الشعب عندما يكون واعياً

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: في دول تدّعي تبني "الديمقراطية" مثل العراق، يفترض ان يكون النائب والمسؤول الذي ينتخبه الشعب على درجة كبيرة من الوعي والثقافة بحيث يمثل من يصوّت له في الانتخابات ويخوله أو يوكله عن نفسه اتخاذ القرارات وسن القوانين وادارة البلد بما يحقق مصالح وطموحات شريحة واسعة من الشعب.

وهذا يفسر حالة الخوف من الفشل لدى نواب ومسؤولين في بعض البلدان، وإن حصل وانكشف أمر احدهم بحالة اختلاس او ارتكاب كذبة معينة او اخفاق في امر ما، فانه يقدم استقالته على الفور ويترك منصبه، وربما يكون المنصب مدير بلدية في مدينة نائية، وربما يكون منصب رئيس الوزراء، وهذا ما نلاحظه كثيراً في البلاد الاوربية.

أما في بعض بلادنا التي تعرفت حديثاً على الديمقراطية، فاننا ليس فقط نشهد عدم الالتزام بمبدأ الامانة والنزاهة والصدق الذي يغيب عادة عن ممارسة معظم السياسيين، انما تغيب ايضاً حالة اللباقة والكياسة والحكمة في اتخاذ القرارات المصيرية. ولابد من التذكير؛ اننا غالباً ما نجعل بلاد الغرب، نموذجاً متكاملاً وقدوة يفترض ان نقتدي بها لنظام ديمقراطي يحفظ حقوق الشعب ويحقق ارادته وطموحاته، بينما الحقيقة تؤكد المبالغة الكبيرة في هذا الوصف، حيث تشهد البلاد الغربية التي نعدها متحضرة ومتقدمة، مثل امريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرها، حالات فساد مالي واخلاقي وتحايل على القانون والبحث عن المصالح الخاصة. يبقى الفرق في طريقة إرضاء الشعب وكسب ولائه من خلال احترام ارادته وحقوقه.

في "العراق الديمقراطي"، حصل ما يثير العجب حقاً.. فقد صوّت (177) نائباً بواقع (80) من مجموع الحاضرين من نواب البرلمان في  الثالث من الشهر الجاري على "قانون التقاعد العام"، والذي يفترض ان يتضمن حقوقاً لشريحة الموظفين المتقاعدين، ونقلت الاخبار ان النواب خاضوا نقاشات طويلة مرهقة خلال ايام عديدة قبل ان يخرجوا بهذا القانون، لكن تبين فيما بعد ان في طيات هذا القانون تكمن حصة كبيرة تضمن مصلحة النواب السابقين والحاليين وشريحة واسعة من المتعلقين بدوائر الدولية، بين مدير عام وعضو مجلس محافظة وغيرهم، ونصّت الفقرة (37 - 38) من قانون التقاعد على ان يحصل هؤلاء المحسوبين والمختبئين تحت عباءة الدولة، نسبة (25) بالمئة من راتبه الإسمي، كراتب تقاعدي الى جانب امتيازات اخرى تضاف اليه، بمعنى عودة نفس تلكم الرواتب التقاعدية التي ثارت ضدها الجماهير العام الماضي، وقررت المحكمة الاتحادية إلغائها.

وجوهر السؤال الذي حيّر الكثير، ما الذي دفع هؤلاء النواب للتصويت على هذا القانون، اذا كانوا يعرفون انه يتقاطع مع مصلحة الشعب العراقي وانه يعد خيانة للأمانة وتنكّر للثقة التي اعطوها لنوابهم؟.

بعض الاوساط السياسية تعتقد ان النواب كانوا يحملون نوايا حسنة عندما أقروا قانوناً يحدد أقل سقف للراتب التقاعدي وهو (400) ألف دينار، وستكون هنالك ارقام أكبر حسب السلّم الوظيفي واحتساب سنوات الخدمة والمستوى العلمي وغير ذلك. واذا كان هنالك تخصيص لتقاعد المسؤولين، فهو مجرد إدراجهم ضمن موظفي الدولة الآخرين، فهم ايضاً لهم حاجات ومتطلبات في الحياة..! لكن هذا الرأي يجانب الحقيقة على حد كبير عندما نعرف ان المخصصات والامتيازات التي يحصل عليها النائب والوزير والمستشار وغيرهم، لا يرقى اليها مواطن عادي مطلقاً، وهذا ما جعل الناس ينتفضون في جميع مدن البلاد ويعربون عن استنكارهم واستهجانهم لهذا الخطوة من نوابهم، فقد تفاجأ الناس على أن قانون التقاعد يقر لعراقي راتباً تقاعدياً قدره (400) ألف دينار، كما يقر لآخر راتباً مماثلاً بمقدار (5) مليون دينار او اكثر..!. وهذا يدعو للاعتقاد ان هؤلاء النواب كانوا يعتقدون جزماً انهم ناقشوا قانوناً منصفاً قبل ان يصوتوا عليه، وإلا من الناحية المنطقية يفترض ان يمتنع النواب الذين يتحدثون اليوم عن النزاهة والامانة، عن مناقشة او الحديث عن هذا القانون داخل صالة  المجلس، فضلاً عن التصويت عليه، فهل عرفوه تحت قبة البرلمان وانكروه أمام الشعب الغاضب..؟ "فما عدا مما بدا.."؟!.

وبعد وقوع الصدمة الكبرى بالرفض القاطع من الشعب، سارع النواب والساسة (المؤتمنون) على إعلان برائتهم من كل من وقع على القانون، وصدرت التهديدات والتحذيرات و... وهذا ربما يكون محاولة منهم للحاق بركب الجماهير التي انطلقت في تظاهرات عارمة في جميع انحاء البلاد، ضد هذا القانون، شاركت فيها مختلف شرائح المجتمع، وحسب احد المتظاهرين، فان نقطة التقاطع هذه التي تتجسد في هذه التظاهرات ربما تتحول الى نقطة انطلاق مستمرة لا تتوقف في مقارعة ومحاسبة كل من تسوّل له نفسه التحايل والالتفاف على حقوق الشعب وتحقيق مصالحه الخاصة باساليب لا اخلاقية. وفي محافظة الديوانية - جنوب العراق- اعرب احد المتظاهرين عن استهجانه من مشاركة بعض النواب في التظاهرة الجماهيرية، واصفاً المبادرة بانها كمن "يقتل انساناً ويسير في جنازته"! وفي بغداد هدد المتظاهرون بإعلان الاضراب العام، اذا لم يتم إلغاء هذا القانون، أما في كربلاء فقد اعلن المتظاهرون عن نصب خيام للاعتصام المفتوح امام مجلس المحافظة لحين تحقيق مطالب المتظاهرين بالغاء هذا القانون.

من هنا تكون الحاجة ملحّة لإعادة النظر في التطبيقات الموجودة لنظرية "الديمقراطية" في العراق، بما فيها فكرة "المحاصصة السياسية" ما يتبعها من "محاصصة اقتصادية" أسفرت حتى الآن ليس فقط عن انتهاك حقوق الشعب وتبديد ثروته، وإنما الأخطر من ذلك، تجاهل وعيه ومشاعره والاستخفاف بمستواه الثقافي.

وقد اعلنها ذات مرة احد كبار السياسيين عبر التلفاز بان العراق يطبق الديمقراطية بأعلى مستوياتها عندما يكون النائب مسؤولاً ليس فقط امام الشعب، إنما اما الحزب والكتلة السياسية التي جاءت به الى الحكم.. وهذا هو الكلام الذي يصدق عليه "كلمة حق يراد بها باطل". فاذا أرضى النائب و المسؤول، كيانه السياسي او حزبه، فهل يتمكن من إرضاء الناس وعامة الشعب؟. وماذا لو حصل التقاطع بين الجماهير وبين مصالح الاحزاب والكتل السياسية، وما اكثر ما يحصل هذا الامر؟.

خلال هذه الضجة الكبيرة التي شهدها العراق، لم نلاحظ من النواب والسياسيين من يتحدث بكلمة واحدة عن ايجابيات القانون الذي ناقشوه وصوتوا عليه، إنما الجميع انسحب وتنصّل وتبرأ بشكل مثير، لمجرد ارتفاع صوت الجماهير بالرفض لهذا القانون، وهذا دليل واضح على المستوى الجيد من الوعي الثقافة الذي بلغه الشعب العراقي، وإن استمر على هذا النهج، فان بامكانه ان يخرج نواباً ومسؤولين في المستقبل، يحملون قدراً كبيراً من الوعي والثقافة واللباقة بما يمكنهم من اتخاذ القرارات المسؤولية التي يدافعون عنها ويثبتون نجاحها وجدوائيتها بكل ثقة واعتداد.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 17/شباط/2014 - 16/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م