الرأي العام العراقي وطموح التغيير الحقيقي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: في بداية التحول العراقي من الديكتاتورية الى الديمقراطية عام 2003، انتشرت حكاية طريفة من نسج الخيال العراقي، تجمع بين ياباني وافريقي وعراقي، وتم توجيه سؤالٍ الى كل منهم عن رأيه بقطع الكهرباء..؟!، فأجاب الياباني مستفهماً: "وما هو القطع..."؟!، ثم أجاب الافريقي مستفهماً ايضاً: "وما هو الكهرباء..."؟!، وكان استفهام العراقي: "وما هو الرأي..."؟!، ولهذه الحكاية "النكتة" دلالاتها الواضحة، وهي ان المجتمع العراقي عاش ردحاً طويلاً من الزمن يفتقد حق التعبير عن الرأي، مهما كانت الحاجة الى ذلك، ومهما حلّ به واصابه من مشاكل وازمات وربما كوارث مدمرة، لان كان هنالك "قائد ملهم" برتب عالة عسكرية عالية جداً، لا يشكل قمة الهرم في الحكم، إنما يشكل الصنم الذي يعبر عن الرأي العام.. لذا عندما كنّا نسمع عن رأي عام في العراق.

كان يأتي عبر قنوات تنبع من رأس الحكم وليس من الجماهير – كما يفترض- وهو ما عمل عليه النظام البائد من تجيير الشرائح الاجتماعية المكونة للرأي العام، وفي مقدمتها العشائر وطلبة المدارس والجامعات والجيش والقوات المسلحة بشكل عام، وحتى شريحة التجار والكسبة اصحاب الطبقة المتوسطة.

في ظل "الاجواء الديمقراطية" تصور البعض أن العراقيين لا يفقهون من "الرأي العام" شيئاً ولم يجربوه في تاريخهم، لذا بالامكان رسم أطر خاصة ومسارات معينة توجه الناس لتحقيق اهداف تعود الى فئات واحزاب وحتى اشخاص متنفذين في الحكم. بيد أن تجارب التاريخ العراقي المعاصر، يثبت ان العراقيين نجحوا في تشكيل "رأي عام" ساعدهم على تسجيل مواقف تاريخية وبطولية لتغيير الواقع الفاسد ومقارعة الانحراف في الحكم، ولعل أقرب مثال حيّ؛ الانتفاضة الشعبانية عام 1991، وبغض النظر عن الخلفيات والنتائج، فقد بات واضحاً أن هذا الحديث جاء نتاج رأي عام عراقي بالضد من سياسات صدام التدميرية والقمعية.

ومعروف أن "الرأي العام"، كمفهوم وممارسة يمكن ان يأخذ الاتجاه الايجابي البناء، ويتحدث عن هذا الجانب سماحة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "الرأي العام وسبل توجيهه" ويقول: انه "نتاج عاملين مهمين: "الوعي والتنظيم"، متى ما وجدا في المجتمع كان الرأي العام في هذا المجتمع هادفاً وسليماً، فالمجتمعات الواعية المنظمة إذا أُريد رأيها في مسألة ما كانتخاب مجلس شورى، أو حتى انتخاب مدير مؤسسة مثلاً، فإن هذا الرأي يكون غالباً موفّقاً ومطابقاً لما ينبغي".

كذلك؛ ربما يأخذ الرأي العام اتجاهاً سلبياً هداماً عندما يكون فوضوياً وعلى "غير هدى ولا كتاب مبين"، ولا بصيرة أو وعي عميق للامور، وهو ما نجده لدى الانظمة الديكتاتورية والقمعية ذات الحكم الفردي، ولعل مثالنا القريب "صدام" في العراق وايضاً حكام آخرين مثل "القذافي"، فهؤلاء عملوا ايضاً على ايجاد رأي عام خاص بهم يقوم على التضليل والتزييف وتسطيح الوعي لتحقيق الهدف المنشود وهو الولاء المطلق للزعيم الأوحد، والطاعة العمياء لما يقوله ويأمر به، حتى وإن كان الأمر هو حرب مدمرة ضروس، كالتي خاضها العراقيون طيلة ثمان سنوات، تحت شعارات فارغة واهداف وهمية.

وفي المجتمعات المدنية الحاضنة والمكونة للرأي العام بالشكل الصحيح، نجد الممارسة الصحيحة للرأي العام، فهي تتجه، نحو الإصلاح والتغيير، حتى وإن شهدنا الصدامات وبعض اعمال العنف، بين المتظاهرين وقوات الشرطة، فان القضية هنا، تتعلق بطريقة التعبير عن الرأي وموقف الحكومة من هذا الرأي والتقاطع الحاصل بين المصالح السياسية والارادة الجماهيرية، مما يضطر الناس احياناً للجوء الى المواجهة العنيفة والعناد والإصرار. لذا نجد في بعض الدول رأي عام يدعو الى مكافحة الظواهر الاجتماعية الشاذة مثل "المثلية الجنسية" والتمييز العنصري ضد المهاجرين، كما هناك رأي عام واسع يدعو الحكومة والنظام السياسي الى التخلّي عن فكرة الخيار العسكري في حل أزمة ما في مكان ما بالعالم، او التخلّي عن سياسات اقتصادية معينة وهكذا.. أما أن يتشكل رأي عام يضلل الناس بأن يروج لشعارات واهداف معينة، ثم يتخلّى عنها بعد فترة، لظروف ومصالح معينة، فهذا ما لا نجده غالباً في تلك المجتمعات.

وبما ان العراق مقبل على تطورات سياسية وتحولات ثقافية وفكرية في ظل التجربة الديمقراطية القائمة، متمثلة بالانتخابات التي تجري بشكل منتظم على صعيد مجالس المحافظات ومجلس النواب، ينبغي أن يكون واضحاً للجميع أن هنالك عوامل تكوّن الرأي العام في العراق الذي يُراد له ان يكون ايجابياً وبناءً يحقق طموحات وتطلعات الشعب العراقي.

ولعل أهمها ما نشهده اليوم من اختلال في العلاقة بين النائب المنتخب وبين الجماهير، ومثال ذلك؛ الاعتراض الشديد على إقرار "قانون التقاعد العام" الذي وجدت فيه أوساط ثقافية مكونة للرأي العام، من اجل إلغاء رواتب التقاعد الباهظة للنواب والوزراء والمسؤولين الكبار.

ومن مكونات الرأي العام نشير الى:

أولاً: وسائل الإعلام والاتصال السريع

لا يماري أحد ما لوسائل الاعلام من قنوات فضائية، الى جانب الصحافة التقليدية، وايضاً مواقع الانترنت، من تأثير على الافكار والثقافات والسلوك، فالتقنية الحديثة وفنون التحرير الصحفي، لها الدور الكبير في الوقت الحاضر، في خلق حالة الوعي وتحديد مسارات الثقافة الاجتماعية والسياسية، لتكون مقدمة لتشكيل الرأي العام.

وبما ان الاعلام يمثل واجهات سياسية ومدارس فكرية وثقافية، تسعى لإيصال فكرة ومعلومة معينة الى المخاطب، فاننا نجد عوامل عديدة تتدخل في نجاح الاعلام في تحقيق هدفه الايجابي والبناء في عملية تشكيل الرأي العام، في مقدمتها الفكرة ثم أسلوب الطرح، والوسيلة الاعلامية او الطريقة التي تتم من خلالها طرح الموضوعات، منها استخدام بعض الإثارات العاطفية، من حب وكراهية، والمشاعر الانسانية، من انتماءات قومية او طائفية او عرقية او غير ذلك.

ثانياً: الاحزاب السياسية

وهي بفضل سمتها التنظيمية، تكون ذات يد طولى في تشكيل الرأي العام. ففي الدولة المتحضرة والمدنية، تولد الاحزاب من رحم المجتمع، وتكون تعبيراً عن تاريخه وهويته وطموحاته، لا كما شهدناه في بلادنا خلال القرن الماضي وما نزال، حيث نجد الايديولوجية هي المعيار الاول والاخير في التعامل مع قضايا المجتمع والدولة، ومنها مسألة تشكيل الرأي العام، فهذا سيكون باتجاه تكريس فكرة معينة او مصلحة فئوية خاصة، بل ربما للترويج لشخص ما بعينه، وليس لمصلحة عامة. وهذا بحد ذاته هو الذي جعل المسافة بعيدة عن الجماهير والشارع العام، لاسيما في العراق، وبين فكرة التنظيم السياسي بشكل عام.

ثالثاً: المؤسسة الدينية

ممثلة في الحوزة العلمية ومراجع الدين والخطباء والمؤسسات الثقافية والبحثية. هذا العامل لم يأت ضمن اجواء وظروف سياسية واجتماعية، كما هي الاحزاب او الاعلام، إنما هو نابع من صميم الواقع الاجتماعي للأمة، نظراً للعلاقة العضوية الموجودة عبر التاريخ بين عالم الدين والمجتمع، لكن تطور أنظمة الحكم والتجارب السياسية في العالم، أعطت هذا العامل ابعاداً جديدة تنعكس في تأثيراتها على الانظمة السياسية والثقافة المجتمعية، بحيث يعد الكثير من الباحثين إن المرجعية الدينية كانت لفترة طويلة من الزمن عاملاً لتحقيق الاستقلال والحرية والكرامة الانسانية، منذ عهد الاستعمار ومن ثم تشكّل الانظمة الديكتاتورية القمعية.

وربما يكون سماحة الإمام الشيرازي– قدس سره- في كتابه فقه الراي العام، خير من يوضح لنا رؤية المرجعية الدينية أزاء الرأي العام وكيفية تشكيلة، حيث يرى أنه "لإيجاد رأي عام هادف وسليم، لابد من توفر جملة من العوامل منها: إرشاد وتوجيه الناس إلى كافة الأمور التي يعيشونها، أو التي تُحيط بهم، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وذلك عبر العلماء والمثقفين، الذين لهم اطّلاع في هذه الأمور، فكلُّ مجتمع عبارة عن خليط من الطبقات والأفكار والمعتقدات، ومهمة العالم والمثقف صياغة المجتمع صياغة جيدة، بحيث يحاول أن يرفع من مستوى الطبقات المتردية فكرياً واقتصادياً وما إلى ذلك، وفي نفس الوقت يحافظ أو يرفع من مستوى الطبقات العالية والمتوسطة..".

أما الآلية والسبيل لتحقيق ذلك، فيشير سماحته الى خطوات منها: "دراسة المجتمع بصورة موضوعية، ودراسة الأفكار التي يعتنقها المجتمع، وتشجيع وتحفيز كلّ العوامل الإيجابية في المجتمع، وتقويم وتصحيح السلبيات فيه. وإعداد خطة متكاملة لهذه المهمة، متكونة من الكوادر الكفوءة، والوسائل المتطورة، وتكون الكلمة الحجر الأساسي في نجاح هذه المهمة، فالكلمة الهادفة سواءُ كانت نابعة من قلم كاتب، أو فم خطيب، أو من جهاز مرئي أو مسموع، تُعدّ مصدراً هاماً لإزالة العديد من عوامل التخلف في المجتمع، وغرس عوامل التطور والازدهار".

من هنا نفهم أن تشكيل الرأي العام، لا يجب ان يقتصر على التظاهرات المطلبية او الاحتجاجات الجماهيرية والاعتصامات وغيرها، إنما هي بالحقيقة، نوعاً او طريقاً للبناء والتنمية والتربية العامة، التي تساعد على نشوء الرأي العام، ثم تضافر الجهود المجتمعية مع العوامل الاخرى المذكورة لتحقيق الهدف المنشود في الإصلاح والتغيير نحو الأحسن.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 12/شباط/2014 - 11/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م