النبأ في حوار موسع مع رجل المسرح المغترب حازم كمال الدين

مقاومتي ضد الأمواج الأوربية هو الذي جلب لي احترام المثقف الأوربي

القسم الاول

حاوره: ناظم السعود

 

* نعم أنا انفصلت عن اللغة العربية!

* صدام حسين حكمني بالإعدام فتركت له الوطن !

* لا يوجد فنان غير تجريبي!

* لم اخرج عن طقوس طفولتي الكربلائية

  

شبكة النبأ: هذا الحوار الذي أجريته مع الفنان والمخرج المسرحي والمنظّر البارز حازم كمال الدين كان مقدرا له ألا يخرج لأعين القراء او رؤيته منشورا في أيما وسيلة اعلامية_ مقروءة او مسموعة _ بعد المنغصات التي تعرضت لها ولاسيما بعد ان خضني المرض الأخير بقوة كادت توصلني للموت لولا ان تلطّف ربك، وبعد مرور سنة او أكثر انتبهت فجأة الى ان نص الحوار ما زال في غرفتي وانه لم ينشر بعد ويطلع الناس عليه فقر رأي على ضرورة نشره بسرعة او تملي الآخرين على مضمونه.

كنت مصرا لإجراء هذا الحوار لاعتبارات عدة منها إنني أحاور رجل مسرح عمل في جل متطلبات وشواغل هذا الفن وكان كمال الدين وفيا ومخلصا لأهدافه ولصيرورة الفن ولقدسيته اللتين دفعتاه بالتالي الى ثلاثة إعدامات متتالية هنا! مما اجبره على تفضيل الغربة على الوطن منذ اربعين عاما ويزيد، وما أعجبني ان حازم كمال الدين لم يجد في غربته (البلجيكية) مساحة لتعويض ما افتقده في وطنه الأول كإنسان (وهذا ما لجأ إليه كثرة من المغتربين السابقين واللاحقين) بل انه جعل من البديل البلجيكي فرصة لكسر الخيبات الأولى في العراق والانغمار في المسرح: تأليفا وإدارة ومشرفا وتمثيلا وفنونا متاحة لمواهبه المسرحية المدخّرة ولم يعد غريبا عليّ ان ينال شهادة الدكتوراه ويصبح مجددا في المسرح الأوربي وان يكون مبهرا وقادرا على البذل والإلهام أينما حل وكان.

ولأن الحوار كان طويلا ومتشعبا وطال اغلب نواحي الفن المسرحي الذي ينشغل به ويسعى (رجل المسرح) على تجسيده وإنباته حتى ولو في ارض قفر، فقد فكرت ان انشره لقراء (شبكة النبأ) على جزءين لهضمه أولا ولاستيعاب ما جاء فيه ثانيا إتماما للفائدة منه:

انا كائن متجدد!

* يمكن وصف مسرحك بأنه في حالة تجريبية مستمرة فهو يجرب في طرح الثيمة ويعدد طرائق تحريك الجسد وينفتح على تقنيات السينوغرافيا والمؤثرات.. أنت كرجل مسرح هل تجد من نهاية لحدود التجريب هذا؟ وهل يمكن للتجريبي ان ينكص ويعود لبداياته؟ وهل سيأتي يوم تستنفد المناهج التجريبية وتصبح بمثابة تجريبية نمطية؟.

- شكرا لك على السؤال الافتتاحي. إنّ طبيعة البشر هي طبيعة لا تنتمي للتكرار. وما أعرفه هو أنّ الفنان - كحال بقية البشر- كائن متجدد لا يعيد ما أنجزه في الماضي أو ما فعله آخرون، وإذا ما أعاد إنجازا ماضيا فإنّه ينتجه بصيغة جديدة. وما أعرفه أيضا هو أنّ الفنان لا يمكن أن يجترّ ما صنعه بنفسه.

التجريب هو بحث في عوالم لم يدخلها أحد من قبل، أو هو تعميق لعوالم سبقه إليها آخرون. وعندما أحكي عن تجربة لم يدخلها أحد أعني كل أنواع التجارب، بما في ذلك كتابة قصيدة عمودية أو نثر مسجوع أو ابتكار عقار طبي جديد. من هذا المنطلق لا يوجد فنان غير تجريبي، ما عدا ذلك الذي يكرر نفسه كل مرة - بشكل حرفي - ولا أظنّ أنّ مثل هذا الفنان موجود. فما يطمح له أي فنان هو أن يبتكر عالما جديدا أو يكشف عن عالم جديد. أي أن يكون نفسه في تجربة جديدة. وبما أنّ كل انسان هو النسخة الوحيدة لنفسه - أي لا توجد له نسخة أخرى- في هذا الكون اللامتناهي فهذا يحتم أن يكون انتاجه فريدا.

التجريب حسبما يفهمه العرب - على ما يبدو لي- وكأنّه نوع من التعالي على الجمهور أو ابتكار حالة مفتعلة، أو ممارسة تعسفية على أدوات فنية كأن تقوّضها، أو تنسفها لكي يلتوي عنق السياق. هذا ليس تجريبا، بل تخريب.

إنّ ما دفعني ذات يوم إلى إدارة ظهري للمسارح الكبرى - التقليدية- هو قضية تكاد تكون بديهية: المشاهد الذي يدخل المسرح التقليدي لا تكاد تراه إلاّ لماما. ذلك أنّك ترى سطوع الفنان على الخشبة تحت الأضواء بينما تلحظ انزواء المشاهد في العتمة. أعني بهذا أنّ المتلقي يكاد لا يلتقي وبشكل حيّ مع فنان العرض المسرحي. ثمة مسافة تفصل بينهما وثمة علاقة تسلطية بين الاثنين: متلقي سلبي ومرسل ايجابي. مشاهد في العتمة وفنان في الضوء. في المسرح الذي ابتدأته في صالون بيتي والذي أطلق عليه اسم مسرحي تجريبي وما بعد حداثي، سعيتُ إلى إعادة وصل العلاقة بين المتلقي والمرسل بطريقة تفاعلية تعطي المتلقي حضورا حيويا أو نديّا. حين كان المشاهد يدخل بيتي يشعر أولا أنّه في بيت وليس في مكان عمومي، وحين كنت أقدم له الشاي يشعر أنه ضيف وحين كنت أشركه بالعرض المسرحي كأن يتحول إلى سينوغراف أو مخرج أو ممثل تتم عملية خروجه من سلبية المتلقي وتحصل عملية دخوله خالقا آخر للعرض المسرحي. هذا الاستنتاج البحثي - المسمّى تجريبي- تجد أصوله في طقوس قديمة. أتذكر أيام الطفولة كيف كان الشمر بن ذي الجوشن يظهر في الشارع على ظهر حصان وكيف كنّا ننهال عليه بالحصى والأحجار أو بما ملكت أيدينا، وكان الشمر - وهو ممثل في التشابيه- بدوره يغضب ويهاجمنا، فيصبح العرض التشابيهي عملية كرّ وفرّ بين الممثل والمتلقي، أيّ أنّ المتلقي يصبح شخصية في الحدث المسرحي. نفس الأمر ينطبق على الحكواتي والروزخون والعدادة، وهو أمر كتبتُ عنه بحوثا مستفيضة وأنتجت عروضا مسرحية تهتدي به.

العمل الفني في الأساس موجّه إلى متلقي، سواء كان المشاهد مسرحيا أو غير مسرحي. والتوجّه إلى متلق يحتّم عليّ البحث عن وسائل تغذي هذا التوجّه وترتقي به إلى سماوات المتعة، والاستئناس، والحبّ. أمّا أن أخضع المتلقي لطاولة اختبار أو أن أضعه على طاولة تشريح (تجريبية) كما تفعل مسارح من أنماط أخرى فهذا ما لا يحتاجه المتلقي ولا المبدع، إلاّ إذا كان المتلقي يعاني من مرض المازوخية أو إذا كان المبدع من نوع المتسلطين أو من ذوي الاهتمامات الشاذة.

المبدع أولا وقبل كل شيء مخلوق مرهف يصغي للآخر ويستفيد منه بمقدار ما يصغي لنفسه ويصحّح مساراته في كل تجربة مقبلة. أما طرح ثيمات جديدة بطريقة تجريبية وطرائق تحريك الجسد والسينوغرافيا والدراماتورغيا فهي كلها لا تتعدّى أن تكون استجابة للوصول إلى هذا الهدف. من هذا المنطلق لا توجد حدود للتجديد، لطالما كان الفنان يتجدد والمتلقي يتغير.

أما سؤال حضرتك عن العودة إلى إلى البدايات فبالنسبة لي لا يوجد شيء اسمه النكوص إلى البدايات. فالبدايات هي بدايات وسؤالك يحيلني إلى سؤال منطقي: هل تعني حضرتك بأنّ البدايات هي الأصول وأنّ ما أنا فيه اليوم هو خارج الاصول؟

العكس عندي هو الصحيح. فأنا أفهم الأصول بأنّها المضي قدما إلى الأمام، وأنّ المراوحة وتكرار الذات هو أمر خارج الأصول.

إذا ما اكتشف الفنان ذات لحظة أنّه يراوح فأظنّ أنّ من واجبه، وجزء أساسي من احترامه لذاته، أن يتوقف ويقول لم يعد لدي شيء أتبادله مع المتلقي.

طفولتي الكربلائية

 * هل (الفرجة المسرحية) التي عرفت بها من خلال العروض الأوربية لها صلة بالطقوس المسرحية العربية الموروثة ؟ وهل اطلعت على بعض عروض الفرجة المغربية قبل سفرك لأوربا؟.

- نعم. العروض المسرحية التي قدمتها للمتلقي الأوربي لم تخرج عن طقوس طفولتي. فالكربلائية والصوفيّة والعربية والشرقية والإسلامية كلها مكونات أصيلة في عملي. أنا كائن ولد في تلك التربة المقدسة، واستلم أوّل الشرائع الدرامية من فم تلك الأم على شكل حكايات مسائية ومن الطقوس في شارع العباس والخيمكه وهبوط إنانا إلى العالم السفلي. تاريخ فنون العرض (طقوس حسينية، سوق عكاظ، حكواتي، عدادة، روزخون، ملاحم...) هو جزء أصيل من ذاكرتي وصيرورتي، وما علاقتي بالفنون الأوربية سوى علاقة صراع واستئناس نقدي.. فأنا أتعامل مع الفنون الأوربية باعتبارها أداة نقدية تعلمني الجرأة على نقد الذات وما يحيط بالذات من معطيات تاريخية وعادات وتقاليد وغير ذلك.

وعلاقتي النقدية تجاه الثقافة الأوربية تركز على نقد العقلية الاستشراقية والاكزوتيكية ونقد الاعتماد الأحادي على المنظومة العقلية واستخدام المنظومة الروحية والحسيّة في خدمتها. ذلك أنّني أرى أنّ هذا يؤدي إلى نشوء انسان روبوت بدلا عن انسان من لحم وروح ودم.

إنّ بحثي في موضوع الجسد يرتبط بالطقوس الإسلامية أكثر من ارتباطه بالطقوس الأوربية، رغم أنّني أستفيد من الميزانسين، والميترانسين، والكوريوغرافي، كما إنّ بحثي في موضوع الجسد يعتمد على ذاكرة بعض الطقوس الشعبية الحركية الراقصة واللاطمة.

أمّا بحثي في موضوع الفضاء اللا مسرحي فيعتمد في جوانبه الأساسية على واقعة الطف وطقوس شهر محرّم. وأمّا بحثي في الدراماتورغي فيعتمد التقنيات الشفاهية لطقوس الحكواتي الديني والدنيوي رجلا أو امرأة وينهل من الذاكرة السومرية، وتحديدا من موضوع التكرار.

فيما يخص سؤالك عن اطلاّعي على تجارب (الفرجة المغربية) فيؤسفني أن أقول لك إنّي لم أطّلع عليها، وذلك بسبب عسف نظام صدام حسين الذي لم يكن يسمح إلا لجلاوزته بالاطلاع على تجارب الآخرين، كما إنّ المنفى المبكر فرض عليّ ظروفا جغرافية وحياتية وسياسية ونفسية لم تسمح بمثل هذا الاطلاع.

صدام حسين حكم عليَّ بالإعدام

 * توصف بأنك من أقدم المسرحيين العرب المغتربين وأكثرهم حضوراً وتجربةً في المسرح الغربي .. أكانت هذه الاقدمية ميزة لك ام تراها كانت ضاغطة عليك فكريا ونفسيا ومهنيا؟ بمعنى هل كانت ثمة أرضية ممهدة أو ساندة لاستقبال تجربتك وتنضيجها؟.

- لا أدري فيما لو كنتُ من أقدم المسرحيين العرب في الغرب، ولا أعرف فيما لو كانت هذه ميزة أو امتيازا. الأخ صدام حسين حكم عليّ بالإعدام فتفضلّتُ بدوري وتركت له الوطن. أخواننا العرب لم يكونوا كرماء معي كعراقي، الأمر الذي أجبرني أن أبحث عن وطن كريم أو يحفظ الكرامة، أو ما تبقى منها، فكانت بلجيكا هي الوطن الذي وضعته الصدفة المحضة في طريقي. نعم ربّما أكون من أوائل المسرحيين العرب الذين وطأت أقدامهم بلجيكا. ونعم ربما أكون من أكثر المسرحيين العرب حضورا في أوربا وذلك للأسباب التالية:

عند وصولي إلى بلجيكا ذات اللغتين اتخذت قرارا مبكرا بأن لا أنتمي للثقافة الفرنسية، وإنما أن أضع نفسي في أتون ثقافة الأقلية الفلامانية، سببي في هذا كان منطقيا. فأنا منذ نعومة أظافري كنتُ ومازلتُ نصيرا للشعوب وللأقليات المضطهدة. الأخوة الفلسطينيون والأكراد يعرفون تاريخي المشترك معهم. كان لدخولي جامعة لوفان الكاثوليكية الفلامانية أثر كبير في مسيرتي الفنية. فقد كنت أول طالب أجنبي يدرس علم المسرح في تاريخ الثقافة الفلامانية. هذا الأمر منحني موقعا مميزا، فقد ساعدني الأساتذة في الجامعة بشكل لا يوصف على متابعة دراستي، وكذلك حصلتُ على تعاطف كبير من الطلبة، الذين ظلّوا مندهشين طويلا أمام غرابة اختيار مسرحي عراقي الدراسة بلغتهم المحدودة التداول وعدم الدراسة في المعاهد الناطقة بالفرنسية.

الخطوة الثانية كانت دخولي معهد مسرح الحركة دافعي في ذلك الاختيار كان الهروب من اللغة كممثل. ففي فن العرض لا يمكن لك أن تصبح ممثلا ناطقا إذا لم تتقن اللغة كما تتقن لغتك الأم. في معهد مسرح الحركة تعلّمت على يد معلم كبير قدمّ فتحا في تاريخ مسرح الحركة الأوربي في سبعينات القرن الماضي. اسم هذا المعلّم يان روتس Jan Ruts، وهو مؤسّس لمعاهد عديدة في مسرح الحركة في بلجيكا وهولندا، كما وصدّر طلاّبه إلى لندن وكندا ليؤسسوا بدورهم معاهد تنتهج طريقة بحثه. وكان عمله المميّز (حقل الأعمدة Het zuilenveld) قد جاب رحاب العالم لأكثر من عشر سنوات. من خلال هذا المعلّم تعرفت على مناهج المسرح الأساسية، ومن خلاله تعرّفتُ شخصيا على المعلمين الأساسيين في المسرح وتمكّنتُ أن أكون بين أيديهم كطالب باحث عن المعرفة.. هكذا تعلمت الرقص المعاصر لكوننكهام، والإعراب الحركي لدوكرو، والبوتو لهيجيكاتا، وطريقتي عمل جروتوفسكي من خلال رينا ميريسكا ويوجينو باربا عن طريق لودو فان باسل. أصدقائي المسرحيين العراقيين لم يتفهموا آنذاك دوافع اختياري للدراسة في معهد الحركة بينما تجاوز عمري السادسة والثلاثين، ولم يستسيغوا ذهابي اليومي للعمل مع طلاب تتراوح أعمارهم بين 19 عاما والثانية والعشرين. بعض الفنانين العراقيين قال إني متصابي وبعضهم صرّح بأنّي أبحث عن النساء، ولكنّ بعضهم عرف أنّي بهذه الطريقة كنت أعيد تركيب ذاكرتي المسرحية بطريقة منهجية لا تتعكّز على تاريخي الفني في العراق.

الخطوة الثالثة هي أنني لم أحن رأسي يوما لشخص أوربي، بل كنت على الدوام أدافع عن قيم الثقافة العربية والإسلامية، رغم أنني علماني. هذا الإصرار على الهوية دفع الأوربي أن يقبلني في آخر المطاف كـ - آخر- أو كما أنا، وليس كما أراد هو أن يرسمني. وهذا الاصرار هو الذي دفع مجموعة من الفنانين الأوربيين لمساندتي والوقوف إلى جانبي بإيمان مطلق بموهبتي، وهو الأمر الذي ساعدني أن أعمق بحوثي المسرحية برويّة.

الآن أجيبك عن الشق الآخر من سؤالك.

نعم كانت هذه الأقدمية ضاغطة عليّ كثيرا من الناحية المهنية. فكما قلت لك قبل قليل إني بدأت الدراسة في عمر السادسة والثلاثين مما يعني أنني بدأت مشواري المسرحي الأوربي وأنا في عمر الأربعين. وهذا يعني فيما يعني أنّني قد صرفتُ عقدين من الزمان لكي أفتح طريقا للآخرين. خسارة عشرة سنوات هي محصّلة ضغط الأقدميّة من عام 1987-1997.

لو لم أكن مضطرا لمغادرة وطني لما خسرتُ كل هذه السنين في أوربا.

* لنعد إلى أكثر من ثلاثين عاما حين نقلت (أو بتعبير أدق هربت) بفنك وحياتك تاركا خلفك الأرض الأولى بما فيها من الموت والاستبداد وحالتيّ حكم بالإعدام.. يقال ان المهاجر يقابل صدمة حال وصوله فهل وجدت هناك (اعني في البد ) حالة التغريبة والصدمة أم كانت ثمة يد حانية مساندة لك في محنتك النفسية والجغرافية؟ وكيف أمكن لك ان تفرض ذاتك ومشاريعك وأحلامك بعد سنوات قليلة من وصولك؟.

 لم أقابل أيّ يد حانية

- قبل ثلاثين عاما واجهت صدمة كبرى كما واجهها كثيرون مثلي، وهي معاناة طلب حقّ اللجوء السياسي، ومواقف الدولة البلجيكية المؤيدة لصدام حسين آنذاك ووضعي تحت التهديد الدائم بإعادتي إلى العراق مخفورا.

لا أخفيك، ففي بلجيكا وقبل أن أدخل الجامعة لم أقابل أيّ يد حانية سوى أصدقاء الطفولة والشباب حيث كان البعض منهم في بلجيكا وفي ألمانيا. في مطار بلجيكا استقبلني الشاعر خالد المعالي وصرف معي الغالي والرخيص لكي يرتّب أوضاعي في بلجيكا. ثمّ كان المرحوم كامل شياع خير سند لي، ولاحقا ضيافة الفوتوغرافي كريم ابراهيم ومساندة الفنان حمادي.

على الصعيد الفني عانيت طويلا قبل أن أصل جادة الاعتراف الرسمي بي.

اول فرصة سنحت لي للعمل في المسرح البلجيكي كانت مع فرقة الكوميديا السوداء. كانت التجربة اسمٌ على مسمّى، كانت من نوع الكوميديا السوداء. تمّت عملية استغلالي كأجنبي في قضايا الدعاية الانتخابية للحزب الذي ينتمي له مدير الفرقة، فالتضامن مع الأجانب ضد الحزب الفاشي الفلاماني آنذاك كان طريقا لكسب أصوات الناخبين. قبل تلك التجربة كانت لي تجربة فاشلة مع فرقة المشهد العالمي الجديد، وهي فرقة أراد القائمون عليها استغلالي لمحاربة الأمريكان أيام دخول صدام حسين إلى الكويت والتحضيرات الامريكية للهجوم على العراق. كانت فرقة يسارية تريد تقديمي كفنان مسرحي لأغراض سياسية تتناقض حتى مع مبادئي. فنفضت يدي عنهم وقلت إنّ من يناصر الشعب العراقي يجب أن يكون ضد صدام وبنفس القوة أن يكون ضد الأمريكان، فلم يفهموا كيف يمكن أن يكون شخصا ما ضد صدام وضد بوش في نفس الوقت.

الخطوة الموفقة التي رسمتها لنفسي كانت في تأسيسي لفرقتي الخاصة التي رفضت أن تخضع للابتزاز السياسي أو الإكزوتيكي أو الدخول في متاهة ثقافة الأجانب والأقليات وما إلى ذلك.

وقد وقف إلى جانبي في تلك الفترة البروفسور لوك فان دن دريس Luk Van Den Dries وكان هذا آنذاك من أهم علماء المسرح. كان الرجل يحضر كل أعمالي وكان ذو تأثير كبير على وزارة الثقافة. وكان يحب أن يرى كيف يتعامل فنان شرقي مع أدوات غربية وبطريقة نقدية.

نعم أنا انفصلت عن اللغة العربية!

* يقول الناقد ياسين النصير ان حازم كمال الدين ((انفصل عن اللغة العربية ليقدم أعماله باللغة الهولندية حيث يعيش في بلجيكا وتعلم في معاهدها وبدأت رحلته بتأسيس فرقة من الشباب لأداء أعمال مسرحية تقوم في مجملها على بنية الحكاية الشعبية العربية القديمة بعد أن يجردها من الكساء المترهل ليأخذ منها جوانبها المضيئة..)) أتراك تؤيد النصير في رأيه؟ وكيف يمكن ان تنفصل عن اللغة العربية في الوقت الذي تقوم فيه أعمالك على مسرحة الحكاية الشعبية العربية القديمة؟ وهل اللغة هنا تنحصر في النطق والكتابة أم انها شعور ونشأة ومرجعية ثقافية؟.

- ياسين النصير لا يجانب الحقيقة في هذا الرأي النقدي. نعم أنا انفصلت عن اللغة العربية. بيد أنّ انفصالي عنها لا يعني نسيان اللغة. ربما العكس هو الصحيح!.

فغالبا ما تلاحظ في تجارب المنفيين العائدين إلى أوطانهم أنّ لغتهم الأم ازدادت قوة وأصالة. حالة متناقضة ظاهريا لكنها منطقية من الناحية العلمية. فأنت في المنفى تضطر أن تستبدل لسانك وتستعير لسانا آخر. هذا الاستبدال يكوّن لديك ميكانيزم واعي أو غير واعي للدفاع عن لسانك. وبمرور الزمن يصبح اللسان المختبيء مثل السجادة الايرانية، كلما مضى عليها الزمن كلما أصبحت أكثر بهاءا وأصالة.

أما في جانب تناولي للحكاية الشعبية فالحكاية الشعبية ليست لغة يا سيدي. اللغة في الحكاية الشعبية هي وسيط لإيصال المعنى أكثر منها موضوعا قائما بذاته كما يحدث ذلك في الشعر. وأحسبُ أنّ ما يقصده النصير بتخليص الحكاية من الترهل هو لجوئي إلى الاختزال والتكثيف أو ما يسمّى المينيماليزم، وهو أسلوب يكشف عن جوهر الحكاية، مضيئا كان ام معتما، وفي هذا تجد تأثيرات واضحة على عملي من مدرسة فرانكفورت وأدرنو.

المسرح يموت

* لماذا لم تبحث لعروض فرقتك (فرقة صحراء 93) عن صالات عرض تقليدية أو مسارح فارهة بل يذكر النقاد انك وأعضاء فرقتك أدرتم ظهوركم للصالات الكبيرة وبحثتم عن فضاءات صغيرة في البيوت والمقاهي والكنائس، أكانت هناك قصدية فنية وفكرية وراء هذا النهج؟ أم هو تماه وتناغم مع عروض نظيرة في مسرح الشارع والـ 60 كرسي والمسرح الفقير؟.

- القضية ليست إدارة ظهر لمسارح تقليدية بغرض الموضة أو ما شابه ذلك. دعني أتسلسل بهدوء معك، ولنتفق على حقيقة بسيطة تقول إنّ المسرح يموت. وهذه حقيقة لا يريد أن يراها المسرحيون. في النصف الثاني من القرن الماضي ظهرت وسائل جديدة تهدّد المسرح في قضيته الجوهرية وهي العرض الحي واللقاء الحي مع المتلقي. وقد استحوذ الانترنت والمواقع التفاعلية وغير ذلك على اللقاء الحيّ.

إنّ ما يساعد في دقّ مسامير نعش المسرح هو ترسيخ تقنياته التقليدية، ومحاولة توسيعها وتنويعها وإعادته إلى الحياة من خلالها. إنّ التركيز على هذه التقنيات باعتبارها المنقذ هو بالضبط ما يُحجّم المسرح ويقولبه في إطار ثابت، منتفخ، ومزدحم.

كما هو معروف فإن أرسخ الأطر هو العلبة الإيطالية أو ما يستحدث عليه اليوم اسم خشبة المسرح.

إذا ما نظرت الآن إلى ذلك الصندوق “خشبه المسرح” من بعيد ستجد أنّ الفرق بينه وبين شاشة تلفزيون أو كومبيوتر أو عرض سينمائي ليس كبيرا. الفرق الوحيد، ربّما، هو أن ثمّة من يتحرك في ذلك الصندوق، الآن، وإن ثمّة من يُحيّي في النهاية ومن يصفّق... هذا هو ما تبقّى من العلاقة الحيّة الحيوية بين عنصريّ العرض: الممثل والمشاهد. المفارقة هي أنّ ذلك الواقف الحيّ في الصندوق المغلق عصيّ على لمس المشاهد، كمثل الممثلين في مسلسل تلفزيوني وفي أحسن الأحوال كمن يراقب كونفرنسا في الفيديو عبر الانترنت.

لقد تحول المشاهد منذ زمن طويل إلى عنصر سلبي يستقبل ما يريد العرض المسرحي قوله. وبهذا يتساوى الجميع، جميع من يجلس في الصالة، أمام عرض مسرحي يقول لهم شيئا واحدا؛ حكاية واحدة، زاوية نظر واحدة، ديكور وإضاءة واحدة. الجميع يرى وجه الممثل أو بروفيله، ولا أحد يرى قفا الممثل في اللحظة التي يرى فيها آخر مقدمته. عروض كهذه بم تذكرك ؟

القطيع!

* مثل هذه العروض كانت ومازالت تذكرني بسياسة القطيع! لقد سيقت شعوبنا كجماعات “او قطعان بالأحرى” إلى شيء ما. جماعات يسوقها دكتاتور واحد. جماعات تتبع حزبا واحدا. جماعات تتبع شاعرا واحدا. أو مخرجا واحدا. أو ملحّنا واحدا.

- أنا لا أؤمن بهذا كلّه! الالتباس والتنوّع في العرض المسرحي، “وفي الحياة بشكل عام” هما شعاري.

إنّ ما يراه أحد المشاهدين في المشهد يراه الثاني بطريقة أخرى، ومن زاوية مختلفة، زمانية، ومكانية، ونفسية. بحيث أحاول أن يخرج كل مشاهد من مسرحيتي بتأويل يختلف عن تأويل المشاهد الآخر.

فبهذه الطريقة يفقد المسرح سلطة المقولات، والشعارات، والتعليميات، ويكتسب طاقة أخّاذة كالكلمات غير المدوّنة في الحضارات الشفاهية التي تقبل تأويلات تناقض بعضها بعضا، أو كالفن التشكيلي التجريدي المعاصر، يبعث في كل مشاهد حكاية المشاهد، وليس حكاية اللوحة.

بهذا المعنى فالمكان المسرحي المتعارف عليه هو سلطة أسعى لإلغائها لكي أتمكن من اكتشاف الإمكانات - اللاّ متناهية- في فضاءات أخرى أسميّها الفضاء اللاّ مسرحي.

الفضاء المسرحي هو مكان ثابت تضع عليه ديكوراتك وتصمم على تلك الديكورات مشاهد مسرحيتك ولكي تجد التأثير المناسب للمشهد تستخدم الإضاءة، والستائر، والفيديو.. الخ.

إنّه مكان متحفي! لوحة توضع هذه الليلة في المكان المناسب بعد أن جفّت ألوانها، وتُوجّه عليها الإضاءة المناسبة، وغدا تنتقل إلى مكان آخر دون أن يطرأ عليها أيّ تغيير!.

الفضاء اللاّ مسرحي، هو فضاء حي يدفعني لأنّ أكون وأتكوّن فيه. وهو فضاء لا يقولب الجمهور بحضور سلبي، إنّما يرى فيه ممثلا آخر في المشهد.. إنّ حقيقة خروج الفضاء اللاّ مسرحي عن قواعد الفضاء المسرحي تكسبه طاقة حيّة لا محدودة. فالتمرد على العادة يخلق الثورة.

الفضاء اللاّ مسرحي، فضاء لا يطلب منك أن تزيّنه، أن تصممه، أو تصمم فيه شيئا. لا. إنّه فضاء تصغي إليه فيفتح لك آفاقا تشكيلية لا متناهية. تأتي إليه بجسدك كممثل فيحتويك كرحم الأم. تتكور فيه فيتسع لك. ثم إذا بك بعد زمن من العلاقة اللاّ متسلطة تكتشف أنّ طبيعتك الجسدية قد تغيرت في الفضاء، وأنّ الفضاء بدأ يكشف عن آفاقه المشهدية.

إن هذه الطريقة في العمل تبقي العرض المسرحي طازجا وغير مكتمل. ذلك أن الفضاء والممثل والمشاهد يتمتعون بقدرة على تغيير مكان ومزاج المشهد المسرحي كل مرة. فلا يعود العرض المسرحي اليوم تكرارا لما حدث أمس: العرض المسرحي كائن من لحم ودم يتأسس ويحيا كل يوم من جديد. العرض المسرحي ليس لوحة تنهيها لتضعها في متحف أو تنتقل بها من جاليري إلى آخر. المسرحية كالماء تنتشر حسبما يقرر الفضاء أو الفراغ ذلك.

لكن ما تقدم لا يعني أني أرفض العمل على الخشبة. إن عرضا مسرحيا ما يجب أن يكون قادرا على تقديم نفسه في حجرة أو في صالة كبيرة أو في مكان مسرحي أو لا مسرحي، أو في فضاء افتراضي أو فضاء ملموس.

الشق الأخير من سؤالك أعتقد أني أجبتُ عنه: فأنا لا علاقة لي بمسرح الشارع من جهة ولا عروض مسرح الـ 60 كرسي. أنا تربطني علاقة مصيرية مع مسرح الينابيع الذي تطور على يد صاحب نظرية المسرح الفقير، أعني جروتوفسكي.

رائد مسرح الحركة

* يوم ان كنت تعمل في فرقة المسرح الفني الحديث ببغداد السبعينات هل تلقيت تمارين أو محاضرات في فن الجسد؟ وهل كانت هناك عروض أو ورش تعطي دروسا للتمثيل بواسطة الجسد؟ ان مبعث هذين السؤالين يعود للتميز الكبير الذي يلعبه الفن الجسدي في مسرحك الأوربي.

- عندما كنت أعمل في فرقة المسرح الفني الحديث كفنان شاب لم يكن هناك شيء اسمه تدريب جسدي رغم أن المرحوم قاسم محمد كان من رواد مسرح الحركة وكانت لديه تدريبات واسعة على فنون الحركة ومنها فن المبارزة، لكن دروسه كانت في معهد الفنون الجميلة.

أنا للأسف لم أكن من طلبة معهد الفنون الجميلة، بل كنت من طلبة أكاديمية الفنون التي لم يكن فيها الأستاذ قاسم محمد مدرسا في السنوات التي درست فيها. ماعدا الأستاذ قاسم محمد، التقيت في السنة الثانية من الكلية بالفنان فيصل المقدادي وكان مختصا بمسرح الحركة وتابعت معه ورشة عمل مسرحية في الكلية. ماعدا هذا فقد تعلمت فنون مسرح الحركة على يد رائد مسرح الحركة البلجيكي يان روتس الذي يعتمد على الاعراب الحركي أساسا. ومن خلاله تعرفت كما أسلفت على جروتوفسكي، يوجينو باربا، البيوميكانيك، البوتو، الرقص المعاصر وغير ذلك.

أما التميز الذي تفضلت بذكره عن مسرحي في أوربا على صعيد مسرح الحركة فيعود في أساسه إلى سرّ بسيط جدا: لقد مزجت ذاكرتي الشرقية مع الذاكرة الأوربية دون أن أسمح للذاكرة الأوربية أن تسيطر عليّ.

ففي عملي ترى التشابيه الحسينية والقاري والعدادة مثلما ترى تقنيات الأكروباتيك والإعراب الحركي. لكنك حينما تنظر إلى هذا المزيج تكتشف أنّه مزيج نقدي وليس مزيجا يعتمد النوستالجيا أو روح الخضوع إلى الثقافة الغربية. الخضوع للثقافة الغربية أمر سهل ويجلب الربح والشهرة لكنه يضيع عليك نفسك، فقبل أن تعرف ما الخبر تجد نفسك في لجج أمواج تحملك دون أن تستطيع المقاومة إلى حيث لا عودة عن خسارة النفس. إنّ مقاومتي ضد الأمواج الأوربية هو الذي جلب لي احترام المثقف الأوربي. وسامحني على هذه المقارنة الفجة لكنني أرى أنّ مقاومتي تشبه مقاومة سجين سياسي ضد جلاده. فكلما صمد السجين كلما انهارت حيل الجلاد وازداد احترامه لك رغم أنه ينكر ذلك في العلن.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 10/شباط/2014 - 9/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م