ثقافة الاختلاف ووحدة المصير

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: اختلاف الرؤى يكون وسيلة بناء حضاري للشعوب والأمم، عندما يكون ضمن ثوابت وأصول محددة، فمهما كانت صدقية الاجتهادات والرؤى، فانها لن تكون منتجة وبناءة لوحدها، لذا جاءت التأكيدات من النصوص الدينية على محورية العقيدة والدين، على أنها القاعدة الرصينة التي من شأنها تقويم حالة الاختلاف وتوجيهها الوجهة الصحيحة التي تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم.

ولعل هذا التميّز في النهج هو الذي أبقى على حيوية المدرسة الفقهية والفكرية للتشيع بين سائر المذاهب، فهنالك مساحات واسعة للاجتهاد والرأي في جميع شؤون الحياة، بما يضمن مواكبة التطور الحاصل في قدرات الانسان المادية والمعنوية، كما تنافس المدارس الاخرى في تقديم الأفضل للانسان والحياة، بل وتقف بثقة عالية وقوة لا تلين امام أي تحدي خارجي يسعى لضرب كيان الأمة بشكل عام.

وامامنا أمثلة عديدة في هذا المجال، ابرزها من سيرة حياة المرجع الاعلى في زمانه السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي – قدس سره- الذي اتخذ مواقف مشرفة وتاريخية تؤكد حرصه على المصير الواحد وتغليب المصلحة العامة للمسلمين، منها رفضه القاطع لمحاولات المبعوث البريطاني الى سامراء التدخل في مسألة نزاع طائفي، وعرض عليه الحماية البريطانية، فكان جوابه: "ان القضية تتعلق بالمسلمين، ولا دخل لكم بذلك..".

بيد ان المشكلة تبدأ عندما يتصور البعض، ان انقضاء عهد المعارضة، حيث تتضافر القوى والرؤى والطاقات لمواجهة الطاغية الحاكم والسعي الجماعي لإسقاط الديكتاتورية، من شأنه ان يفتح المجال للتفرّد والاستئثار بالساحة، ففي مرحلة البناء والإعمار السياسي والاقتصادي، وتأسيس الدولة من جديد، نشهد ظهور النزعة الفردية والتعصب للفكر والانتماء الاثني بحثاً عن المصالح والمكاسب من هذا البناء الجديد. طبعاً؛ هذه ظاهرة نلحظها في معظم البلاد التي تشهد انقلابات وتحولات سياسية جذرية، كأن يكون التحول من الملكية الى جمهورية، أو من الديكتاتورية الى الديمقراطية.

ولعل ابرز مصاديق هذه الحالة، ما نشهده في العراق الديمقراطي، حيث كانت القوى الاسلامية المعارضة – تحديداً- في زمن المعارضة، ترى انها في خندق واحد ومصير واحد، لانها امام عدو واحد، وهو الديكتاتورية وشخص صدام، وما أن تمت الاطاحة به، حتى ظهر "للانتصار ألف أب" كما يُقال، بينما الهزيمة دائماً يتيمة ووحيدة.. ففد ظهرت تيارات وجماعات تدّعي انها الأصل والمحور في عملية البناء الجديد، فشرعت في انتقاد الآخرين وتوجيه الاتهامات لهم، وفي وقت لاحق، شهدنا حالة التخوين والتشنيع والإقصاء.

أولى تداعيات هذه الحالة –كما يبدو- ضياع الهدف والغاية الاساس من مسيرة العملية السياسية.. هل هي في طريق التنمية الاقتصادية ورفع المستوى المعيشي، ثم وضع العراق في مراقي التقدم الصناعي والزراعي؟ وهل هي في طريق تعميق الوعي والثقافة المجتمعية بكل ما يتعلق بالوضع الجديد، بالأمن والخدمات، وحتى القضايا الانسانية، من وضع الطفل والمرأة والشباب وغيرها ذلك؟

نحن نلاحظ الشعارات والدعوات من هذا وذاك، لتحشيد الشارع العام لدعم الدولة المتضمنة للقوى السياسية المتنافسة والمتصارعة على السلطة، في مواجهة التحديات الأمنية في الوقت الحاضر – على الاقل- لكن عندما يشهد الناس عدم وجود ضير لدى هذا التيار او ذاك المكون السياسي من تعدد "المصائر" ولكل تحالفاته ومصالحه وتوجهه الفكري والثقافي. فما الذي يدفعه ويشجعه على إتعاب نفسه والتضامن مع تلكم الدعوات..؟

ومن هنا تحديداً يبدأ الاختراق ويتجلّى التحدي الثقافي والحضاري الذي يفوق في خطورته التحدي الأمني الذي يخشاه مسؤولو الدولة العراقية حالياً. وطالما صدرت تحذيرات من مفكرين وعلماء من مغبة التمادي في أمر الاختلاف الى حد تضييع المصير الواحد. ولعل خير من أكد على ضرورة رص الصفوف وتحشيد الطاقات وبناء السور العالي امام التحديات الخارجية، هو المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- من خلال ما سطره يراعه، وما أجاد به من احاديث عديدة، وفي احدى مؤلفاته التي استشرف فيها مستقبل العراق، وأكد فيها على ضرورة اتباع نهج التعددية الحزبية – وهذا طبعاً قبل ان يشهد الجميع التجربة الديمقراطية بفضل الإطاحة بنظام صدام- وأنها " ضمان لجمع الكلمة وتوحيد الأمة، فإن التعددية توجب أن يأخذ الكل بحقه كماً وكيفاً، وعند ذلك يتم التنسيق ووحدة الصف، أما لو كان هناك ظالم ومظلوم، وزمرة حاكمة لا تسمح للآخرين حتى بالتعبير عن آرائها، فإنه لا يكون جمع الكلمة".

وهذا يشعل الأمل امامنا بوجود امكانية للوصول الى الخندق الواحد والمصير المشترك، عندما يعطي كلٌ منّا الحق للآخر بالوجود والرأي والتعبير ضمن المصلحة العامة للوطن والأمة، فالجميع يفكر بالجميع. وقد شبّه أحد المفكرين الاسلاميين حال بعض "المتخندقين" سياسياً او فكرياً، بانهم يرون الحياة مثل ساحة كرة قدم، إما الخسارة لهذا أو ذاك، بينما – يقول- الحياة التي خلقها الله تعالى بعدله ومساواته، تسع الجميع، وبإمكان الجميع ان ينجح، وهنالك مثل اجنبي يقول: "ون ، ون"، بمعنى واحد مقابل واحد، فالربح والمكسب كما يكون لك، ربما يكون لغيرك في آن..

وفي هذه الحالة سيعرف الناس جميعاً انهم في خط مواجهة واحدة، وفي خندق واحد، فاذا كان الأمر الصالح والمكسب والفائدة ستكون للجميع، وايضاً الخسارة تتوزع عليهم، فمن الطبيعي والبديهي جداً، أن يفكروا ويعملوا بجد وتفاعل مع التيارات والجماعات وحتى الرموز المتصدّية للمشروع الثقافي والإصلاحي، لكسب المزيد من المكاسب والتطور والنمو، والحذر من أي اختراق يؤدي – لا سمح الله- الى خسارة او تراجع في الاصعدة كافة، سواء الثقافي او العقائدي او الامني او الاقتصادي، وفي كل شؤون الحياة.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 8/آذار/2014 - 5/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م