النازحون في كربلاء.. تجربة الحقيقة المغيبة

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: بين الأراضي الصحراوية التي شهدت نزوح عشرات العوائل من سكان مدينة الفلوجة باتجاه كربلاء المقدسة، وبين نفس الاراضي الصحراوية التي تشهد معارك دامية، مسافة ليست بالبعيدة جغرافياً، بيد أنها بعيدة جداً من حيث الافكار والتصورات التي يحملها هذا الطرف ضد ذاك.. فهناك تخندق واستعدادات عسكرية ومخابراتية على قدم وساق، للحظة الحسم غير المعروفة النتائج والعواقب، فيما هنا لقاء ودّي – أخوي، يكشف للعالم أكذوبة "الطائفية الاجتماعية"، ويؤكد وجود فتنة الطائفية السياسية التي شحنت الفلوجة بوقود لنيران هائلة.

وكما جاء في صحيفة "واشنطن بوست" الامريكية، فان الاميركيين لا يتابعون التطورات السياسية والامنية على الأرض في محافظة الانبار فقط، إنما التطورات الاجتماعية ايضاً، بمعنى أن وصول (72) عائلة من الفلوجة الى كربلاء المقدسة واستضافتهم في "مدينة الزائرين" يمثل تطوراً في مسار الاحداث، لذا لم يأت عنوان "واشنطن بوست" اعتباطاً؛ "استضافة كربلاء لنازحي الفلوجة.. حقيقة كسرت ظهر الطائفية". فعند الاميركيين، هكذا مبادرات وخطوات من شأنها أن يسهم في تغيير مجرى الاحداث.

لكن ماذا عنّا نحن..؟!

أعرب البعض عن مخاوفه من احتمال اندساس عناصر ارهابية بين العوائل النازحة، ثم احتمال ان تكون كربلاء ضحية اعمال ارهابية جديدة.. وهناك من قال: "ان الارهاب، تقدم من مشارف كربلاء الى قلبها.."! وغيرها من الاحاديث المشحونة بالعواطف والحساسيات".

طبعاً؛ ردود الفعل، هذه يؤكد الكثير أنها نشأت لفعل حصل.. وهي بكل بساطة الاعمال الارهابية التي تعرضت لها المدينة لقربها من المناطق الصحراوية المفتوحة على محافظة الانبار، فكل السيارات المفخخة التي انفجرت خلال السنوات الماضية، دفعت بالكثير لأن يشيروا بأصابع الاتهام نحو الانبار، حتى إن كل التبرؤ من وجهاء ورؤساء العشائر ومسؤولي المحافظة من هذه الاعمال الاجرامية، لم تفد ضحايا التفجيرات المريعة بعد أن فقدت هذه العائلة معيلها، وتلك العائلة ابنها الشاب.

ولعل أعنف انفجار شهدته كربلاء المقدسة، ذلك الذي وقع بالقرب من المجمع الحكومي المغلق الذي يجمع مديرية الشرطة، ومديرية السفر والجنسية، عام 2012، وأوقع حوالي (200) بين شهيد وجريح، وقد رصد أهالي كربلاء توقيت العملية بعد يومين فقط من قيام قوة عسكرية انطلقت من كربلاء صوب الانبار واعتقال مجموعة ممن قيل عنهم أنهم ارهابيون وضالعون في عملية قتل عدد من المسافرين القادمين من سوريا براً في محافظة الانبار.

لذا يمكن القول: اذا كانت ردود الفعل هذه، عاطفية ولها بعض التبرير من ذكريات مرّة، فان الترويج لهكذا مخاوف وردود فعل، من شأنها ان تكرّس وتعمّق الشرخ الطائفي، بل وتؤكد أحقية المخاوف والهواجس التي جاء بها سكان الفلوجة الى كربلاء، فكل الذين استجابوا للعرض الذي قدمته المؤسسة الدينية في كربلاء المقدسة للنازحين في قضاء "عين التمر" بالمجيء الى كربلاء المقدسة والحصول على خدمات أكبر وأحسن، ساورهم الشك بأنهم ربما يذهبون الى معقل التطرف الطائفي – الشيعي، وربما سيتعرضون لبعض المضايقات، ومن الجدير الاشارة الى الزوبعة الاعلامية التي اثارتها بعض وسائل الاعلام بوجود عناصر من "داعش" في كربلاء، من خلال صورة نشرتها بعض المواقع، لشخص يظهر ورقة تحمل ختم "داعش" مكتوب عليها "قادمون..." وهو بالقرب من مرقد أبي الفضل العباس، عليه السلام، ثم جاءت الفبركة الاعلامية الاخرى، بخبر يفيد باعتقال صاحب هذه الورقة.

وربما اراد اصحاب هذه الحملة الاعلامية التأكيد على قوة وجاهزية الجهاز الاستخباري في كربلاء ورصده أي تحرك مشبوه واختراق ارهابي، مع افتراض صحّة تلك الصورة.. لكن مع صحّة تلك الصورة او عدمها، ومع مباركة الاجهزة الامنية والاستخبارية في جهودها، لاسيما في هذه الايام، فان الذكاء الاعلامي يقتضي عدم نشر هكذا اخبار وفي هذه البرهة الزمنية الحساسة بالذات.

وهنالك خطوة اخرى اتخذت في طريق تكريس "الطائفية الاجتماعية"، وما من شأنه ان يفرغ الجانب الشيعي من محتواه القيمي والديني الحضاري، عندما روجت بعض وسائل الاعلام لخبر مفاده بأن السلطات الامنية في مدينة سامراء أبعدت عدداً من النازحين من المدينة القديمة والمنطقة القريبة من مرقد الامامين العسكريين، عليهما السلام..! ثم تبين فيما بعد من مصادر عسكرية مسؤولة، أن ثلاث عوائل فقط شملهم الإبعاد بعد محاولة ثلاث اشخاص من جنسيات عربية التسلل معهم الى داخل المدينة، أحدهما يمني واثنان من سوريا، وقد نقلت وسائل الاعلام من قائد عمليات سامراء قوله: " ليس كل نازحي الفلوجة نظيفين وبينهم عرب الجنسية". حتى هذا التصريح، وإن كان موجهاً الى من وصفهم بعرب الجنسية، لم يكن موفقاً وملائماً لهذه الايام، وربما كان يؤخذ على قيادة عمليات سامراء التحقق من هويات ووثائق النازحين قبل دخولهم مدينة سامراء، كما يحصل في سائر المناطق في العراق، فهل يجب أن يدخل السوري واليمني المشبوه الى المنطقة القريبة من الحرم العسكري، ثم تأتي القوات الامنية وتطلب منهم مغادرة المكان.

من هنا يتضح أن ردود الفعل العفوية والعاطفية من الشارع العام، ربما تكون مثيرة في محيطها الضيق، بيد ان هكذا ردود فعل اذا جاءت من قائد عسكري او مسؤول في الدولة وهو يروج للحالة الطائفية، فهذه من شأنها ان تبعث برسائل خاطئة وخطيرة في آن، عن وجود خلفيات عميقة للقتال الدائر في الانبار، وأن القضية ليست سياسية بحتة، وإنما تختزن ثارات طائفية بين المجتمع العراقي الواحد، وهو تحديداً ما سعت اليه اطراف سياسية واعلامية اقليمية ودولية لتكريسه في الواقع العراقي، وبالنتيجة تبقى الحقيقة الناصعة مغيبة، وهي ان الثقافة التي يدعو اليها التشيع وتستقي جذورها من السيرة النبوية الشريفة، تبشر، ليس فقط أهل السنّة في العراق، إنما العالم بأسره، بالسلام والمحبة والعايش، وليس أدلّ على الطابع العالمي الذي باتت تحمله كربلاء المقدسة، مع تطور وتعاظم الزيارات المليونية، ولاسيما زيارة الأربعين.

نعم؛ ربما تتخذ المؤسسة الدينية وبعض المراكز الثقافية ومنظمات المجتمع المدني خطوات حضارية على طريق تقوية أواصر الأخوة الدينية وإزالة عوامل التفرقة والتمزق، بيد إن الاجراءات الحكومية لها كلمة الفصل في القضية كونها الجهة المؤثرة وصاحبة القرار على الأرض. فالاجراءات الادارية او التحركات العسكرية وغيرها، ليس من اختصاص المؤسسة الدينية ولا منظمات المجتمع المدني. ولمن يريد الدليل على ذلك ليطالع سيرة الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله، عندما أزال كل الفوارق الاجتماعية وآخا بين السيد وعبده، وبين الغني والفقير.. وهذا ما يشير اليه سماحة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "الصياغة الجديدة لعالم الحرية والرفاه والسلام"، حيث يقول مشيراً الى الايام الذهبية لصدر الاسلام: "تحت قيادة ذلك القائد العظيم وبمثل تلك القيادة الرشيدة، وأولئك المسلمين المضحين المتفانين، تقدم الإسلام ذلك التقدم الهائل وتمكن من إنقاذ البشرية من مظالم الحكام وقساوة القوانين.. إنه رسول الله، صلّى الله عليه وآله، الذي كان لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد والجارية فيقضي حوائجهم، وكان يخصف حذاء الرجل المسكين، ويخيط ثوب الأرملة، ويعود المريض حتى اليهودي الذي كان يؤذيه ويصب على رأسه في كل يوم طبقاً من الرماد.." ثم يردف سماحته بالقول: ".. ولو تكونت الأمة الإسلامية من جديد وعادت الأخوة الإسلامية على ما كانت عليه، وغدت الأمة تحت قيادة رشيدة متبعة لقيادة رسول الله، صلّى الله عليه وآله، لأمكن تخليص العالم من ويلاته وصياغة العالم صياغة جديدة يسود فيها كل خير ورفاه".

وجود "الأخوة الاسلامية" في قاموسنا الثقافي والحضاري، هي الحقيقة المغيبة عن اذهان الانباريين الذين يدّعون أنهم أقرب الى النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، لذا نجدهم يحملون في اذهانهم صور مشوهة وكاذبة عن الشيعة، الامر الذي يفرض على الجميع وقفة مسؤولة لإزالة هذا التراكم الذهني وإصلاح ما افسدته يد الطائفية السياسية، الى جانب الدعوة الشاملة لمحاربة الارهابيين في ساحة المواجهة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 30/كانون الثاني/2014 - 28/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م