كانت قضية اللامساواة احدى اهم الموضوعات في منتدى الاقتصاد
العالمي(1) في دافوس الاسبوع الماضي (22 جنوري 2014). وطبقا لإستبيان
سنوي نُشر من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي، يرى مسؤولو دافوس ان
اتساع الفجوة بين الفقراء والاغنياء تمثل اكبر التحديات امام الاقتصاد
العالمي في العقد القادم. وفي سلسلة من حلقات نقاش ومقابلات تلفزيونية،
كان من الضروري لرجال الاعمال ان يقلقوا من المخاطر على حصتهم
المتزايدة في النمو. في احدى الحلقات ذكر 64% من المستمعين بان تركيز
الثروة هو "إفساد للديمقراطية". وفي تصريح لافت لمنظمة اكسفام الخيرية
ذكرت فيه ان أغنى 85 شخص في العالم لديهم من الثروة ما يفوق ثروة ثلاثة
مليارات ونصف المليار شخص فقير- وهو التصريح الذي لقي انتشارا واسعاً.
حتى البابا بعث برسالة الى المشاركين في المنتدى طالبهم فيها بالقلق
على التوزيع.
ومن المفارقة ان عدد من الاثرياء البلوتوقراط رفضوا اعتبار التركيز
على الدخل ثراءاً. واعتبروا الكثير من القلق كان مصطنعا. في استبيان
المنتدى للعام الماضي شكلت عدم المساواة ثاني اكبر المخاطر، ودون ان
تثير مشاعر احد. في هذه السنة، ومع التحسن في الاقتصاد العالمي، يستطيع
المشاركون في دافوس المجاهرة علنا حول قضايا هامة. رجال المصارف أباحوا
سراً عن خوفهم من خطر القوانين اكثر من الخوف من تركيز الثروة.
مع ذلك، لم يكن القلق العام كله مفتعلاً، قادة الاعمال هم اكثر
اطلاعا من غيرهم على حجم وسرعة التغيير الذي تحدثه التكنلوجيا في
الاقتصاد العالمي. هم يؤكدون بان التحولات الاقتصادية الكبيرة التي
ركزت على زيادة حصة راس المال- الثروة من الدخل القومي وتحويل مكاسب
الاجور الى اولئك الذين في اعلى سلم الدخل- ليست فقط هنا لتبقى، وانما
ستصبح اكثر سوءاً في المستقبل بفضل التسارع في الابتكارات الرقمية.
البروفيسور Ken Rogoff في جامعة هارفرد، قال في احدى حلقات النقاش بانه
وفق الميول الحالية فان منتدى دافوس سيستضيف عاجلا اغنى رجل في العالم
لديه صافي ثروة تقدر بـ 200 بليون دولار. لايوجد رجل اعمال متفائل حول
مستقبل جيوش اوربا من الشباب العاطلين عن العمل، او حول العمالة
الامريكية ذات المهارات الضعيفة. مدراء الشركات في الاقتصاديات الصاعدة
يتطلعون الى ان النمو سيرفع جميع القوارب. ولكن في ظل اتساع نسبة
الشيخوخة وبطأ نمو العالم الغني، فان قادة دافوس سوف لن يكونوا
متفائلين بما يخبئه المستقبل للانسان العادي، انه امر يدعو للكثير من
القلق.
ان ما ينبغي عمله؟ هو الذي يثير الاحباط العميق لمنتدى دافوس.
الاجتماع الذي طغت فيه مواضيع صارخة في علم المستقبليات مثل النقاشات
اللامتناهية حول الابتكارات الطبية التي تسمح لنا لنعيش الى 150 عاما
كانت ينقصها التفكير العميق حول كيفية توسيع المكاسب من نمو الغد.
السياسيون طرحوا مسكنات للعلاج. رجال الاعمال كانوا قلقين حول الطابع
الفض لإعادة توزيع الدخل وألقوا باللائمة على ضعف النظام التعليمي،
لكنهم لديهم القليل من الافكار حول الإعداد الجيد للعمال وتوسيع ملكية
راس المال، او زيادة العائد الضريبي بطرق فعالة وتصاعدية.
ان افضل العلاجات التي قدمها السياسيون تبدو في ايجاد حد ادنى
للاجور. باراك اوباما يدفع باتجاه زيادة كبيرة في الحد الادنى للاجور
الفيدرالية الامريكية (حاليا 7.25 دولار في الساعة).وزير الخزانة
البريطاني حث لجنة الاجور الواطئة(هيئة تكنوقراطية تقدم المشورة حول
الاجور الواطئة) للموافقة على زيادة الاجور بنسبة تفوق مستوى التضخم.
المانيا، البلد الذي لايوجد فيه اي حد ادنى للاجور الوطنية، تعهد تحالف
الحكومة الجديد بإدخال حد ادنى للاجور في عام 2017. سياسيا، يكتسب رفع
الحد الادنى للاجور شعبية واضحة، لأنه مرغوب بطبيعته، ولا يكلف دافع
الضرائب شيئا. علاوة على ذلك، تتوفر الآن الكثير من الادلة الاكاديمية
التي تبيّن ان حد ادنى متواضع للأجور (بما لا يتجاوز 50% من الاجور
الوسطية median wage) (1) ليس له تأثير سلبي كبير على الاستخدام، ورجال
الاعمال يدركون ذلك.
غير ان هناك سبب آخر لقلة التذمر الذي ربما يعطي للسياسيين بعض
الراحة. المشاركون في دافوس يعلمون لو ان الحد الادنى للاجور ارتفع
كثيرا، فهم سوف يعجّلون في الابتكارات التي تقود الى اتمتة المهارات
الضعيفة للعمال. شركات الخدمات اللوجستية سوف تستعمل الروبوتات حالا.
شركات الأمن سوف تعتمد كثيرا على الكومبيوتر الخوارزمي (الحسابي) بدلا
من الرجال البدينين الذين يحدقون في كاميرا الدائرة المغلقة. تجار
التجزئة سوف يتحولون بسرعة الى استعمال مكائن الخدمة الذاتية. ذلك هو
السبب الذي يجعل العلاجات المعتمدة على مزيد من المستحقات الضريبية
(Tax credit) للعمال لرفع اجورهم القليلة افضل من الاعتماد على اجور
ادنى عالية، وهو الهدف الذي ينبغي على المشاركين في دافوس العمل على
تحقيقه. عدد من الاكاديميين يؤكدون بالضبط صوابية ذلك.
هناك خوف من ان اي محادثات حول قانون الضرائب سوف تتحول بسرعة الى
اعادة توزيع قاسية للدخل. جماعة دافوس يخشون من ان أسهل الحلول التي
يقدمها اليسار السياسي لمشكلة اللامساواة هو فرض أعلى هامش ضريبي في
القمة. هم يشيرون الى زيادة اوباما للضريبة عام 2013، والى محاولة Bill
de Blasio’s في فرض ضريبة اضافية على اثرياء نيويورك، او محادثات حزب
العمال البريطاني في اعادة فرض نسبة الـ 50% ضريبة في بريطانيا. الخوف
من اثارة الضرائب الثقيلة يقود الاغنياء الى اتخاذ تدابير دفاعية
متطرفة حول الضرائب. الكثير من الاثرياء يعترفون سراً بان هناك تشوهات
في قانون الضرائب يمكنهم الاستفادة منه بشكل غير عادل: شركة moguls
الامريكية للاستثمارات الخاصة(3) تراوغ حين تذكر امامها الامتيازات
الضريبية الممنوحة كأرباح للمدراء (carried interest)(4)، هذه
الامتيازات تسمح للمدراء في التعامل مع دخلهم كمكسب رأسمالي (يدفعون
عليه نسبة ضريبة قليلة). البلوتوقراط يدركون ان التخلص من مثل هذه
الامتيازات والاستثناءات سيكون متدرجا وفعالا (وهي مشكلة تتجاوز
امريكا). في المحادثات السرية لعدد كبير من الناس هناك اعتقاد بصوابية
فرض ضريبة على مكاسب راس المال بنفس مقدار الضريبة على الدخل.
ربما من السذاجة ان نتوقع ان النخب الثرية بإمكانها قيادة الاصلاح
الضريبي. ولكن في المجالات التي محصلتها أقل من الصفر، مثل التعليم
والتدريب، بالتأكيد سيكون العصف الذهني اكثر قوة. لماذا لا يشكل رواد
التكنلوجيا فريق محادثات مع الحكومة لإبتكار طرق جديدة راديكالية في
تطوير مهارات العمال؟ الجواب يبدو مزيجا من تحويل المسؤولية للاخر،
وعدم الرغبة في تقديم المعلومات، و البيروقراطيات الفقيرة للعديد من
الحكومات. امام الكم الهائل من الشكاوي حول نقص المهارات، يرى العديد
من رجال الاعمال ان التعليم هو من مسؤولية الحكومة. العديد من
التربويين لديهم معرفة قليلة بما يحتاجه رجال الاعمال حقا من مهارات.
رواد التكنلوجيا منشغلون جدا في توسيع برامجهم الى ملايين المستخدمين
الجدد، والعديد من الحكومات اُعيقت بعدم الفاعلية.
من حيث المبدأ، يمكن التغلب على هذه العقبات. اصحاب الاعمال يمكنهم
ان يتعلموا من بعضهم. وكذلك بالنسبة للدول. المانيا عملت جيدا في الربط
بين التعليم والاستخدام. الاسكندنافيون ماهرون في الربط بين دعم الدولة
والحافز لإعادة التدريب. كورسات واسعة على الاون لاين (MOOCs) تعيد
ابتكار الكيفية التي يمكن ان تتم بها اعادة التدريب هذه. التحدي هو كيف
تضع كل هذه القضايا مجتمعة. اذا كانت جماعة دافوس جادة في معالجة عدم
المساواة، فسيكون هذا المقر مكاناً جيداً للانطلاق منه.
.................................................
Inequality of plutocrats and progressivism, The
Economist Jan 27th 2014.
هوامش توضيحية
(1) تأسس منتدى الاقتصاد العالمي في شهر جنوري عام
1971 عندما التقى عدد من قادة الاعمال الاوربيين برعاية اللجنة
الاوربية ومؤسسات الصناعة الاوربية. عُقد الاجتماع في دافوس بسويسرا ثم
بعدها اندمجت المنظمة كمؤسسة غير ربحية. مؤسسو المنتدى الاوائل أكّدوا
على ان ادارة الشركة ليست مسؤولة فقط عن المساهمين وانما ايضا يجب ان
تخدم مصالح كل الاطراف بما فيهم العاملين والمستهلكين والمجهزين وكذلك
الحكومة والمجتمع المدني وكل من يتأثر بعملياتها. حتى عام 1987 كان اسم
المنتدى (منتدى الادارة الاوربية) وفي عام 1987 سمي (منتدى الاقتصاد
العالمي) ليعكس التوسع من اوربا الى العالم واصبح بذلك منظمة عالمية.
(2) اجور الحد الوسط او الـ median wage لا تعني
متوسط الاجور بل تمثل الحدود الفاصلة بين أعلى اجور يستلمها 50% من
العاملين وأقل اجور يستلمها 50% منهم. فاذا كانت مثلاً اجور الحد الوسط
لمهنة الدكتور في امريكا 74ألف دولار ذلك يعني ان 50% من جميع الدكاترة
في امريكا يستلمون اكثر من 74 ألف دولار وان 50% من جميع الدكاترة
يستلمون اقل من 74ألف دولار. الاجور الوسطية السنوية في امريكا لعام
2011 بلغت 26ألف و 364 دولار.
(3) وهي عبارة عن شراكة بين عدد من شركات الاستثمار
الخاصة private equity توفر النقود من كبار المستثمرين بما في ذلك
صناديق معاشات التقاعد وصناديق الاستثمار الاخرى والاشخاص الاثرياء.
تقوم الـ PE باستخدام النقود التي تحصل عليها لشراء شركات اخرى بقصد
بيعها بسعر أعلى خلال فترة من 3 الى 5 سنوات والحصول على ربح. هي ايضا
تقترض من بنوك الاستثمار لتدفع قيمة الشركات التي اشترتها. المدافعون
عن الـ PE يقولون انها تشتري الشركات ذات الاداء الضعيف وتجعلها اكثر
كفاءة عبر التخلص من الاستثمارات الضعيفة لتلك الشركات، فتخفّض بذلك
الكلفة وتخلق بالتالي استثمارات اكثر انتاجية. هي بذلك تمارس "التحطيم
البنّاء". المنتقدون لدور هذه الشركات يرون ان المحصلة من الوظائف
المحطمة والوظائف الجديدة هي قليلة وتأثير هذه الشركات على العمالة لم
يكن كبيراً.
(4) هي امتيازات ضريبية تحصل عليها شركات الاستثمار
الخاصة، وتكلف الحكومة الفيدرالية الامريكية حوالي 13.5 بليون دولار من
العائد الضريبي في السنوات العشر القادمة طبقا لتقديرات ادارة اوباما.
هذه الامتيازات الممنوحة تسمح لمدراء هذه الشركات في التعامل مع حصتهم
من الارباح باعتبارها مكاسب على رأس المال (كما لو انها اصول ثابتة)
وليست دخلا عاديا، وهم بذلك يدفعون ضريبة للدولة فقط بنسبة 15% بدلاً
من 35% نسبة الضريبة العادية على الاجور والرواتب. وهذه تُعتبر من أهم
التشوهات التي تعوق تحقيق العدالة في التوزيع. |