شبكة النبأ: هناك ترابط وثيق بين
مفردة الانصاف، ومفردة الحقوق، فإذا ضعف الانصاف أو انتفى في شخصية
الانسان، فإنه سيكون مصدرا للتجاوز على حقوق الآخر، والعكس يصح تماما،
بمعنى عندما يتوافر الانصاف عند الانسان، سوف يتحكم بنفسه ويردعها عن
التجاوز على حق الغير، لذلك يعد الانصاف من أصعب الصفات التي يمكن أن
يتحلى بها الانسان، كونها تردع النفس وتجردها من اهوائها ورغباتها في
التجاوز على حقوق الناس.
إن ملاحظة حق الاخر، وعدم التجاوز عليه، يعد من المهام العصيبة في
عالم اليوم المادي البحت، فالعلاقات المختلفة، أصبحت قائمة على الربح
المادي، وهذا المنهج الشائع في عالم اليوم، يسقط من حسابات الناس قضية
الانصاف، بل قلما يتذكر الانسان، في عالم اليوم، أن هناك من يشاركه
ويتقاسم معه الحقوق المشتركة، لذلك على الجميع أن يدركوا حدودهم عند
التعامل مع الاخرين، وأن يتم كبح جماح الذات، والحد من الرغبة بالتفوق
على حساب الاخرين وحقوقهم، بعيدا عن الانصاف.
لذلك من لا ينصف الناس، سيكون مآله الفشل والعزلة، كما اثبتت
التجارب، سواءً على مستوى الافراد او الجماعات كالاحزاب السياسية
والحركات الاخرى ذات الاهداف المتنوعة، إن الفرد والحركة والمنظمة
والجماعة مطالبون بمعرفة حقوق الآخر، وانصاف الناس في كل خطوة يخطونها،
كذلك عليهم معرفة حدودهم، اذا كان النجاح هدفا لهم.
من أسباب السقوط
يسمو الانسان وتكبر مكانته عند المجتمع، حينما يراعي حقوق الآخرين،
ويحدث العكس للانسان الذي يتجاهل هذا الشرط، فمن شروط النجاح والتفوق
والتقدم الى امام، هو مراعاة حقوق الاخر، ومن سبل التعجيل بسقوط
الانسان الفرد والجماعة، عندما يتم التغاضي عن حقوق الاخر، والتجاوز
عليه من دون وجه قانوني او اخلاقي او تشريعي او عرفي، ففي جميع الاحوال
ليس هناك مبرر ولا مسوّغ يسمح بالتجاوز على حقوق الاخر، أما اذا حدث
التجاوز، فإنه يمثل بداية السقوط الحتمي، للحركة او الحزب او الجماعة
أو الفرد الواحد.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي
(رحمه الله)، في كتابه الموسوم بـ (ثقافة التحرير) في هذا المجال: (إنّ
من أهم ما يسقط الحركات عدم مراعاتهم للحقوق وعدم ملاحظتهم حدود أنفسهم
وحدود غيرهم، فكم هو حدّ نفسه؟. وكم هو حدّ سائر الناس؟. ولذا نرى
كثيرا من الناس. إلاّ من عصمه الله سبحانه.لا يلاحظ حق الآخرين، بل
يزعم أن الكلّ حقه وكل المجالات مجاله، وبذلك يلفظهم المجتمع).
وهكذا فإن السقوط سيكون من نصيب الانسان الذي يمتنع عن حالات
التجاوز على غيره، والسبب غياب الانصاف في فكر الانسان وسلوكه، إذ
غالبا ما يدفعه الجشع وحب التملّك الى عدم انصاف الاخرين، مبررا هذا
السلوك بألف طريقة وطريقة، فيحاول بشتى السبل والتبريرات، أن يقنع نفسه
والآخرين بأنه عندما يتجاوز على الاخر ولا ينصفه، إنما يقوم بالاجراء
الصحيح، ولكن عندما يتوغل الانسان في اعماق ذاته، ليستكشف قناعته، فإنه
نفسه سيعرف تجاوزه على حق الغير، ولكنه لا يمتلك شجاعة الانصاف
والعدالة، فيستحوذ على كل شيء بكل الطرق والوسائل.
من هنا يقول الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه: (لقد ورد أنّ
من أشد الأشياء - إنصاف الناس من نفسك- فلك النصف ولغيرك النصف، ولا
يراد النصف الهندسي بل النصف العرفي العدلي). من هنا فإن الانصاف يعد
من أصعب الاهداف الاخلاقية والدينية التي يجب أن يلتزم بها الانسان
تجاه الآخرين، واذا فشل في ذلك، أي اذا فشل الانسان في انصاف الغير،
فإنه سوف يتحول الى شخص يتجاوز على حقوق الاخرين بألف طريقة وطريقة،
تدفعه نفسه الى ذلك لانه غير قادر على ردعها وكبح اهوائها ورغباتها.
من هنا يؤكد الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه قائلا في هذا
المجال: (نعم لا شك أنّ الإنصاف يوجد في قليل من الناس فهو من قبيل
المثال المشهور: بأوراد قليلة لا يحصل الربيع).
التنظيم والمنافسة الحرة
لا يقتصر الانصاف على مجال دون غيره، إنه يجب أن يتوافر في جميع
انشطة الانسان، وينبغي أن يقوم على التنظيم، في الاجتماع والسياسة
والتعليم والصحة والتجارة وسواها، لأننا لكي نحقق نوعا جيدا من
التعاون، لابد أن نعتمد الانصاف كونه يمثل الدليل والمعيار الصحيح
لنجاح الفرد والمجتمع، إن العلاقات الاجتماعية المتشابكة تتطلب قاسما
مشتركا يجمع بينها، ويحقق لها التوازن والانسجام، ذلك القاسم المشترك
هو الانصاف، وهو العلاج الذي يقضي على كل ما يتعرض له الناس من انتهاك،
فعندما ينصف الناس بعضهم بعضا، لن تبقى هناك مشكلات تتعلق بالحقوق!.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب في كتابه نفسه: (لابد من تنظيم
الاجتماع بحيث تكون المنافسة حرة، حتى لا يتمكن أحدهم من الخروج عن
حدوده فيطلب أكثر من حقوقه) كما هو الحال في الدول المتطورة.
إن الانصاف لا يلغي شرط المنافسة السليمة، بل يدعمها، ويشجع الانصاف
على التقارب وزيادة الاواصر التي تجمع بين مختلف اوساط المجتمع، كذلك
لا يعني الانصاف المساواة بين الناجح وخلافه، ولا يمكن غمط حقوق
المتفوقين بحجة الانصاف، فالجهد والذكاء والنشاط الامثل والمتميز، له
ما يستحق من ثناء وتحفيز وتشجيع ومؤازرة، لأن الوقوف الى جانب الشخص
المثابر أو الجماعة المتميزة، هو انصاف بحد ذاته، كما ان تنبيه وتوبيخ
ومعاقبة من يستخف بعمله نوع من الانصاف ايضا، فلا يجوز المساواة بين
الانسان المجدّ والخامل بذريعة توافر الانصاف، لأن الانصاف يلزم الجميع
بأهمية احترام الموهبة والجهد العملي او الفكري المتميز، كذلك لا يمكن
لنا ان نساوي بين (المتقاعس) والانسان العملي المنتج، فالانصاف يؤكد
على حفظ الحقوق وليس اهدارها. |