المليشياوية والميليشيات.. بندقية للإيجار

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: الدول المتحضرة والطامحة للبناء والإصلاح والنمو، ترنو دائماً الى تعزيز أجواء الأمن والسلم الاجتماعي، بما يسمى بـ "المجتمع المدني" لتكون القدرات العقلية والعضلية والثروات المتاحة، وقفاً على الانتاج والابداع، بما يعود بالفائدة على ابناء المجتمع انفسهم، ويسهم في ازدهار الاقتصاد وبالتالي تقوى دعائم النظام السياسي ويضمن مستقبلاً طويل الأجل، وربما يكون نموذجاً يحتذى به لسائر دول العالم، وهو ما نلحظه في بعض النماذج الراقية في العالم، حيث ترنو شعوبنا ومجتمعاتنا لأن تحذو حذوها، وتحقق ما عجزت عنه، بسبب الحالة المناقضة للمجتمع المدني التي ابتليت به طيلة العقود الماضية، وربما طيلة القرن الماضي.

الاستبداد يولد المليشيات

ان نمط الحكم الاستبدادي والديكتاتوري في بلادنا أفرز ظواهر اجتماعية وسياسية عديدة، منها الترويج للغة العنف والقسوة وما تبعها من ظهور تشكلات عفوية من داخل المجتمع من حيث لا يريد، وقد سُمي في بعض البلاد بـ "الأشقياء" كما شهده العراقيون، أو في مصر تحت اسم "البلطجية"، وفي (ايران الشاه) كان هنالك من يطلق عليهم "اللّاطية" أو حسب اللفظ الدارج هناك "اللاتية" او الشخص "اللاتي"، وبالرغم من تحول الزمان وتغير الظروف السياسية، إلا ان هذه النزعة بقيت بنسب متفاوتة في كيان مجتمعاتنا، وهو يعد رد فعل طبيعي – احياناً- لحالة الاستكبار والاستعباد التي مارستها الانظمة السياسية بحق الشعوب، مما دفع بالشريحة المحرومة والمستضعفة التي تقطن في الغالب في ضواحي المدن، لأن تفرز هكذا ظاهرة شاذة، وهي وجود افراد يفرضون ارادتهم بالقوة على الآخرين، وفي بعض الاحيان يكونوا مصدراً لحل المشاكل والنزاعات المقتضية استخدام العنف او التهديد والوعيد.

هذه الظاهرة الشاذة، تحولت الى أرضية خصبة لنمو وانتشار العنف لتحقيق اهداف ومكاسب سياسية، سواء لاحزاب او حكام او جماعات متنفذة، نظراً الى أن لغة العنف والترويع، هي الاكثر تأثيراً في الانسان للضغط عليه وتطويعه وتدجينه، وفرض الاملاءات والارادات عليه. والانسان بطبعه محب للأمن والاستقرار في محيط عمله ومسكنه وذهابه وإيابه، فان توفر هذا، لن يفكر بعد ذلك بأي شيء، عندما يرى الظواهر الارهابية تهدد آخرين، فيشعر بانه يعيش أحسن الاحوال. وهذا ما يتناقض تماماً والنظام الاجتماعي والسياسي الذي يدعو اليه الاسلام، لانه ببساطة ينتهك أبسط حقوق الانسان، وهي الحرية والأمان والتعبير عن الرأي، كما ينتهك كرامته وشخصيته. ولعل في طليعة مراجع الدين الذين وقفوا بشدّة أمام هذه ترويج هذه الظاهرة هو المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي –قدس سره- عندما عدّ هذا النهج من المحرمات من الناحية الشرعية، وذلك في كتابه "فقه السلم والسلام".

وكشف سماحته عن حقيقة طالما تغيب عن الاذهان، وهي ان الجهات المستفيدة من هذه الظاهرة، تسعى دائماً لتمييعها وتكريسها في الواقع الاجتماعي وعدم التصدّي لها بشكل مباشر، من خلال التنصّل من أي مسؤولية عن نشوئها وافرازاتها.

حيث يبين سماحته في نفس الكتاب، محاولات بعض الحكام للخلط بين ظاهرة العنف في المجتمع، وما تفرزه من ممارسات إجرامية، مثل القتل والسطو والاختطاف بدوافع شخصية، وبين ارهاب الدولة، ويقول:".. من الواضح أن الإرهاب السياسي لا يندرج تحت لائحة الجرائم العادية، لأنه صاحب قضية تتعدّى مصلحته الفردية، إنما يصنف الإرهاب الجماعي في قائمة الإجرام، لأن السلطات السياسية في البلاد غالبا تريد التقليل من شأن ذلك عن قصد وتحقيق، وذلك تهرّبا من مساواة إرهاب الحكام وإرهاب المحكومين ولتبرير ضرب المحكومين باعتبارهم خارجين عن العرف والقانون، وهذا ما يزيد الإرهاب حقداً وشراسة فإن الإرهابيين غالبا إذا كانوا سياسيين يريدون واقعا سياسيا وهدفا مقصودا، بينما السلطات تجعل ذلك من الأعمال الفردية للقتلة واللصوص والمجرمين. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية لأن تميز الإرهاب السياسي عن الجريمة العادية يؤدي بالنتيجة النهائية إلى وضع تلك السلطات السياسية القائمة موضع الاتهام، والسلطات السياسية القائمة لا تريد أن تكون في قفص الاتهام بإزاء هؤلاء الإرهابيين المنظمين".

البزّة الطائفية والأهداف السياسية

هذه الظاهرة المليشياوية التي نراها اليوم ترتدي "البزّة الطائفية" كلفت الشعوب ثمناً باهظا في الدماء والقدرات والثروات، والأخطر؛ في الرصيد الفكري والثقافي، حيث يفترض بها ان تكون في طليعة الشعوب والمجتمعات الناهضة والواعية، لما تمتلكه من إرث حضاري عظيم، وعقول مفكرة ومبدعة، بيد أن كل ذلك بات اليوم ضحية لاهداف دنيئة وخبيثة تحتاج الى اجواء رعب وارهاب تخيم على المجتمع لتحقيقها.

لنلاحظ الامثلة على ذلك وبشكل استعراض سريع؛ ففي باكستان تشكلت جماعات ارهابية عديدة في طليعتها "جيش الصحابة" الذي أوغل في دماء المسلمين الشيعة، وقام بعمليات ارهابية عديدة، وما يزال هذا البلد يشهد حالة الرعب والارهاب الطائفي. وفي العراق بعد الاطاحة بنظام صدام، تشكلت مليشيات عديدة بنفس "البزّة الطائفية"، كلٌ يدّعي الدفاع عن طائفته من التهديدات الخارجية والداخلية، وما يشهده العراق من نزيف مستمر للدماء ودمار وخسائر مادية كبيرة، دليل قوة المساندة لهذه الظاهرة. وفي "مصر الثورة" ظهرت جماعة "البلطجية" التي حاولت قتل روح الأمل بالتغيير في نفوس الشعب المصري، هذه الظاهرة لم تتوقف حتى بعد الإطاحة بديكتاتورية مبارك، حيث ظهرت جماعات تشيع الرعب والإرهاب في الاوساط الاجتماعية للحصول على مكاسب سياسية والاجهاز على الغريم السياسي. كذلك الحال في لبنان، التي تعيش بالأساس حالة تعدد طائفي في الحياة السياسية منذ استقلالها عام 1967، لكن المشكلة التي ابتلي بها هذا  البلد الصغير والجميل الوادع على ضفاف البحر الابيض المتوسط، هي أن زعماء الطوائف المختلفة، تسالموا على تشكيل مليشيات مسلحة لكل منهم، وبدوافع متعددة، كلٌ يعطي الحق والمشروعية والديمومة لجماعته وافراد مليشياته، وهذا الحق هو الذي أدى بهذا البلد لأن يعيش حتى الآن في دوامة  العنف والارهاب رغم المبادرات والمشاريع السياسية التي حاولت انقاذ لبنان من براثن العنف الطائفي والمعارك بالنيابة، ودفع البلد نحو الحياة المدنية.

وبالرغم من أن بعض الشعوب تقدمت خطوات الى الامام نحو التغيير والإصلاح السياسي والمشاركة في صنع القرار في ظل "التجربة الديمقراطية"، كما هو الحال في العراق، حيث يخوض الشعب العراقي كل أربع سنوات دورات انتخابية لاختيار نواب لمجالس المحافظات ، وانتخابات اخرى لاختيار نواب للبرلمان في العاصمة بغداد. إلا اننا نشهد حالة أشبه ما تكون بالمطاردة والتلصص من قبل الحالة المليشياوية، لان الحياة الديمقراطية والمجتمع المدني، لن يدعا مجالاً للحياة والنمو للمليشيات المسلحة ولحالة العنف والإلغاء والكراهية. وبكل بساطة؛ فان مؤسسات  النشر الثقافي والديني والاعلام والتنمية البشرية وغيرها، الى جانب الاتحادات والنقابات والجمعيات التي تلم شمل المجتمع بكل شرائحه واطيافه، كلها تمثل بالحقيقة أجواءً مدنية خالصة ترنو الى التطور والابداع وهو ما قد يتقاطع مع بعض المصالح الفئوية والخاصة، فبدلاً من التعاضد والتعاون داخل كيان الأمة الواحدة، نجد الجهد ينصبّ من قبل البعض على التنافس المحموم وممارسة أعمال شنيعة غير انسانية ولا حضارية، من قبيل التهميش والتشنيع وحتى التهديد بالنسف والاغتيال والاقتحام، ومختلف اساليب الاستفزاز الرخيصة.

وللحقيقة نقول: إن اليوم الذي لن تشهد فيه شعوبنا، لاسيما الشعب العراقي، ظاهرة المليشيات وما يمكن التعبير عنه بـ "بندقية للإيجار"، هو ذلك اليوم الذي تكون فيه الشعوب على درجة عالية من الوعي والثقافة بحقوقها ومسؤوليتها في بناء البلد والدولة والمجتمع، ولا يكون منفذاً للأوامر من الأقوى، صاحب الكلمة المسموعة والاموال الطائلة. 

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 18/شباط/2014 - 17/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م