التوازن والاختلال

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: لكل حالة في الانسان، الحيوان، الحياة، نقيضها، كل حالة طبيعية هي تحقيق كامل للانسجام.. لا يتحقق هذا الانسجام الا من خلال التوازن، الذي قد ينقلب الى حالة اخرى، هي على النقيض منه، وهي الاختلال.

في عصرنا هذا الذي نعيشه، هناك عدد من الاختلالات، فعلى مستوى البيئة، اختلال في التوازن بين مكوناتها، وعلى مستوى الانسان، اختلال في التفكير والسلوك، وعلى مستوى العلاقات بين الدول، اختلالات في المصالح والنفوذ.. الاختلال هو فقدان للتوازن في لحظة معينة، تفرضها عدة امور ووقائع، تطيح بالانسجام الذي يربط بينها.

ماهو التوازن؟

انه الاعتدال، والتعادل، وهو إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص، وهو ينشأ عن معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه، ومعرفة حدودها وغاياتها ومنافعها.

يعني التوازن في مفهومه، الحالة المستقرة، وهذه الحالة ليست بالضرورة مثالية دائماً، ولكنها توحي بالاستقرار وعدم التوتر. وتستخدم جميع العلوم مصطلح التوازن، رمزاً للحالة المعتادة المستقرة، فيستعمل علم النفس مصطلح التوازن النفسي للتعبير عن الحالة العادية للإنسان العادي، ويستخدم علم الاجتماع مصطلح التوازن الاجتماعي لوصف المجتمع الخالي من التوترات، ويكثر علم الاقتصاد من استخدام التوازن لوصف الأوضاع المقبولة، فيقول التوازن بين العرض والطلب، والتوازن في التنمية، والتوازن بين الصادرات والواردات، والتوازن التجاري... إلخ.

تتقارب مع التوازن الفاظ اخرى مثل: الوسطية  - الاقتصاد أو القصد – الاعتدال - التسديد.

ويستخدم علم السياسة أيضاً مصطلح التوازن للإشارة إلى الحالة المستقرة على أسس عقلانية، فيقول النظام قائم على توازن السلطات، كإشارة إلى نظام لا يخضع لهيمنة سلطة واحدة، كما يستخدم مصطلح قوى سياسية متوازنة. إن التوازن في المعنى العام يشير إلى الحالة المستقرة التي لا تسيطر عليها قوى التطرف.

فقدان التوازن وتحوله الى النقيض وهو الاختلال في السياسة، يمكن ايراد الحالة الاوكرانية كمثل عليه.. منذ توقف الحرب العالمية الثانية، عاش العالم في ظل حرب باردة، الا انها لم تصل بالعلاقات بين المعسكرين الى حالة فقدان التوازن.. بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وظهور جمهورياته المتعددة، مع بروز قوة عالمية واحدة، مثلت القطب الاوحد، وهي الولايات المتحدة الامريكية، حدث الفقدان للتوازن، واصبحنا نعيش مرحلة الاختلال، والتي قوامها رفض الهيمنة المطلقة من قوة واحدة على المصائر، مصائر الدول والبشر.

افضل مثل لمحاولة فرض الهيمنة ومحاولات كسرها والاعتراض والاحتجاج عليها، هي العولمة، وماتبشر به من هيمنة نسق ثقافي واحد يلغي اي ثقافة اخرى..ما بشرت به العولمة، كان سلاحه الابرز في محاولات الهيمنة هو الاعلام الذي يتدفق رأسيا من الدول المتقدمة، متجها الى الاسفل للدول الأقل تطوراً والدول النامية.

يحذر وزير الثقافة السابق في المجموعة الأوروبية (كارلو ريبادي مينا) من هذا التدفق و(ما تتعرض له الثقافات الأوروبية من خطر التهميش في عالم توحده، ثقافياً، الصور والوسائل - الدعائية – الأمريكية).

الإعلام في عصر العولمة، أو كما يسميه البعض قولبة الوعي والسلوك ـ تشكل من نمطين رئيسيين الأول: (الإعلام الخبري ويتمثل في التلفزة والنشرات الإخبارية والحوارات والتحليلات والأفلام الوثائقية)...إلخ. والنمط الثاني (الإعلام التجاري) وهو الذي يجسد رؤى العولمة في الفكر والسلوك ومنظومة القيم بعمومها، وهذا الإعلام  بقسميه ـ كما يقول محمد عابد الجابري. هو (عولمي) بمعنى أنّه يهدف إلى فرض مضمون معين ذي طبيعة عدوانية - لأنه يقوم على( قولبة) الفكر والرؤية والذوق والوجدان - تحدده جهة معينة هي  الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية.

ماهو الاختلال؟

انه الخلل وَالفَسَاد ، وفقدان الرشد، والاضطراب.

ومنه (إختلال الأنية) ويُسمَّى أيضًا (فقدان الشخصية)، أو (فقدان الشعور بالشخصية)، أو (هُذاء تغيُّر الشخصية)، وهو اضطراب يحسُّ فيه الشخصُ بأنه منفصِل عن نفْسه، وبأنَّه شخْص غير حقيقي، أو غريب، أو غير مألوف لنفْسه، أو أنه تغيَّر، وأنَّ أحاسيسَه وأفكاره ورغباتِه غريبةٌ عنه.

ويحدث كعرض فى مرض الإكتئاب ، وفى حالات الوسواس القهرى .. ومع القلق الشديد .. وفى حالات الإجهاد الشديد .. ومع الضغوط النفسية الشديدة حين تحاصر المشاكل الإنسان من كل جانب ولا يملك لها حلاً .. ومنه ايضا، الاختلال الوظيفي في العائلة، و يعني أن واحدا أو أكثر من أفراد العائلة قد أخذ واجبات أو دور فرد آخر أكثر سلطة منه، إمّا بحكم الظروف الصعبة، أو رغبة في التــشبه بالأكثر سلطة وهيبة..أو بسبب غياب أو تخلِّي صاحب الدور الأساسي طوعا عن دوره .

بالعودة الى الحالة الاوكرانية هل هي خلل جديد في التوازنات الدولية؟.

انها ايذان بعودة الحرب الباردة، بين روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي المفكك، وبين امريكا وحلفائها الاوربيين، الذين ازداد عدد معسكرهم بعد انضمام الكثير من دول الاتحاد السابق الى اتحادهم.

فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي يضع نفسه في مواجهة مع الغرب باحتلاله القرم والانضمام الى الاتحاد الروسي مع كل الحقوق التي تتمتع بها دول الاتحاد الروسي.

ويبدو أن بوتين دخل مواجهة مباشرة مع الغرب لا يستطيع أحد أن يحسب عواقبها ومخاطرها المتزايدة، وذلك بعد النداء الذي وجهه اقليم القرم مطالبًا بالانضمام الى روسيا.

 ماهي اسباب الموقف الروسي؟

انه الاختلال الذي اصاب العالم نتيجة عدد معين من الاحداث، الذي يعتقد بوتين ان الغرب قد مارس الخديعة فيها ضده. كان ذلك واضحا في الحالة الليبية عام 2011، عندما اقنع الغربيون موسكو بالامتناع عن عرقلة قرار لمجلس الأمن ينص على تأسيس منطقة حظر للطيران (من اجل حماية المدنيين الليبيين).

ولكن الحملة العسكرية التي نفذها حلف الاطلسي في ذلك الاطار ادت الى الاطاحة بالحكومة الليبية وقتل العقيد معمر القذافي، وهو امر لم تكن موسكو لتوافق عليه.

ويشعر الرئيس بوتين بأن الغرب قد خدعه فيما يخص الموقف في أوكرانيا ايضا. فقد ارسل قبل الازمة الاخيرة مبعوثا خاصا الى العاصمة الأوكرانية كييف للمشاركة في مفاوضات بين الرئيس المنتخب فيكتور يانوكوفيتش والمعارضة الاوكرانية. وادت هذه المفاوضات الى التوقيع على اتفاق بين الطرفين - بضمان وزراء خارجية المانيا وفرنسا وبولندا - باجراء انتخابات مؤقتة واصلاحات دستورية وتشكيل حكومة وحدة وطنية.

وقبلت موسكو بذلك الاتفاق بوصفه يوفر افضل حل لموقف سيء للغاية. ولكن، وفي غضون اقل من 24 ساعة، نقض المعارضون الاتفاق واطاحوا بالرئيس يانوكوفيتش وعينوا رئيسا جديدا من صفوفهم. وفوجئت موسكو تماما بسير الاحداث.

ولا تغيب عن ذاكرة الرئيس الروسي احداث ما يطلق عليها (الثورة الوردية) التي وقعت في جورجيا في عام 2003 ولا (الثورة البرتقالية) في كييف في 2004، وتقول روسيا إن الغرب هو الذي دبر هاتين (الثورتين).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 10/آذار/2014 - 7/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م