لكل جزئية في الحياة اليومية، وبشكل عام، لازمة لا تنفك عنها ولا
تتخلف، يدركها المرء بلا برهان، فلزوم الملعب اللعب ويلزمه اللاعب،
ولزوم المدرسة التعليم ويلزمها الطلبة والمعلمون، ولزوم السيارة الركوب
ويلزمها السائق والركاب، وهكذا في معظم مفردات الحياة.
وقد يتحد اللازم بالملزوم الى الحد الذي يتم تناسي لوازم أخرى لها
وجودها وتأثيرها المرئي وغير المرئي، فقرين الملعب اللاعبون وربما
المتفرجون، وقرين المسجد المصلون والعابدون، والكعبة قرينها الحجاج
والمعتمرون، وقرين المرقد الزائرون، وبشكل عام فإن المكان بالمكين،
وهذه معادلة لا يختلف عليها اثنان، وهي من ثوابت اللزوم بالمعية، ولكن
في بعض الأحيان ومن شدة التلازم لا يُلتفت الى الطرف الذي بيده عملية
إجراء هذه الملازمة وحيثياتها، فلا لعب إن لم يتم فتح ساحة اللعب
وإعطاء الإذن، ولا صلاة جماعة إن بقي المسجد مغلقا، ولا حج إن لم تفتح
الكعبة والمشاعر الحرام أبوابها للحجيج والمعتمرين، فمن بيده مفتاح
الملعب أو الجامع أو المسجد أو المرقد أو المقام هو الذي يسهل اجراء
هذه الملازمة.
من هنا كانت السدانة والحجابة وظيفة ذات شأن كبير، وإن لم يعرفها
الزائر أو المصلي، ولأهميتها كانت العوائل والأسر لا تتوانى عن فعل أي
شيء بما يساهم في تولي هذه المسؤولية لما لها من صدى وسمعة في الأوساط
الاجتماعية تضفي على السادن وأسرته رفعة وعزة، وكلما كان السادن واسع
الصدر، عميق الجيب، مبسوط اليد، منفتح العقل، عميق الفكر، متعدد
المهارات، متشعب العلاقات، كان أقدر على الخدمة وأقرب إلى رضا الرب
وخدمة المربوب، ولهذا يشعر الزائر للمسجد أو المقام أو المرقد براحة
نفسية وجسدية عندما يجد الأمور مهيأة ومنتظمة وتسير بانسيابية، فكل
ايجابية تحسب لصالح السادن وكذا في السلبيات، والسمعة الطيبة هي رأسمال
السادن والحاجب في وظيفته الدينية والمدنية.
من هنا كانت سدانة المسجد الحرام وظيفة ذات قيمة تكسب صاحبها منزلة
راقية ويسعى لأن تكون في عقبه، ومن هنا كانت سدانة مراقد أهل البيت
مبتغى الأسر والعوائل، وهذا ما نلاحظه على سبيل المثال في سدانة الحرم
الحسيني الشريف في كربلاء المقدسة، حيث اشرأبت الأعناق وتعالت الأصوات
وتطاولت الأيادي لنيل هذه المنزلة، بل وتصارعت الأسر على هذه الخدمة
وتحاكمت الى القضاة ومراجع التقليد، وهذا ما نلحظه عند مطالعتنا
للأجزاء السبعة المطبوعة من دائرة المعارف الحسينية في باب (تاريخ
المراقد .. الحسين وأهل بيته وأصحابه) للعلامة المحقق الدكتور الشيخ
محمد صادق الكرباسي.
وقد أحسن صنعاً الباحث العراقي الدكتور عباس جعفر الإمامي عندما
نقّب في الأجزاء المطبوعة من تاريخ المراقد واستل منها أسماء السدنة
الذين توالوا على خدمة المرقد الحسيني الشريف منذ عام 61هـ وحتى يومنا
هذا، ودوّن الأسماء كلها مع بيان تاريخ توليها السدانة وملخص السيرة
الذاتية لها، في كتاب مستقل من 159 صفحة من القطع المتوسط صدر حديثا
(2014م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين تحت عنوان "تاريخ السدانة
الحسينية للمحقق الكرباسي".
السدانة والحجابة
لم تكن السدانة والحجابة حديثة عهد على العرب ولا هي خاصة بالمسلمين،
فالسدانة عرفتها الأديان كلها كما عرفتها الحكومات والمدنيات والحضارات،
حيث اشتهر الحاجب عند كل ملك أو أمير أو خليفة أو امبراطور، فالسادن
يخدم المعبد والمسجد والحاجب يخدم الحاكم، ولكن ما يفرق السادن عن
الحاجب من حيث اللغة والوظيفة أن الحاجب يحجب وإذنُه لغيره، والسادن
يحجب وإذنه لنفسه، وهذا ما يشير اليه الدكتور عباس الإمامي في المقدمة،
وقد عقد مقارنة بين سدانة البيت الحرام وسدانة المرقد الحسيني الشريف
منطلقاً من قوله تعالى في سورة التوبة: (أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة
المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا
يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين) الآية 19، حيث أطلق
القرآن الكريم مصطلح (العمارة) على (السدانة) وخدمة بيت الله الحرام،
وقد فصّل الإمامي في مفهوم العمارة وشروط السادن ومنها الإيمان، لأن
الخدمة لوحدها لا تكفي إن لم يكن السادن أو الخادم مؤمناً برب البيت
ورب صاحب المرقد الشريف، فالخدمة المجردة عن الإيمان أشبه بالجسد من
غير روح، فلابد من ثنائية الخدمة والإيمان ليتكامل مقام السدانة.
وفي تقديري ان الدكتور الإمامي نجح في إيصال فكرة السدانة والخدمة
في المراقد والمقامات والأضرحة الشريفة للأئمة والأولياء والصالحين،
منطلقاً من عمارة المسجد الحرام، فسدانة المراقد الشريفة هي في واقعها
ومن حيث المصداق والوظيفة متصلة بسدانة البيت الحرام، ولما كانت
الثانية مفهومة لدى عامة المسلمين فإن الانطلاق منها نحو الحديث عن
سدانة المرقد الحسيني الشريف قرّب المسافة المعرفية للوقوف على تاريخ
السدانة الحسينية كما أثبتها المحقق الدكتور محمد صادق الكرباسي في
أبحاثه المستفيضة عن مرقد الإمام الحسين(ع) من حيث النشأة والتاريخ،
ويكاد يكون العلامة الكرباسي قد انفرد عن باقي المحققين في التثبت من
خدمة المرقد الحسيني على مدى التاريخ ما أمكنه ذلك وأسعفه التحقيق
والتوثيق، وما قام به الدكتور الإمامي من اقتناص المعلومة من بين سبعة
أجزاء من الموسوعة الحسينية الخاصة بالمرقد الحسيني يكشف أهمية الجهد
الاستثنائي الذي بذله الشيخ الكرباسي في هذا الباب والأبواب الستين
الأخرى من أبواب دائرة المعارف الحسينية، التي صدر منها حتى اليوم 86
مجلداً من مجموع نحو 900 مخطوط ومطبوع.
وفي هذا الطريق المعرفي الشائك استطاع المحقق الكرباسي أن يصل الى
حقائق كثيرة، منها وعلى سبيل المثال نفيه للمشهور أن أول قبة أنشئت في
الإسلام هي قبة الصخرة في القدس الشريف، فالحقيقة كما يؤكد الكرباسي في
أبحاثه إن أول قبّة أنشئت في الإسلام هي قبة المرقد الحسيني الشريف
وذلك عام 66 للهجرة في عهد المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وكان حينها
السادن للمرقد الحسيني إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي يساعده في ذلك
ابنه محمد بن إبراهيم الأشتر النخعي الذي استقل بها عام 71 للهجرة.
سدانة ونقابة وحكومة
تناوب على خدمة المرقد الحسيني شخصيات وأسر وعوائل كانت في كربلاء
المقدسة أو سكنتها، وكان بنو أسد هم أول السدنة، حيث كانوا يسكنون
منطقة الغاضرية الواقعة اليوم شمال شرق كربلاء بين ناحيتي عون والعطيشي،
وهناك من يرى إن أول سادن للمرقد الحسيني هو عبد الله بن بشير الأسدي،
وهو ما لم يثبت لدى العلامة الكرباسي. لكن المتحقق عنده ان قبيلة بني
أسد هي التي ساهمت في دفن جسد الإمام الحسين(ع) وتناوبت في فترات على
رعاية القبر الشريف.
ومن خلال المرور على أسماء السدنة وحيثيات تولي السدانة وتواريخها
تتكشف أمور كثيرة، ولعلّ أهما:
أولاً: إن سدانة المرقد الحسيني الشريف خدمة عظيمة لا يُلقّاها إلا
ذو حظ عظيم، ولهذا تنازعت على هذه الوظيفة الكريمة قبائل وأسر معروفة،
وبها تسمّت بعض الأسر والعوائل فيطلق عليها لقب (الكيلدار) أو (الخازن)،
والأولى مفردة فارسية وتعني صاحب المفتاح والذي بيده مقاليد الأمور.
ثانيا: في بعض الفترات التاريخية كان نقيب الأشراف هو السادن للمرقد
الحسيني أو له الصلاحية في تعيين السادن أو الخازن أو الكليدار.
ثالثا: في بعض الفترات التاريخية كان السادن هو الحاكم المدني
لمدينة كربلاء المقدسة، أو أن الحاكم المدني هو السادن، وله صلاحية
تعيين من يراه صالحاً لهذه المهمة.
رابعا: كانت السدانة تبقى لفترة طويلة في أسر معروفة تتوارثها أباً
عن جد.
خامساً: في معظم الأحيان كان تبدل الحكومات المركزية مدعاة لتغيير
السدنة ونقل الوظيفة من يد أسرة الى أخرى.
سادساً: في بعض المراحل التاريخية كان للمرجعية الدينية اليد الطولى
في تعيين السدنة، ولا تقتصر المرجعية على حاضرة كربلاء المقدسة،
فالمرجعية في الحلة كانت لها صلاحية تعيين السادن، وكذلك مرجعية النجف
الأشرف، وهي ما عليه الآن.
سابعاً: كان السلاطين والملوك والولاة يتدخلون في تعيين السدنة، ولا
يقتصر الأمر على الحاكمين في العراق، ومن ذلك قيام السلطان الإيراني
إسماعيل الأول الصفوي عام 914هـ بتعيين السيد محمد بن حسين آل كمونة
سادناً للمرقد الحسيني الشريف، كما أسند اليه نقابة الأشراف وحكومة
الحلة.
ثامناً: في بعض الفترات كان السادن لمرقد الإمام الحسين(ع) هو نفسه
السادن لمرقد أخيه العباس(ع).
تاسعاً: في بعض الفترات كان السادن للمرقد الحسيني يتولى السدانة
لمرقد الإمام علي(ع) في النجف الأشرف، كما حصل في عهد هولاكو الذي أسند
عام 656هـ نقابة وسدانة المشهد العلوي والحسيني الى الى السيد مجد
الدين محمد ابن طاوُس الحلي.
عاشرا: وفي بعض الأحيان يأتي أمر السدانة وتعيينها مشتركاً بين
الوزارة المسؤولة والمرجعية الدينية، كما حصل على سبيل المثال في
السدانة الحالية بعد سقوط نظام صدام عام 2003م.
حادي عشر: القاعدة الغالبة أن يؤول أمر السدانة لشخص واحد، وهناك
استثناء كما حصل في السدانة الأخيرة التي تولتها لجنة ثلاثية أشرفت على
سدانة المرقد الحسيني والعباسي بعد سقوط النظام متكونة من العلامة
الفقيد السيد محمد بن مرتضى الطباطبائي الحسني (1354- 1425هـ) والعلامة
السيد احمد بن جواد الصافي والعلامة الشيخ عبد المهدي بن عبد الأمير
الكربلائي، وبعد رحيل العلامة الطباطبائي، استقل العلامة الصافي
بالمرقد العباسي فيما استقل العلامة الكربلائي بالمرقد الحسيني ولازال
الأمر قائما الى يومنا هذا.
ثاني عشر: في الأغلب الأعم تولت سدانة المرقد الحسيني أسر علوية حتى
كاد أن يكون عرفاً، ولهذا تعتقد بعض الأسر العلوية الكربلائية العريقة
أن السدانة من حقها، ولكن تداول السدانة بين الأسر العلوية وغير
العلوية على مر التاريخ يقطع وتيرة هذا العرف.
في الواقع إن كتاب (تاريخ السدانة الحسينية للمحقق الكرباسي) يشكل
إضافة مهمة إلى المكتبة العربية يحكي في جانب منها تاريخ كربلاء
المقدسة وما تعرضت إليه من عمارة أو تخريب، كما هو الكتاب الأول
والأكثر توثيقاً الذي يقدم كشفاً بأسماء سدنة المرقد الحسيني الشريف،
إذ بلغ عددهم كما استبان للمحقق الكرباسي من خلال البحث والتنقيب 65
سادناً منذ أول سادن عام 61هـ إلى آخرهم الذي يتولاها رسميا ومرجعيا
منذ عام 23/6/1427هـ. كما يعتبر الكتاب إضافة أخرى لمؤلفات الباحث
العراقي الذي جمع بين الدراستين الحوزوية والجامعية، الدكتور عباس جعفر
التازه لي الإمامي، وقد كتب من قبل (الدور السياسي للمرجعية الدينية في
العراق الحديث)، و(الرقابة العامة للمرجعية الدينية في العراق الحديث). |