إسرائيل تستحضر روح بلفور

 

شبكة النبأ: من خلال زيارة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لإسرائيل، سعت الأخيرة لاستحضار روح "آرثر جيمس بلفور" وزير الخارجية البريطاني صاحب الوعد التاريخي الشهير الذي قدمه الى اليهود عام 1917، كما أعربت عن عميق ثقتها بالدعم البريطاني على الأصعدة كافة، في تحقيق طموحاتها وسياساتها الآنية والمستقبلية، فكان الترحيب الكبير في "الكنيست"، وهو البرلمان الإسرائيلي، حيث قدم الضيف البريطاني كل ما ارادت الاحزاب والجماعات الاسرائيلية سماعه من دعم ومساندة أمام التحديات الموجودة في المنطقة.

ويرى مراقبون في المنطقة، إن لهذه الزيارة معطيات وايضاً دلالات، فهي تأتي في وقت تعيش إسرائيل شبه عزلة إقليمية ودولية، بسبب التعثر المستمر في مفاوضات ما يسمى بالسلام مع الفلسطينيين، واصطدامها بالرأي العام العالمي الذي يجد في سياسات الاستيطان والقمع الذي تمارسه ضد الفلسطينيين، السبب في وصول تلك المفاوضات الى طريق مسدود. ثم لابد من الاشارة الى ساحة الحرب في سوريا وما تشهده من تجاذبات دولية حادة، تجاوزت الحدود الإقليمية، مما يجعل هذه الدولة الرابضة على ساحل المتوسط، مجرد متفرج على الصراع الروسي – الامريكي على النفوذ والتأثير، مما يمكن القول أن زيارة رئيس وزراء بريطانيا من شأنها ان تعيد لإسرائيل "روح بلفور" وتضخّ فيها المزيد من الغطرسة والعنجهية التي تحتاجها الدولة العبرية في محاور عديدة منها:

أولاً: يهودية إسرائيل

اعتقد ان المفيد جداً البحث في توقيت طرح هذه الفكرة على الفلسطينيين وعلى المسلمين أجمعهم، ولماذا الآن بالذات يجب علينا الاعتراف بأن هنالك دولة ذات طابع ديني – يهودي، الى جانب الدول الإسلامية المحيطة بها؟. علماً إن معطيات المرحلة الراهنة تشير الى تراجع مخيف للطابع الديني في البلاد الاسلامية بسبب انتشار فيروس "الإرهاب الطائفي" في جسد الأمة، ووجود شبه إجماع في عموم البلاد الاسلامية على إبعاد أي لون او طعم أو رائحة للدين من الأنظمة السياسية الحاكمة للتخلص من شبح "العنف الطائفي"..!.

طبعاً؛ الاسرائيليون طرحوا الفكرة ضمن المسار التفاوضي مع الفلسطينيين، حيث وصف رئيس الحكومة الاسرائيلي، بينامين نتنياهو، هذا المطلب بانه "اختبار لجدّية الفلسطينيين في المضي نحو السلام". مع علمه إن هكذا قضية لا تتعلق بالفلسطينيين وحدهم، إنما تتعلق بالدول الاسلامية جمعاء.

وفي السياق ذاته جاءت المباركة من كاميرون حيث أكد على أن "اسرائيل تمثل النموذج الديمقراطي في المنطقة"، كما أعرب عن معارضته الشديدة لأي نوع من انواع المقاطعة لهذه الدولة.

وفي معرض تطرقه الى مسار "مفاوضات السلام" التي يرعاها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، وتأييده لهذه الجهود، وجه كلامه الى نواب الكنيست: "فكروا في كافة العواصم في العالم العربي التي يمكن ان يسافر اليها الإسرائيليون ويقومون بأعمال فيها"، مضيفاً "تخيلوا اتفاقية سلام يمكن ان تترك اسرائيل أكثر أمنا وليست أقل أمنا"، كما أشار الى العلاقات الاقتصادية، والتزام بريطانيا بأمن إسرائيل، وتعهده "بالوقوف دائما بجانب حقوق اسرائيل في الدفاع عن مواطنيها".

وهذا ما جعل المتابعين يرون بوضوح تجليات "النزعة البلفورية" لدى رئيس الوزراء البريطاني، رغم إقرار الصحافة البريطانية بحقيقة قلّة باعه في ملف الصراع العربي- الإسرائيلي، بينما كان العكس لدى سلفه طوني بلير، وهذا لا يقلل من شأن السياسة البريطانية الثابتة أزاء الوجود الإسرائيلي – اليهودي في المنطقة، بل هي إشارة واضحة الى أن لندن، لن تنتظر واشنطن لتكمل "خارطة الطريق" من دونها.

ثانياً: لغة العنف والحرب

بات من المعروف إن إسرائيل ومنذ احتلالها فلسطين، تنتهج سياسة إثارة الصراعات والأزمات لتحقيق مكاسب سياسية على الأرض، فهي لن تكون يوماً صادقة في نواياها المعلنة بالسلام مع الآخرين، لأنها جاءت بالاساس عبر العنف والدموية والاحتلال، و"فاقد الشيء لا يعطيه". وهذا ما نلاحظه من مسار المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، حيث تسعى دائماً لإثارة مشاعر الغضب واستفزاز الشعب الفلسطيني ودفعه اكثر نحو المواجهة الدامية والعنف المتزايد، مما يمكنها من الظهور أمام العالم على أنها مستهدفة من جماعات "إرهابية" وأنها تبحث عن الأمن للسكان المدنيين وغير ذلك.

وقد لفت المراقبون تطورين متزامنين قبل يوم واحد من زيارة كاميرون؛ الاول: تبادل الهجمات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حيث شنت الطائرات الإسرائيلية قبل وصول كاميرون، نحو (30) غارة جوية على قطاع غزة، رداً على إطلاق حركة الجهاد الإسلامي أكثر من (50) صاروخاً على جنوب إسرائيل.  

أما التطور الثاني: فقد تمثل في قرار وزارة الإسكان الإسرائيلية بتقديم "عطاء جديد لبناء (387) وحدة استيطانية في مستوطنة رامات شلومو" شمالي القدس.

وحسب المختص في شؤون الاستيطان "أحمد صب لبن"، فإن المشروع "يعمل على مصادرة (580) دونماً من أراضي بلدة شعفاط، وبالتالي سيعمل على ابتلاع المزيد من أراضي المواطنين الفلسطينيين في البلد"، مضيفا أن (387) وحدة استيطانية هي ضمن المخطط الاستيطاني الرامي لبناء (1500) وحدة استيطانية في "رامات شلومو".

هذا التطور ليس فقط من شأنه ان يعرقل سير المفاوضات الجارية والتي تسير بطريقة سلحفاتية بائسة، إنما يشكل عود ثقاب جديد أمام برميل بارود جديد في الاراضي المحتلة. وهذا ما تريده تحديداً اسرائيل.. مزيداً من التوتر وعدم الاستقرار في الاوساط الفلسطينية، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، والتفكير ابداً بالرد العنيف والحرب والقتال في ساحة مواجهة غير متكافئة.

ومما جاء في خطابه الاسترضائي لمضيفيه الإسرائيليين، أطلق كاميرون عبارات شديدة وعنيفة ضد ايران في هذا السياق، واصفاً ايصال الاسلحة الى الجماعات الفلسطينية، بأنها "جهود حقيرة"..!. وبذلك يزيد من حدة الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فمن المسار الدبلوماسي المتأزم برفض محمود عباس فكرة "الدولة اليهودية"، وحتى القصف المتبادل. ومن المتوقع ان تنتهي فترة مفاوضات البحث عن "الإطار" لحل الازمة في نهاية الشهر الجاري، مع امكانية التمديد، وهذه الزيارة تعطي الاسرائيليين زخماً سياسياً جديداً لفرض ارادتهم على الفلسطينيين.

ثالثاً: النووي الإيراني

تفيد مصادر صحفية بريطانية إن كاميرون سمع من الاسرائيليين عتباً ولوماً من التقارب الامريكي – الايراني، بل والتقارب الغربي – الايراني، بما يكسب الاخيرة امتيازاً جديداً في مشروعها الرامي لإيجاد توازن رعب نووي امام إسرائيل.

ويؤكد مراقبون على ان الدولة العبرية لن ترغب ابداً بامتلاك ايران للتكنولوجيا النووية، لا لعدم رغبتها بهذا الأمر تحديداً، إنما لعدم وصول ايران الى بر الأمان والاستقرار والتفكير بالتوسع على حساب المصالح الإسرائيلية في المنطقة، ويعتقد بعض المراقبين الى أن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على ايران والضغوط التي تمارسها على حلفائها الغربيين لتطويع إيران وليّ ذراعها، كان بالحقيقة صناعة اسرائيلية قدمها اللوبي الصهيوني في امريكا لصنّاع القرار في واشنطن، لذا جاء الانزعاج الاسرائيلي الشديد من نتائج اجتماع جنيف الاخير بين ايران ومجموعة ما يعرف بـ (5+1)، وتأتي هذه الزيارة لتكون فرصة اسرائيلية جديدة لتذكير بريطانيا والغرب بضرورة عدم ترك ايران وهي تواصل نشاطاتها النووية مستفيدة من عامل الوقت، ما يمكنها من لعب أدوار اكثر فاعلية وتأثير في المحيط الإقليمي، بحيث يجعل من الكيان الاسرائيلي، وجوداً لا فائدة منه في المنطقة، وأن المستقبل لايران وحدها.. هذا السيناريو المخيف تسعى الدولة العبرية إبعاده عنها بمعاضدة وتأييد بريطاني على وجه التحديد. 

من هنا نعرف ان الإسرائيليين ينظرون الى رئيس الوزراء البريطاني، والى السياسة البريطانية بشكل عام على انها الراعي التاريخي لأحلامهم وطموحاتهم في المنطقة، وأنهم جزء مهم من النهج البريطاني الثابت في التعامل مع دول الشرق الأوسط، متمثلاً في إدامة الصراعات والحروب والاضطرابات، بعناوين مختلفة، من انقلابات عسكرية، الى فتن طائفية، ثم حروب أهلية وصراعات سياسية، والدولة العبرية تمثل أحد أبرز هذه العناوين.

لنقرأ ما جاء في مقال رئيس تحرير صحيفة "مانشستر غارديان"، في الايام الاولى لوعد بلفور، حيث تطرق الى المصالح الإستراتيجية آنذاك، التي دعت لندن لأن تقدم ذلك الوعد، ثم تطرق الى المسألة القومية التي جاءت في الوعد، مؤكداً حقيقة الحرص البريطاني على زرع بذور الفتنة والصراع منذ تلك الايام، والإحياء بأن فلسطين لم تكن لتنتمي الى قومية واضحة، فهي لم تكن عربية..! يقول تشارلز سكوت: "ليس لفلسطين في الواقع وجود قومي او جغرافي مستقل إلا ما كان لها من تاريخ اليهود القديم الذي اختفى مع استقلالهم. ولذلك، فعندما اطلق عليها بلفور اسم وطن قومي لم يكن يعطي شيئاً يخص شعباً آخر. انها روح الماضي التي لم يستطع الفا عام ان يدفناها والتي يمكن ان يكون لها وجود فعلي من خلال اليهود فقط".

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 18/آذار/2014 - 15/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م