جدلية الأمن والحرية في ملتقى النبأ الاسبوعي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: السلام الذي يطرحه الحكام الدكتاتوريون لا يعني أكثر من سلام السجون او القبور.

جين شارب في كتابه/من الدكتاتورية الى الديمقراطية.

لم يظهر حديث الامن والحرية الا بعد ما عرف بثورات الربيع العربي وما أفرزته من نتائج لعل ابرزها انطلاق هذه الفوضى وهذا العنف المكبوت في تلك المجتمعات التي استطاعت تغيير حكامها وانظمتها وأخرى في طريقها الى ذلك..

ساد الامن لعقود طويلة في تلك المجتمعات مع غياب بارز للحريات الفردية او السياسية، والامن الذي اشير اليه هو ما كانت تمثله أجهزة الامن في منظومات تلك الدول التي حدث فيها التغيير، والتي مارست القمع ضد مواطنيها تحت دعاوى الحفاظ على امن الوطن والمواطن..

والامن المقصود هنا هو القمع، الذي لا تكون معه حرية، لان القمع لا ينتج الا الكبت والخوف،

وهما نقيضان للأمن لأنهما نقيضان للحرية.

لا ينفصل الامن عن الحرية، وأقصد بالامن هنا، هو توفير كل ما من شأنه ان يمارس الناس تحته حرياتهم الفردية والسياسية دون خوف من قمع السلطة، عبر قوانين وتشريعات تضمن تلك الممارسات وتحميها.

ما حدث بعد عمليات التغيير، واضيف العراق اليها أيضا، هو ان المواطن العراقي او التونسي او الليبي او المصري او اليمني، قد حصل على حريته التي تاق اليها طيلة عقود طويلة، ومارس لأول مرة عملية الاختيار للحاكم عبر صناديق الاقتراع، لكن مقابل ذلك، افتقد الى الامن بمعناه الواسع، وهذه المرة عبر الاحداث التي باتت تهدد حياته ووجوده، رغم امتلاكه للحرية والتعبير عنها..

لم يستطع العراقيون بعد مضي عشر سنوات على التغيير، ورغم حصولهم على حرياتهم، ان يحصلوا على الامن بمعناه الواسع والمتشعب، وكذلك المصريون الذي عادوا الى العسكر مرة أخرى لقيادة العملية السياسية، لتوفير الامن لهم على حساب الحرية التي كثيرا ما تصادرها دباباتهم وبنادقهم..

حول جدلية الامن والحرية كانت نقاشات ملتقى النبأ الأسبوعي، والتي طرحها مرتضى معاش رئيس مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام، منطلقا من التجربة العراقية والمصرية، عبر سؤال ايهما يتقدم على الاخر: الامن أم الحرية؟.

يرى معاش، أن ما قام به المصريون من خلال استعانتهم بالجيش لتغيير واقع سياسي ارتضوه عبر صناديق الاقتراع هو تراجع للحرية التي حصلوا عليها حين قاموا بثورتهم التي أطاحت بحسني مبارك ونظامه.. وكأنهم قد وقعوا في لحظة تاريخية مفصلية بين خيارين، هما الامن والحرية، فاختاروا الامن على حساب الحرية. والتي اخذت تضيق مساحة ممارستها تدريجيا عبر القرارات التي يصدرها العسكر.. ما حصل في مصر، هو اختلال لتلك العلاقة بين الامن والحرية.. والتي كثيرا ما يسارع العرب بعد ثوراتهم الى تغليب الامن عليها.

ويعتقد مرتضى معاش ان سبب ذلك يعود الى العقل العربي الجمعي، وكذلك الى ما يسميه (الجينة الثقافية)، التي تميل الى عدم المخاطرة بالامن المتوفر للناس من اجل حرية لايعرفون كيفية التعامل معها، او انهم لا يحبذونها مقابل فقدانهم لأمنهم حتى في أوقات التغيير الكبرى، التي لا تتضح نتائجها في فترة زمنية قصيرة.

يفضل معاش ويقدم الحرية على الامن عند لحظة توقف الانسان بين خيارين، هما الامن والحرية، لانه يرى ان الحرية بمعناها الواسع هي من ضمن اصل العدل الإلهي، والعدل من اصل التوحيد، والتكليف الإلهي للإنسان يتطلب وجود الحرية، لهذا لا يحاسب الله سبحانه وتعالى الانسان غير الحر، لانه خارج عن التكليف..

الحرية كما يراها معاش هي عقيدة راسخة للإنسان..

في مداخلته لموضوع النقاش، ينطلق احمد جويد، مدير مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات، من حاجات الفرد والمجتمع، ويرى ان الامن يتقدم على الحرية، والذي عند افتقاده لا توجد ثمة حرية، او انسان حر..

ويعود بخطوة الى الوراء، وهو يذكّر بأكثر من جيل عراقي عاصر نظام صدام حسين، افتقد فيه الى الحرية، وعاش انكساراته وخيباته، وهو يعيش اللحظة ثمار الحرية بعد التغيير، الا انها حرية تفتقد الى الامن المجتمعي، الذي اصبح مهددا من خلال هذا العنف اليومي المتواصل. ويضيف قائلا في مداخلته: ان الحرية هي غاية ما يصبوا اليها كل انسان، وهي على حد تعبيره (ثمرة الجنة) ولا يمكن لهذا الحرية ان تكون بالمتناول دون وجود أخواتها من امن وسلام مجتمعي.

يطرح الكاتب والصحفي علي الطالقاني سؤالا اخر ينطلق فيه من التفكير السائد في المجتمع العراقي، وهو هل هناك ضمان لحكم ديمقراطي يوفر الأمن لمواطنيه في المستقبل، بعد كل هذه التضحيات اليومية المستمرة؟ مستعرضا عددا من تجارب الدول التي حدثت فيها تغييرات كبيرة مشابهة لما حدث ويحدث في العراق.

يعترض محمد طابور رئيس المركز الثقافي الشيعي في الدنمارك، على عدم الفصل بين الامن والحرية والمفاضلة بينهما، لانهما متلازمان، الا انه بالمقابل، يختار الحرية على الامن في أي لحظة يطلب فيها الاختيار بينهما.. ويتطرق في مداخلته أيضا الى حدّين اخرين غير الامن يراهما فاعلان في تقييد الحريات هما العرف العشائري والفهم الديني الذي يمارسه البعض كسلوك كابح للحريات.

في مداخلته يفرق هاشم المطيري الناطق الإعلامي لمنظمة العمل الإسلامي العراقية، من خلال سؤال يفتتح به كلامه وهو، هل يرضى الانسان الذي يمتلك حريته بالاستبداد الذي يوفر له الامن اذا فقده من حياته؟.

يجيب عن هذا التساؤل من خلال التفريق بين الحرية كحق والامن كحاجة..

فالحرية متكاملة مع الفرد وشخصيته وهو يمارسها في مجتمعه، والامن مطلب له ولحريته، وهما (الامن والحرية) ليسا مطلقين بل يخضعان للنسبية التي توفرها النخبة السياسية عبر وضع القوانين والتشريعات الحامية للحرية وممارستها في بيئة آمنة لا تهدد حياة الانسان او تقمع ممارسته لتلك الحرية..

يشترك الدكتور علي محمد ياسين في هذا النقاش، مذكرا ان هذه الجدلية قديمة جدا وان اتخذت تسمية أخرى، تم طرحها من خلال التساؤل الفلسفي للكثير من الفلاسفة، عبر سؤال هل يولد الانسان حرا ام مقيدا؟. ويجيب من خلال العودة الى نقطة التأسيس الأولى لمطلب الحرية الإنسانية، من خلال قصة آدم عليه السلام وأكله من الشجرة المحرمة.

ويرى الدكتور ياسين ان الامن والحرية متلازمان في أحيان كثيرة، لكن الغالب هو ان الامن كما عهدناه وخبرناه في الواقع السياسي العراقي السابق لا يقود الى الحرية، ويمكن للحرية ان تقودنا الى الامن في واقعنا الحالي.. والحرية كما يرى اهم، رغم ان غالبية المجتمع العراقي تحتاج الى الامن والذي تراه يتقدم على مطلبها في الحرية وممارستها.

محمد الصافي من منظمة رؤية للثقافة والتنمية، يرى أن شخصية المثقف في مجتمعه، وما يطرحه من أفكار يمكن أن تسهم في بلورة مفهوم مشترك للامن والحرية، لا يتقدم فيه احدهما على الاخر، وتستطيع النخبة الثقافية من ترسيخ الحرية وجلب الامن، ويدعو الصافي النخب الثقافية والسياسية الى ترسيخ مفهوم الحرية في المجتمع العراقي.

التدريسي في جامعة كربلاء حيدر المسعودي يقرر منذ البداية في مداخلته، بان الامن نتاج للحرية، من خلال الفهم الصحيح لها ولممارستها داخل المجتمع، ويؤكد دور النخبة المثقفة في نشر كل ما يرتبط بالحرية من مفاهيم، لعل ابرزها الامن وما يوفره من حماية لممارسة الحريات..

يقدم حيدر الجراح مقاربة أخرى للموضوع، من خلال متلازمة الخوف ووهم الامن الذي حفر كثيرا في الوعي الجمعي العراقي. والذي تبدى في اقصى تجلياته في عهد النظام السابق، والذي توفر على مساحة كبيرة من الامن، لكنه امن متوهّم وغير حقيقي، لانه ارتبط بأمن النظام واجهزته القمعية التي صادرت جميع الحريات، واصبح حتى مجرد الحديث عنها عاقبته السجن او الإعدام.

بعد التغيير في العام 2003 وما احدثه من خلخلة في البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية، لم يستطع معه العراقيون استيعاب حجم تلك التغيرات، لانحسار مساحات كبيرة من الامن المتوهم، وتقدم حريات كثيرة واحتلالها مساحات واسعة، الا انها لم تستطع ان تعالج هذا الخوف الدفين من فقدان الوهم بالأمن الذي استراحوا لوجوده طيلة عقود طويلة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 3/شباط/2014 - 2/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م