الواقع والخيال واللامبالاة

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: ما هو الحد الفاصل بين واقع متحقق وخيال مفترض؟، ربما هو حدّ (الهروب)، او حدّ (البقاء). كيف؟.

حين يضغط الواقع عليك بكل قسوته وثقل المه، تختار الهروب منه الى عيش واقع خيالي، يرفع عنك كل تلك الضغوط والالام، أو انك لا تذهب بهذا بعيدا، بل مجرد تخيل عابر بانك ترفع ذلك الضغط مع بقاءه وعدم انطلاقتك بعيدا.

الواقع لا تصنعه وحدك.. بل هناك الكثيرون يتشاركون معك في صنعه. حتى واقعك انت والذي تعتقد انه ملكا لك وحدك وانك من صنعه طيلة سنوات حياتك.. الخيال وحده هو ما تمتلكه وهو ما تصنعه من الأوهام والاحلام ولا احد يشاركك في صنعه، الا في حالة من استلاب وعي بالكامل تعيشه في واقعك ويفرض عليك حتى في خيالاتك ان تكون مستلبا له. وفي هذه الحالة تكون خيالاتك جميعها أسيرة اغلال الواقع الذي تتوهم أنك هارب منه الى الامام.

الواقع صورة ترسمها انت مع الاخرين جميعا. الخيال صورة ايضا لكنها ذهنية ترسمها انت وحدك، وما بين الصورتين تختلف المواقف التي تتخذها.

في الاولى انت ملزم باتخاذ موقف واضح منها (صورة الواقع) وفي الخيال غير مطالب باتخاذ هذا الموقف، لانك مهما فعلت تبقى مواقفك حبيسة هذه الصورة المتخيلة.. لكن مما تفرضه انسانيتك عليك يجب ان تتخذ موقفا واضحا ومحددا من الكثير من مفردات الواقع، حتى لو انك لا تسهم فيه، مجرد اتخاذ هذا الموقف هو تدريب على الموقف الحقيقي في واقع متحقق.

هل نذهب خطوة أبعد من ذلك؟.

في المأثور العلوي، (كل نعمة موفورة بجانبها حق مضيّع).

الوفور هو الزيادة عن الحد، مع حبس ومنع ما فاض منه الى آخرين.

المسافة بين الاثنين هي نفس المسافة بين الشكر والكفر، شكر النعم وكفرها..

كل نعمة هي خير من الخالق، وكل وفور فيها هي شر من الانسان على نفسه وعلى الاخرين..

المأثور العلوي انطلق من واقع عاشه المسلمون وهم يرون ثرواتهم تتجمع وتتكدس بين ايديهم نتيجة الفتوحات. والمثال العلوي تصوير ايضا لما يمكن له ان يتحقق ويصبح واقعا جديدا يزيح واقعا قبله، فلا وفور عندها، وبالتالي لاحقوق مضيعة..

في زمننا الراهن وقبله بقليل، وأقصد بذلك زمننا العراقي، ظهر حديثوا النعمة، أو حديثوا الثراء، الذين تجمعت لديهم ثروات طائلة واصبحوا اثرياء عبروا حدود الواقع الى الخيال في حجم ثرواتهم، او حجمها مع ما كانوا عليه سابقا.

وهم اصبحوا كذلك فجاة بمناسبة حوادث طارئة أو حالات غير عادية (تهريب، حروب، صفقات غير منظورة).

تشكل ظاهرة حديثي النعمة او الثراء، ظاهرة اجتماعية تدل على فساد اجتماعي، اداري، سياسي، ...الخ. قوامه استغلال مركز في المجتمع او الدولة، والافادة من غياب القانون ومن ظروف الفوضى والاضطراب، ولاسيما الحروب. كما يذهب الى ذلك المصطلح السوسيولوجي.

وهم حسب الماثور العلوي اصحاب النعمة الموفورة التي ضيعت وتضيع حقوق الاخرين في كل مجتمع يكونوا فيه..

النعم الموفورة تخلق في نفس صاحبها البلادة الانسانية واللامبالاة باوضاع الكثيرين، من فقراء ومسحوقين وجائعين.. وهم في المقابل حين تحضر صور هؤلاء المضيعة حقوقهم في وسائل الاعلام، يتعاطفون معها بنظراتهم وبتعليقاتهم، الا انهم لا يغادرون تلك المساحة الى الواقع الذي يعيشونه لتغييره. انها نفس المسافة الفاصلة بين الواقع والخيال التي تحدثنا عنها في السطور الاولى..

البلادة واللامبالاة تحتفي بالصور كمصدر للتعاطف والمشاركة، ولا تعبر الجدار الفاصل بينهما كصورة واقعية شديدة القسوة الى واقع اخر متخيل، لانهم لا يملكون ان يكون لهم دور في صنعه، رغم اشتراكهم في صنع الواقع الشديد التحقق.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 9/شباط/2014 - 8/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م