نحن نعلم أن هناك حروب كونية تجري
للسيطرة على المستقبل وليس لنا (نحن العرب/المغاربة) أي دور في هذه
الحروب، لذلك ليس بالغريب أن يستعمر مستقبلنا كما استعمر حاضرنا..
(الياس بلكا)
"اليوم، وفي مواجهة الأزمة البيئية
العالمية، يوجد العالم في حاجة مرة أخرى للشجاعة. شجاعة التفكير بشكل
مختلف، شجاعة التخلي عن بعض الأشياء من أجل كسب أخرى أقل مادية، شجاعة
السير نحو الآخرين، شجاعة الاعتراف بأخطائنا، شجاعة رفض الظلم في هذا
العالم، شجاعة مواجهة المنطق الذي يسير بنا نحو الهاوية".(يان أرتيس
برطران)..
يبدو أن حكومة بنكيران وبعد ما يقارب السنتين على "تدبيرها" للشأن
العام لم تعي بعد خطورة الاستمرار في الاشتغال – فيما يتعلق بالتعليم -
من داخل العقيدة العميقة للدولة التي جعلت ومنذ مدة ليست بالقصيرة من
المدرسة أداة مباشرة لتكوين المحاربين/العبيدguerriers/esclaves (تقنيون،
مهندسون، خبراء) ممن يحتاجهم القراصنة الجدد (سادة الشركات الصناعية/المالية/التجارية/البنكية
الدولية الكبرى) في زحفهم على الأرزاق والأعناق، بما فيها أرزاق وأعناق
الدول المكونة للمحاربين/العبيد ذاتها..
أنا من الذين يتصورون أنه لايمكن إصلاح أي شيء بمدارسنا/كلياتنا ما
لم نغير جذريا من هذه العقيدة وندفع تعليمنا نحو أهداف جديدة، أهداف
تكون في خدمة الجماعة المغربية، بل والجماعة الإنسانية برمتها..
يجب صنع مدرسة قادرة على صنع أجيال قادرة على صنع مغرب/عالم أخر..
إن ما يلزم تعليمنا ليس فقط الخطط التقنية "الثورية" ولا حتى الموارد
المالية الهائلة (من نوع ل 43 مليار درهم التي خصصت للميثاق وللمخطط
والتي نهب أغلبها وفي واضحة النهار من فضلكم !!!).. البيداغوجيا والمال
لايصنعان لوحدهما مدرسة.. نحن بحاجة أولا وقبل أي شيء لرؤية واعية
بتعقد رهانات/أخطار المغرب والعالم.. بالثمن الفادح الذي نؤديه عن
استمرار التخلف بيننا وفينا.. بالكارثة غير المسبوقة التي تنتظرنا إذا
لم نطلق اليوم قبل غد الإصلاحات الملحة.. إن أحد أكبر أعطابنا هو هذا
الهوس المرضي بمدرسة السوق.. يجب الخروج نهائيا من عبادة السوق، وربط
المدرسة الى أهداف أكبر.. ماذا جنت الدولة من عشقها الملغوم لدور
الموظفة لدى الرأسمال الدولي/المحلي المتوحش؟ مزيد من التبعية والذيلية
والمراتب "الصومالية" في تقارير التنمية البشرية العالمية.. ربط
المدرسة بالتنمية شيء مهم.. لكن يجب إخراج التنمية نحو أفاق أخرى..
مهمة المدرسة كما أتصورها هي مساعدتنا على فهم قدرنا وتغييره.. علينا
أن نحول المدرسة الى أداة حرب على بداهاتنا التي تعمينا عن رؤية الحائط
الذي يقترب كل يوم أكثر منا.. علينا أن نمنح المدرسة وفورا هذه المهمة
التاريخية الجديدة: العمل على الخروج من دورة التخلف التاريخي نحو دورة
المشاركة في صنع التقدم والحداثة والعدالة والحرية والأخوة (والملفات
التي تنتظر هنا بلا نهاية وهي تبدأ من ملفات الفقر والتصدعات
الاجتماعية والأمراض النفسية والفراغات الوجودية و"تنتهي" بملفات إنتاج
الطاقة الخضراء والرفع من جودة التغذية والمياه ودعم الزراعة
البيولوجية وصيانة البيئة، مرورا بقضايا التحضر والفعل الديموقراطي
والتعاطف مع الأخر عوض التخصص الغبي في ملفات (الاتصالات، صناعة
السيارات، تركيب التليفونات..) لا تخدم في النهاية سوى الأوليغارشيات
الدولية الكبرى وأذيالها المحلية)..
إن ما ينقص تعليمنا هي قضية كبرى. أما إطلاق نظرية سوق الشغل ثم
تحويلها - بفضل تقنية الدوباج/النفخ الشامل- الى قضية "تاريخية" "ثورية"
خدمة كما سبق لرغبات رأسمال دولي/محلي لاتهمه لا حياتنا ولا موتنا، قلت
ان اطلاق يد السوق هكذا ينم عن جهل فادح بحاجياتنا التاريخية.. لقد فشل
الميثاق الوطني وبعده المخطط الاستعجالي، في العمق، لأنهما لم يحملا
قضية تهزنا، تحيينا، تفيقنا من أوهام الانتظارية، والاتكالية، والقدرية،
والتسولية، والذيلية التي تمنعنا من إطلاق طاقاتنا وقدراتنا على تغيير
قدرنا..
إن أخطر ما في مدرسة "التعليم النافع" (أو مدرسة السوق) أنها تكون
خبراء/مهندسين/تقنيين بدور واحد: تنفيذ رغبات السادة في الرفع من
المردودية والانتاجية.. المشكل الأول هنا أنه لايمكن تحقيق المردودية
القصوى إلا بتدمير التوازنات البيئية.. المشكل الثاني أنه لايمكن تحقيق
الأرباح الكبرى دون سحق المنافسين على الطرائد (موارد، زبناء، أسواق..)..
هي إذن مدرسة لابيئية (تدفع نحوتخريب الأرض) ولا انسانية (تدفع نحو
تخريب العلاقات الإنسانية).. يجب للتو تغيير نظام تعليمي ينتج خريجين
لايترددون في نسف الأرض وبعضهم البعض إرضاء السادة.. علينا بأهداف
تربوية/سياسية/وجودية جديدة.. إن المدرسة التي أتطلع إليها يجب أن
تنتبه الى حاجاتنا نحن، لا الى حاجات العصابات الرأسمالية.. يجب أن نفك
ارتباطنا بكل هؤلاء الذين يخربوننا.. يجب فعلا أن ننتج لكن ليس على
حساب الأرض.. يجب فعلا أن ننتج لكن ليس بإطلاق حرب الكل على الكل
والكذب واحتراف تبديل الأقنعة.. باختصار، يجب أن ننتج دون أن نأزم شروط
وجودنا، دون أن ندفع في اتجاه اختفائنا..
على مدرسة المستقبل أن تدبر إذن قضيتين فائقتي الأهمية لبقائنا:
أولا، قضية التدمير الفادح لأنساقنا الحية (أراضي فلاحية، أنهار..) وما
ينتجه من مخلفات خطيرة على الصحة الجسدية والنفسية/الوجودية، الأن
ومستقبلا، وثانيا قضية التدمير المنظم لعلاقاتنا ومشاعرنا تجاه بعضنا
البعض باسم التنافسية والمردودية وكل تلك المفاهيم العلمية/الحربية
للرأسمالية المنتصرة..
تفترض القضية الأولى وضع المسألة البيئية بقوة في قلب التعلمات
المدرسية.. من المؤسف جدا ملاحظة كيف أن تدريس المواد (العلمية،
الأدبية، التجريبية...) مفصول بقوة عن الرهانات البيئية.. على السياسات
والبرامج التعليمية أن تمنح التلميذ المغربي أدوات بناء علاقة تعاطفية
أخوية بالطبيعة تضمن حمايتها من التخريبات المتنامية.. إن الأرض هي
أمنا الأولى.. ومن يبصق على الأرض هو كمن يبصق في وجه أمه.. وتفترض
القضية الثانية تربية أولادنا على الأهداف/المشاريع التعاطفية.. يجب
هنا وبقوة تدريس المبادئ المضادة للنزوعات التوحشية، من خلال إطلاق نقد
عام وشامل ل "سلطة/ديانة المال".. اللهث وراء المال يفرقنا. يخرب
عواطفنا نحو بعضنا البعض.. يجب اللهث وراء ما يجمعنا: الاقتسام،
التضامن، الزهد، القناعة السعيدة..
يصعب جدا إطلاق الإصلاحات المعروضة أعلاه دون التوجه نحو ثلاثة
أشياء هامة جدا: المعتقدات العميقة للطلبة، الهندسة التربوية، وأخيرا
جودة المحتويات المبرمجة..
يصعب تفعيل أية إصلاحات تربوية دون القيام بإصلاحات جذرية في البنى
الذهنية لتلامذتنا. إن من أكبر أعطاب سياساتنا التعليمية برمجة
التدريسات وترك الذهنية الاجتماعية المتخلفة والاتكالية والخرافية
واللامبالية لأغلب الطلبة على حالها.. نحن نعلم أن المدرسة لايمكنها أن
تعطي وتنتج إلا في المواجهة مع ذهنية حتى لا أقول "ديانة" "زبنائها"..
أكثر طلابنا أميون، بثقافة/ديانة اجتماعية/سياسية سطحية، خرافية،
توكلية، قدرية، أخطر ما فيها أنها متيقنة من ذاتها. تتفادى المدرسة
مسائلة أفكار/بداهات مجتمعها في شخص ممثلي المجتمع داخل المدرسة تحت
ذريعة أن ذلك ليس هو دورها.. المطلوب مدرسة شجاعة أكثر.. إن الهدف من
نقد الفلسفة العفوية للطلبة هو جعلهم يفهمون الأمية التي تكبح تقدمهم،
تقدمنا. يصعب جدا تغيير المغرب/العالم بطلبة غير واعيين بحدة المخاطر
التي تترصد بنا.. وهذا الرهان - تحويل الذهنية الفاسدة للطلبة (هل من
معنى لمهندس في علوم الجيولوجيا بلا موقف نحو التدميرات المنظمة
لأنساقنا البيئية؟؟؟) - يبقى في تصوري أهم الرهانات وأقواها على
الإطلاق في أي إصلاح تربوي..
ثانيا، إن برمجة المدرسة المغربية لتعلمات مقطعة، مجزأة، مفصولة عن
بعضها البعض، تعطي في أخر المطاف متعلمين لاحول لهم أمام المشكلات
الكبرى لعصرنا التي تتطلب كما هو معروف مقاربات عابرة للمعارف، متكاملة،
متفاعلة، تشاركية.. إن فصل التدريسات عن بعضها من مثل فصل التدريسات
العلمية التي تهتم بمنطق الكائن الحي عن المباحث الثقافية التي تهتم
بالإنسان يعطي متخصصين علميين جاهلين بقضايا الإنسان، والفقر،
والتصدعات النفسية، والتفاوتات الرهيبة بين البشر، ومتخصصين ثقافيين
بلا أدوات تقنية/علمية (بيولوجية، كميائية، رياضية،...) لفهم/تحويل
أعطابنا السياسية والوجودية.. وهذا خطير وخطير جدا.. كيف يمكن لنا
تغيير قدرنا وإصلاحه والمسؤولون الافتراضيون عن إنقاذنا الذين هم مالكو
الرأسمال العلمي/الثقافي لايجلسون الى بعضهم، متفرقون في الأرض،
لامبالون/حاقدون على فكرة الإنصات والتعلم الجماعي والمشاركة و..؟
ثالثا، إن برمجة تعلمات متحكم فيها، محدودة وفي الغالب ركيكة ومفككة
تعطي في أخر المطاف خريجين ضعيفي الكفايات والثقة في الذات ومستعدين
بالتالي للقبول بأية عروض (تشغيلية) مهما كانت مجحفة واستعبادية.. يهم
المدرسة الرأسمالية بقوة ألا تتسرب عناصر علمية ومعرفية "ثورية" قد
تجعل المتخرج في وضع الخبير الفاهم والناقد والفاحص والمقترح والمحتج..
يهم المدرسة الرأسمالية أن تصنع روبوهات تنفيذ، أي أدوات غير قابلة
للإزعاج.. تضمن الرأسمالية المتوحشة بهذه "التقنية" الحصول على
حاجياتها من المحاربين/العبيد بأقل الأخطار.. وهذه استراتيجيا شديدة
الخطورة على الأجيال التي نحن بصدد صناعتها، ليست فقط لأنها توهم
المتخرج بأن العلم الذي تلقاه هو العلم الصحيح الشامل الكلي نفسه، ولكن
أيضا لأنها تصنع - على مستوى أوسع - بشرا محدودي الأفق، يشكلون خطرا
على أنفسهم وعوائلهم وعلى مجموع البشرية..
في النهاية، إن ما يجب أن تحققه التربية ليس فقط حاجات مادية نفعية
فورية ولكن أيضا، وأساسا، حاجات من نوع آخر، حاجات لامادية، معرفية
وأخلاقية وروحية ووجودية وعاطفية. يتعلق الأمر بالحاجة إلى الحب
والتضامن والسعادة والكرامة والقيادة المشتركة/التعاطفية للعالم. وهذه
حاجات ليست مرتبطة بالواقع والحاضر ولكن بيوطوبيا تخترق الواقع والحاضر
واليومي والنفعي.. إنها إذن حاجات مضادة لفكرة قدرية الواقع وأولوية
الفوري. للأسف تتجه المدرسة أكثر فأكثر وتحت ضغط إرهاب التعليم
"النافع" و"الفعال" إلى اختزال التربية في دائرة الحاجات الواقعية
والمادية، وهذه الأخيرة في دائرة الإنتاج، والإنتاج في دائرة المردودية
والفعالية، والفعالية في دائرة التنافسية، وهذه الأخيرة في دائرة
الصراع من أجل البقاء على قيد الحياة، كما يقول عن حق عزيز لزرق في
كتابه "ممكنات إصلاح التعليم" (منشورات "اختلاف"، الرباط، المغرب،
2001). تنتظرنا ثورة على كل الخيارات المتداولة.. إما أن تكون المدرسة
أجيالا بوعي قوي بقضايا المغرب/العالم، أو الجحيم.. والجحيم هم هؤلاء
التافهون الذي "نعلمهم" قبل أن نمنحهم مفاتيح إدارة حيواتنا، في أخطر
مقامرة بوجودنا..
mounirelhajjouji@gmail.com |