريض العلني على الإرهاب من قنوات مثل صفا والوصال، فإن تنفيذ الإرهاب يحتاج إلى غطاء ميداني ودعم مادي وانفلات قانوني لكي ينجح وليس بالبساطة الكرتونية التي حاول صحفي البي بي سي تمريرها للرأي العام.

 البي بي سي كأثير للكراهية

 في برنامج "أثير الكراهية" ملامح واضحة للتدعيش الإعلامي. من بين هذه الملامح سياسة تكميم الأفواه فيما يتعلق بالتعبير الحر عن المعتقد الديني. ومن خلال التقرير تم حذف بتغطية صوتية عبارات من جمل نقلها عن خطب مصورة لبعض الشخصيات الشيعية إذا رجعنا إلى اشرطتها الأصلية لا نجد فيها لا إرهاباً ولا كباباً. كل ما نجد هو عبارات نقد لاذع لا علاقة لها بالتحريض على العنف طالت بعض الشخصيات التي تعتبر محل خلاف بين مختلف الفرق الإسلامية. ولا يوجد مبرر لحذف جمل من كلام منقول عن كتب تاريخية شائعة سوى إلتزام المسؤول الإعلامي بخط ديني معين مخالفاً قواعد الإعلام الحر. ولا يخفى أن عدداً من الإعلاميين في منطقتنا قلوبهم مع الديموقراطية وسيوفهم وأدواتهم مع الحركات المتطرفة. ولتوثيق هذا الكلام يمكن إدراج بعض النماذج في التقرير التي كانت أولى بالحذف ولم تحذف. نماذج تحكي عن نفسها نقتصر منها على :

1. السماح لإعلامي قناة صفا المتطرف محمد صابر بالتعبير بكل حرية على أثير البي بي سي قائلاً :

-" الشيعة سرطان هذه الأمة " وأعاد : "الشيعة كل الشيعة".

- "لا اقترب من الزبالة الشيعية".

-"الزنى دين الشيعة".

-"الشيعة دين مجوسي بتمويل صفوي".

2. السماح بإذاعة الشيخ الزغبي لمقطع خطبة يدعو فيها على الشيعة عواماً وأئمة واعطاءه فرصة تبرير كلامه.

هذا ولم يسمح للشخصيات الشيعية لا بالتعبير عن معتقدها الذي لا علاقة له بالتحريض كما تقدم في النماذج المذكورة، ولم يعطوا فرصةً لتبرير أو شرح كلامهم. وعليه فإن البي بي سي ساهمت بشكل مباشر في نشر العنصرية والكراهية والتحريض على الإرهاب وتضليل الرأي العام.

في الختام

بناء على ما تقدم يمكن القول بكل ثقة أن ثقافة التدعيش بدأت تتسرب إلى محطات غربية عملاقة مثل البي بي سي. وفي وقت تساهم مثل هذه القراءات في كشف ملامح التطرف والحياد عن الإعلام المحترف لدى بعض المنابر، يبقى الدور على القارء المتطلع إلى مستقبل تسود فيه الحريات أن يثير هذه المواضيع على نطاق أوسع. وبهذا يمكن لهذه النقاشات أن تصل إلى دوائر الإنتاج الإعلامي -الغربي خاصة-، والتي لا نتوقع منها دائماً ضبط العناصر المارقة بقدر ما تتوقع منا الحكم على انتاجاتها وتقييم عناصرها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 23/آذار/2014 - 20/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م