فخ العسل أو الكلام حسب ما تقتضيه القواعد الاجتماعية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: كثيرا ما يطرح المهتمون بالشأن الإعلامي، المرئي منه تحديدا، تساؤلات يعتبروها مشروعة عن اللغة المستخدمة في البرامج ومدى قربها او بعدها من قواعد اللغة او اللياقات والأعراف الاجتماعية.

وأكثر ما يثير استغرابهم في ما يستمعون اليه تدني الكثير من تلك اللغة المستعلمة، والتي كثيرا ما تكون قريبة الى اللهجات العامية لمجتمعات المتحدثين بها، وهي برامج لها حضور واسع لدى جمهور المتابعين..

ما يعتقد انه مبتذل، لدى هؤلاء المهتمين، هو ما يعبر عن لسان حال المتابعين لهذه البرامج.. لا يتحدث الناس بطريقة واحدة في مكانين مختلفين كأن يكون سوقا شعبيا، او جامعة مشهورة، أو حلقة نقاشية في مؤسسة ثقافية معروفة، فكلامنا يختلف حسب طبيعة تلك الأوساط الاجتماعية، وطبيعة الحاضرين والمتحدثين.

نتابع الكثير من تصريحات وخطابات عدد من السياسيين، عراقيين او عرب او أجانب، نشهد الكثير من الاختلافات بينها، اختلافات لغوية كبيرة، الا ان ما يجمعها هو طريقة استخدام تلك اللغة في خطاباتهم، قربا او بعدا من الوسط الاجتماعي الذي يتوجهون اليه..

عراقيا، هناك طغيان للغة السياسية في خطابات جميع المسؤولين، هي محل سخرية لمعظم المستمعين - لاشك في ذلك - ليست من ناحيتها اللغوية، بل من مضامينها السياسية التي تحاول طرحها وتسويقها، لكنها كثيرا ما تتشابه ولغة المستمعين اليها، دون تفريق في الأوساط المستقبلة لها..

في الحوار التلفزيوني، في مجلس النواب، في مؤتمر عام، في تجمع شعبي، هي اللغة نفسها، بجميع اخطائها القواعدية، وركاكة اسلوبها، وابتذال تشبيهاتها..

يمتلك جميع السياسيين في العراق حق وحرية الكلام والتعبير والتصريح والتجريح فيما بينهم وبين الاخرين فضائيا، مستخدمين بذلك لغة المواطن العراقي البسيط، والتي تكون مفهومة لديه، الا من النادر من السياسيين، والذي يميل الى استخدام لغة فوقية، متعالية، لا تنسجم وفضاء التواصل الذي يتطلبه استعمال اللغة.

يمكن الحديث عن الخطيب السياسي لدينا، وهو بامتياز وريث الشاعر العربي، الذي يلقي قصائده في سوق عكاظ او المربد او بلاط الخليفة..

لكن الشاعر وقتها كان يمتلك إضافة الى الصوت، جميع المحسّنات اللغوية، من قواعد أو صور، كتبت له الخلود، على العكس من الخطيب السياسي في راهننا والذي لا يحفل بتلك القواعد او الصور، وبالتالي لا خلود لما يقوله..

حين يستخدم السياسي لغة فوقية متعالية، لا ينصت له الجمهور، واذا فعل، فهو يستحسن ما يقوله دون فهم لقوله، مجرد استحسان لانه اجاد في كلامه، فهو متحدث جيد ولبق، حتى دون ان يصل بنا الى ما أراد قوله..

ينقل جان فرنسوا دورتيه، في معجم العلوم الإنسانية الذي اشرف على تحريره، وفي معرض تعريفه لعلم الاجتماع اللساني، والذي يدرس تلك الفوارق اللسانية تبعا لاختلاف الأوساط الاجتماعية التي يتحدث الانسان فيها، ينقل نموذجين عن تلك الفوارق، احدهما لمحافظ بلدة يحمل تخصصا عاليا في اللغة والادب، وهو يتوجه الى الجمهور مستعملا بعض العبارات الشعبية.

النموذج الاخر من رواية البحث عن الزمن المفقود، من خلال احدى شخصيات الرواية، وهي (دوقة كرمنتس) التي يرى انها لا تؤكد رفعتها الا حين تتخلى بارادتها عن اللياقات وتعبر عن نفسها بشكل عادي او حين تتكلم بلهجة فلاحية.

 يصور هذان المثلان ما يمكن تسميته التميز اللغوي الذي عبر عنه بيار بورديو في احد كتبه. وهي تعبر أيضا عن (الرأسمال اللساني) الذي كان بحوزة هذين المتحدثين، وعن استساغة التعبير وعن مصداقيتهما الاجتماعية التي تسمح لهما أحيانا باستخدام تعابير شعبية من دون فقدان سمعتهما. فلا احد يشكك ان السياسي المجاز في الآداب لا يعرف التحدث بلغته او أي لغة أخرى، ولا ان ملكة الارستقراطية تجهل القواعد الشعبية. بل العكس هو الصحيح، ذلك ان شرعية كل من الشخصين قد تعززت بالفصاحة التي تكمن في أن يكون بمتناول الاخرين.

في علم الاجتماع اللساني، اللغة المتميزة ليست صحيحة قواعديا فحسب، بل هي مقبولة اجتماعيا. لأن التواصل، وحسب كلام محرر الموسوعة،  بمنزلة سوق ينسب الأشخاص وكذلك الأداء لانفسهم ثمنا، وهم ينالون التقدير تبعا للاعراف وطرق الاستعمال السائدة.

من المؤكد اننا لا نملك جميعا الاستعدادات نفسها في اتقان الاشكال المشروعة في خطابنا، ولا في طريقة لفظنا ولا في قواعدنا، الا ان ما ينصح به الباحثون في هذا المجال هو امتلاك لغة المسيطرين لمن يتحدر من وسط شعبي ،  وان يبذل جهدا واضحا يتبدى بوضوح. خلافا لذلك يقوم التميز على اتخاذ مسافة معينة وإظهار ليونة يمكن مراقبتها، كما اظهر ذلك مثال المحافظ وشخصية الدوقة في الرواية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 18/شباط/2014 - 17/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م