عالم الدين عندما يتدخّل بالسياسة

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: يعود الحديث مرة أخرى في العراق، عن دور علماء الدين في الحياة السياسية أو ما يُسمى بـ "التدخل في السياسة"، وعن حجم هذا الدور وماهيته، لاسيما في ظل الأوضاع الحرجة التي يمر بها العراق، فما يزال يعاني بلاد الرافدين من فراغات في بناءه السياسي وارتباك في عمل المؤسسات الدستورية وتعثر في سن القوانين المهمة والأساسية في البلد.

والحديث هذه المرة كان له مصداق على أرض الواقع تمثل في قرار السيد مقتدي الصدر زعيم "التيار الصدري" اعتزال السياسة ونفي أي علاقة له بالحياة السياسية، بما فيها الكتلة النيابية الكبيرة في البرلمان وثلاثة وزراء في الحكومة ومحافظين ومدراء عامين وعدد كبير من المسؤولين والمتنفذين في أجهزة الدولة. وهو ما دفع البعض في الوسط الاعلامي والسياسي، لانتهاز الفرصة وإثارة قضية جدوائية هذا الدور، ووضع حد لـ "لتدخل" علماء الدين في السياسة. وحتى لا نجانب الحقيقة، فهذا الحديث قديم – جديد، فقد شهدت الساحة السياسية خلال القرن الماضي مساعٍ محمومة لترويج هذه الفكرة، ربما كان بعضها من ذوي النوايا الحسنة، وأن لا يفقد عالم الدين نقائه و صفاته الاخلاقية والروحية بسبب ألاعيب السياسة ودهاليزها، لاسيما في زمن يحكم فيه – على الأغلب- تلاميذ المدرسة الميكافيلية، وبعض الأفكار التي تصطدم بالقيم والمبادئ والتعاليم الدينية.

بيد ان هذه الكلمة الحقّة التي يُراد بها باطل، حذر منها، أول مرة، سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- من خلال مؤلفاته واحاديثه ومواقفه، مؤكداً على كونها "مؤامرة مدبرة من جهات اجنبية تريد فصل علماء الدين عن السياسة، وتركها للأحزاب والتيارات الثقافية والافكار الوافدة التي يسهل التعامل معها.

ولو راجعنا سيرة حياة علماء دين كبار في القرن الماضي، وحتى في القرن التاسع عشر، لوجدنا البصمات الواضحة لهم في الحياة الاجتماعية والسياسية، ولعل في طليعتهم يقف المرجع الديني الأعلى في زمانه السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي صاحب الموقف التاريخي مع الاستعمار البريطاني وما يُعرف بـ "ثورة التبغ" في ايران.

الى جانب مواقف مرجعية في العراق خلال الاستعمار البريطاني وبعده، فقد كانت "ثورة العشرين" بالحقيقة دفاعاً عن كرامة الانسان العراقي التي استباحها البريطانيون آنذاك.

فالمسألة منهجية وليست فنية، والقضية التي بين أيدينا لا تتعلق برئيس جمهورية او رئيس برلمان او مدير شركة تجارية او أي منصب اداري آخر، يفكر ذات يوم بالاستقالة والتنحّي عن منصبه بسبب مشاكل معينة، إنما تتعلق بشخص أمامه فرص وامكانات كبيرة للنجاح في القيادة والإدارة، بشرط توفر الشروط والأدوات اللازمة لاستثمار هذه الفرص لتحقيق النجاح الذي ينعكس على المجتمع والدولة، وفي المجالات كافة.

وفي مقدمة هذه الشروط القدرة على التأثير في القرار السياسي دون التأثر به، وهذه نقطة جوهرية ومحورية طالما حاول الحكام والأنظمة السياسية التحكّم بها، لا سيما في كلٍ من ايران والعراق، بحكم النفوذ المرجعي في البلدين.

وعندما نرى في تاريخنا المعاصر، الكلمة المسموعة والمكانة المرموقة لعالم الدين في الاوساط الاجتماعية والتجارية والأكاديمية، الى جانب المهابة لدى السلطات الحاكمة، بشكل أو بآخر، فان الفضل يعود الى تلك الشخصية الحديدية والذكاء الاجتماعي الذي توفر لدى أولئك الناجحين من علماء الدين، وهنالك أمثلة عديدة لا تحصى في هذا المجال، بعضها من العهود الملكية، وبعضها من العقود الماضية، ولعل أقرب مثال على ذلك، مواقف المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر، حيث جاء في كتاب مذكرات لأحد المقربين منه، أن موفد مما كان يسمى بـ"مجلس قيادة الثورة" جاء اليه يطلب منه إعادة النظر في مواقفه من حزب البعث الحاكم آنذاك، فكان جوابه الرفض القاطع، فقال له – مضمون كلامه- "سيدنا..! كن على ثقة، أن التهمة الموجهة اليك تكفي لإنزال حكم الاعدام حتى ولو كان صاحبها عضو كبير في الحزب الحاكم. وربما لم يكن لدى صدام مانعاً من الاستجابة لأي طلب من السيد الصدر أو أي عالم دين متنفذ في الساحة، لمنصب معين في الدولة، كأن يكون في الأوقاف – مثلاً- او غيرها، فيما لو ارادوا ذلك.

أما عن آلية التأثير، فلا نجدنا بحاجة الى التنظير وطرح الأفكار والمقترحات، إنما هنالك أمثلة عملية نستقيها من تجارب خاضها سماحة الإمام الشيرازي– قدس سره- إبان وجوده الفاعل والمميز في كربلاء المقدسة في عقدي الخمسينات والستينات. ففي كتابه "تلك الأيام" يروي كيف أنه غيّر مواقف متصرف كربلاء في العهد القاسمي وهو "فـؤاد عـارف"، وقد عرّفه سماحته بأنه "احد الاعوان العسكريين لعبد الكريم قاسم". وقد صادفه سماحته في دار أحد الأصدقاء، واستغل الفرصة لمناقشته في السياسات التي تتبعها الحكومة الجديدة، لاسيما ما يتعلق بالجانب الاجتماعي والثقافي ومحاولات ترويج الاباحية والتحلل الاخلاقي في المدن المقدسة، وبعد حوار علمي ومنطقي تمكن سماحته من إقناع المتصرف – المحافظ- بخطأ سياسات حكومته، بل وتناقضها مع القيم الإنسانية، فضلاً عن القيم الدينية، فيما يتعلق بمكانة المرأة وحقوقها وكرامتها.

يقول سماحته: "بعد هذا الحديث الطويل، قال فؤاد عارف: إن هذه الفلسفة لم أكن أسمع بها من قبل..! وأبدى تأثره كثيراً بالحديث ثم طلب مني أن أنشر ما ذكرته له في كتاب يوزَّع على الناس حتى يعرف الناس واجباتهم الدينية والاجتماعية".

هذه النافذة الصغيرة كانت منطلقاً لمكاسب كبيرة ربما لم يكن يتوقعها سماحته وجميع علماء الدين والمؤسسة الدينية في العراق أجمع، وهي افتتاح خط مباشر بين الحوزة العلمية وبين دار الاذاعة والتلفزيون في بغداد، حيث بدأ عدد من أهل الفكر والثقافة الدينية بالتوافد على مقر الاذاعة في بغداد لإلقاء محاضرات دينية واخلاقية تبث عبر أثير الاذاعة الى الملايين من الشعب العراقي، وكان في طليعة هؤلاء الشهيد المفكر آية الله السيد حسن الشيرازي، و توّج هذا النجاح بالخطوة العظيمة عندما سجّلت اذاعة بغداد المقتل الحسيني الشهير لصاحبه الشيخ الشهيد عبد الزهراء الكعبي.

لنتصور مشاعر سماحة الامام الشيرازي وهو يستذكر تلك اللحظات عندما قال له المتصرّف: "سأخبر الزعيم عبد الكريم قاسم وأعيكم الجواب..". يقول: غمرتنا الفرحة بسبب هـذه النتيجة التي توصلنا إليها مع فؤاد عارف فقد كان إنجازاً كبيراً فـي حينه أن نجد طريقاً لنا فـي الإذاعة العراقية لطرح الأفكار والمفاهيم الإسلامية".

وهكذا كان سماحته في مناقشاته وطرحه للبديل الاسلامي أمام مسؤولي الدولة العراقية، ولم يريد المزيد مراجعة هذا الكتاب، ففيه محاورات مفصّلة مع عديد المسؤولين في العهدين الملكي والجمهوري، وكان سماحته يتبع الاسلوب المنطقي والعلمي في طرح الافكار مدعومة بالبراهين والادلة العقلية التي لا تشوبها شائبة.

فقد طالب عبد الرحمن البزاز، رئيس الوزراء في عهد عبد السلام عارف، بإلغاء "قانون العقوبات البغدادي" وحاججه بأنه من صنع الاستعمار البريطاني، ولا يمتّ الى الاسلام بصلة. كما طرح ملف القضاء ايضاً على أحمد حسن البكر، في الايام الاولى لاستيلاء حزب البعث على مقاليد الحكم، ودعاه الى تشكيل "لجنة من علماء السنة والشيعة يقوم كلٌّ علـى اجتهـاده ولإتباعه باستنباط الأحكام الجزئية من تلك القواعد الكلية وتقديمها للدولة، كما تفعل اليوم بعض الحكومات الكبرى كبريطانيا، مثلاً.." يقول سماحته في كتابه: ".. ضربت له مثالاً، بالقضاء البريطاني الذي يستند في إصدار قراراته على العرف والعادة، حيث يجلس القضاة في مجلس القضاء ويستنبطوا أحكامهم علـى أساس تلك القاعدتين.

وقد كسب القضاء، بذلك رضا الناس على الأغلب خلال الفترات المنصرمة من تأريخـه، والسبب هو أنه ينطلق نسبياً من المصلحـة العامة وليـس من المصلحة الخاصة.." وأردف سماحته بالقول مخاطباً البكر: ".. ولو أنكم انتهجتم هذا المنهـج ستكسبون محبة الناس ورضاهم، وتوفقون في الدنيا بسبب دعوات الناس لكم". وكان جواب الاخير لدى نهاية اللقاء: "سأطبق كل ما قلته حرفياً.."!.

هذا الاسلوب في التعامل مع السياسة يؤكد للدولة والمجتمع في آن، أن الأولوية لعالم الدين، هي البناء والإصلاح والتقدم للوطن والانسان، وليس لبناء الشخصية السياسية والبحث عن موطئ قدم في مرافق الدولة. فكما نلاحظ من نهج الامام الشيرازي، إن الدين، وما يتضمنه من منظومة اجتماعية وسياسية واقتصادية متكاملة، يمثل منبعاً ومصدراً ثرّاً للافكار والمقترحات العملية، وجميعها قابلة للتطبيق مع نجاح مؤكد، بشرط حسن التنفيذ والاجراء، واذا ما حصل تلكؤ او خلل، مقصود او غير مقصود، في هذا الجانب، فان اصابع الاتهام او المسائلة ستوجه الى المنفذين، كأن يكون مدير دائرة او محافظ او وزير او حتى رئيس وزراء، وإن كانت هنالك نية للتصويب والتقويم فانه يكون موجهاً للجهاز التنفيذي، بل ولجميع مؤسسات الدولة، من برلمان وقضاء وغيرها، كونها لا تعد نفسها مجسدة مائة بالمائة لما جاء به الاسلام.

وبذلك؛ سيكون "الدين" والعقيدة والمؤسسة الدينية بشكل عام بعيدة عن الافرازات السلبية التي تظهر بالضرورة في زحمة الاجراءات وتنفيذ القوانين وتفضيل هذا على ذاك وادارة شؤون البلاد والعباد. هذا النقاء والصورة الحسنة، ليس فقط في صالح المؤسسة الدينية وعلماء الدين، إنما هي تخدم في الوقت ذاته اهل السياسة والحكم لانهم يستقون ارشاداتهم وافكارهم من مصدر يعتمد القيم والمبادئ والمصلحة العامة، ويقف على اساسها على مسافة واحدة مع الجميع.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 25/شباط/2014 - 24/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م