التشدد في إيران وتغييب صوت الاعتدال

 

شبكة النبأ: التشدد والتطرف في المنهج، مؤشر واضح لحالة لا استقرار وقلق من الحاضر، وخوف من المستقبل، تجعل صاحبها في وضع غير طبيعي ومتشنج ما دامت هذه الحالة المرضية قائمة. هذه الحالة كما تصدق على الافراد والجماعات، تصدق ايضاً على الدول. واذا كان تأثير التشدد والتطرف على الانسان الفرد او الجماعة، محدوداً بردود الفعل النفسية، فان عوارض الحالة على دولة بأكملها يكون ذا ابعاد واسعة ومدمرة في احيان كثيرة، نظراً الى ان الدولة تشمل تحت خيمتها ملايين البشر، فأي اهتزاز في هذه الخيمة، يترك اثره السريع على مجمل الحياة العامة.  

في بعض الدول التي تدّعي المحورية والمثالية بين الدول الاخرى، تسعى لأن تظهر وجهاً حسناً للتشدد والتطرف في الفكر والمنهج، وإبعاد الوجه السيئ والحقيقي، بدعوى أن اللين والتساهل من عوامل الضعف أمام القوى الاخرى، وهذا يكون من خلال الشعارات ذات الطابع الفكري والثقافي والحضاري، ليكون لهذا النهج مقبولية في الوجدان العام، على أنه من الضمانات للمستقبل والمصير، فيما تبعد الطابع السياسي المطلوب آنياً وملبياً للمصالح التكتيكية. ولعل ايران، تكون في طليعة الدول التي تتبنى هذا النهج من التفكير والتخطيط، حيث تعد نفسها في خط المواجهة بين دول المنطقة، وربما الدول الاسلامية جمعاء، أمام القوى الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة والمنظومة الغربية بشكل عام.

وقد لاحظ المراقبون والمهتمون بالشأن الايراني، ليس اليوم، وإنما منذ بداية تشكيل "الجمهورية الاسلامية" ان ثمة معادلة لنهج التشدد والتطرف استفادت منه طهران لتحقيق مصالحها في الداخل والخارج، وهي تشددها المفرط في الشأن الثقافي والفكري، وإخفاء مساوماتها وتنازلاتها في الشأن السياسي. على الصعيد الاول، تكسب الولاء المطلق لشعاراتها ومفاهيمها الخاصة، وعلى الصعيد الثاني، تكسب الولاء والتأييد لنظامها السياسي، وتضمن من خلاله الديمومة والبقاء وإبعاد هاجس التغيير او التهميش من القوى التي ترى انها تسعى لمخاصمتها وتحجيم قوتها ونفوذها.

فاذا كانت ايران قد نجحت الى حدٍ ما في الظهور كدولة ذات شأن على  الصعيد السياسي، حيث تنفق من قدراتها المالية وتستفيد من موقعها الجيوسياسي في المنطقة لتسجيل حضور فاعل ومؤثر في ملفات ساخنة مثل الملف السوري واللبناني والعراقي وغيره، فانها على  الصعيد الداخلي تتعرض لاهتزازات وتصدعات بسبب هذا النهج الذي تتوقع منه النتائج الجيدة والمرجوة، وهي الولاء المطلق والدائم للافكار والمفاهيم المطروحة، وأي صوت معارض أو منتقد، حتى وإن كان من منطلق الحرص على المصلحة العامة، فهو محارب وبشدة، لأنه – وحسب هذه المدرسة- يضر بالمصالح العليا، ليس لايران كنظام سياسي، وإنما بـ"الاسلام" بشكل عام..!.

هذه المدرسة اتخذت لها تلاميذ من شريحة اجتماعية واسعة يحملون تسميات متعددة، منها "انصار حزب الله"، وهؤلاء يتحركون بشكل منظم لكن دون أطر رسمية وقانونية، ويوجهون اساءاتهم وهجومهم على كل من ينطبق عليه مفهوم "المعارض"، في أي مواقع كان، حتى وإن كان في مرتبة مرجع الدين والفقيه العادل والمفكر الاسلامي.

وخلال التحقيق في حادثة الشغب الذي شهدته مدينة قم المقدسة العام الماضي، ضد رئيس مجلس الشورى الاسلامي، علي لاريجاني، حيث تعرض للهتافات المسيئة والرشق بالاحذية والحجارة، من قبل تلاميذ هذه المدرسة، بدعوى "شططه" في بعض المواقف، نستذكر حادثة الاساءة التي تعرض لها المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في السنوات الاخيرة من حياته، عندما داهم مجلسه عدد من هؤلاء، وهم يهتفون ضده بشكل متوتر ومتشنج، وسعوا لإنهاء الكلمة الثقافية – الدينية التي كان سماحته يلقيها على عدد غفير من الناس. مما يمكن القول معه أن نفس تلك الاحجار التي رشقها أولئك على الناس لينفضّوا من ذلك المجلس الثقافي – الفكري، عادت من جديد لتظهر بعد سنوات في اجتماع جماهيري آخر لكن بوجود شخصية رسمية عليا في الدولة. ولذا قيل "من شبّ على شيء شاب عليه".

والمثير حقاً أن يستنفر هذا الحادث مواقف علماء الدين والمسؤولين والاعلام والاوساط الثقافية والاجتماعية في ايران، وهم ينددون بهذا "العمل الفوضوي"، الذي وقع في إحدى الايوانات التابعة لحرم السيدة معصومة، بينما حادث الاعتداء على مجلس الامام الشيرازي الراحل، وفي مدينة قم ايضاً، يطويه النسيان، ولا نسمع لكلمة تنديد او استنكار او متابعة من الجهات الرسمية، رغم ان الحادث كان اعتداءً وتجاوزاً على الحريات والحرمات بامتياز. علماً أن كل المؤشرات دالة على أن تحرك أولئك الشباب يأتي بشكل منظم ومدروس ومعروف سلفاً من الجهات المعنية، ومن غير الممكن بتاتاً ان يفاجئ عدد صغير ممن يحملون تسمية "حزب الله"، المؤسسة الامنية والدوائر الرسمية والقائمين على حرم السيدة المعصومة، عليها السلام.

من هنا، نعرف إن التشدد والتطرف في ايران، يعد بالحقيقة سلاحاً بيد من لديه الحل والعقد، للحؤول دون انفراط عقد الولاء الجماهيري المطلق للقيادة والمفاهيم التي جاءت بها "الثورة الاسلامية"، ومنها مثلاً لا حصراً: "مقارعة الاستكبار"، والحديث دائماً عن ايران القوية والمقتدرة. لذا نجد احياناً شظايا هذا السلاح تجرح المؤسسة السياسية والدستورية في ايران، فيطال الهجوم والانتقاد اللاذع شخصيات مثل رئيس الجمهورية حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، وايضاً نواب و وزراء ومسؤولين آخرين، وهذا ما نلاحظه من وسائل الاعلام التابعة لهذه المدرسة، وفي مقدمتها الاذاعة والتلفزيون وعدد من الصحف والمجلات، حيث نسمع بتحذيرات وإرشادات من مغبة الانزلاق في المساومات والعلاقات مع الغرب..!.

ورغم وجود الاصوات الداعية للاعتدال والتعقّل في ايران، إلا انها في كل الاحوال تبقى دائماً الأقلية والصوت الضعيف، أمام أصوات التشدد والتطرف المدعومة من السلطة الاولى في البلد التي تعطي الشرعية، بشكل مباشر تارةً، وغير مباشر تارةً اخرى، لفئة من الشباب المشحون بالعواطف والمشاعر والمفرّغ تماماً من العقل والحكمة.

هذا الواقع الخطير الذي ربما لا يبرز على وسائل الاعلام، او ربما يتم حجبه او ابعاده عن موضوعات ايران في القنوات الفضائية ووسائل الاعلام المختلفة، يراه الخبراء والمتابعون للشأن الايراني بانه ربما ينعكس سلباً على سمعة ايران في الخارج، لاسيما في الدول الاسلامية ذات العلاقة الجيدة، والشعوب التي تجد في ايران عمقاً حضارياً وثقافياً لها، وترى فيها الجدار الذي تستقوي فيه خلال نضالها لتحقيق مطالبها ومشاريعها التغييرية والاصلاحية. إذ ان هذه الشعوب، كما سائر شعوب العالم، لا تنظر الى نهج التطرف والتشدد السائد في ايران، إنما تطمح الى الانفتاح والعيش المشترك والآمن والتقدم والنمو في الابعاد كافة، وهذا يستحيل اذا عرف العالم عنها بانها تحمل فكر التشدد والتطرف، وانها تحاول تصدير هذه الطريقة والنهج في التفكير والسلوك الى الخارج.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 17/آذار/2014 - 14/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م