يحلل برتراند رسل ادّعاءات الفلاسفة في قدرتهم على استخدام
الاستدلال الميتافيزيقي لإثبات القضايا الميتافيزيقية الهامة مثل
العقائد الدينية، العقلانية الاساسية للكون، أوهام المادة، عدم واقعية
الشر وغير ذلك. رسل يؤكد على عبث محاولات التفكير هذه لأن الميتافيزيقا
حسب رأيه لا تستطيع بلوغ المعرفة بشأن الكون ككل. هو يسعى هنا لإختبار
هذه الرؤى الافتراضية ليستدل في النهاية على حدود الفهم والمعرفة
الفلسفية.
يُعتبر فكر الفيلسوف الالماني فردريك هيجل 1770- 1831 الممثل
الرئيسي الحديث لهذه الميتافيزيقيات الهامة. ولكن قبل التطرق الى
العملية الديالكتيكية لدى هيجل لا بد من لمحة سريعة عن تطور الفكر
الديالكتيكي.
ان كلمة ديالكتيك مشتقة من اليونانية وتتضمن ثلاثة مفاهيم كلاسيكية.
في كتابات افلاطون يعتبر الديالكتيك وسيلة ذات قيمة عالية لإدراك
الحقيقة، انه مرادف للحوار ومرتبط جدا بطريقة سقراط. اما ارسطو، فقد
اعتقد ان الديالكتيك هو شكل متدني للتفكير، كونه يرتكز على المعرفة
المنطقية بدلاً من المعرفة التجريبية. اما شيشرون، فقد ربط الديالكتيك
بالبلاغة.
كانط والديالكتيك
في العصور الحديثة كان للديالكتيك دوراً حيوياً في تقاليد الفلسفة
الالمانية التي ابتدأت مع كانط. يعرّف كانط الديالكتيك بطريقة مرتبطة
بإحكام بتعريف ارسطو، حيث يرى ان الديالكتيك يستلزم الخداع والوهم في
المعرفة بطريقة مشابهة للسفسطة. بمعنى اخر ديالكتيك كانط لم يعد يوفر
اي قواعد لإيجاد احكام مقنعة، انما فقط يعلّمنا كيف نكتشف الاحكام التي
تحمل مظهرا للحقيقة لكنه في الحقيقة مظهر خادع. ديالكتيك كانط يمكن
اعتباره وسيط للابستميلوجيا المضللة.
ديالكتيكية هيجل
ان الاطروحة الرئيسية لهيجل هي ان " اي جزء من الكل هو بالتأكيد
غير كامل، وهو حتما غير قادر على الوجود بدون المكمل له الآتي من بقية
العالم". الفيلسوف، طبقا لهيجل، يأخذ جزءاً واحداً من الحقيقة ويعيد
بناء الكل منه. كل جزء فيه "كماشات" تربطه الى الجزء القادم الذي بدوره
ينطوي على "كماشة" جديدة. وهكذا فان الكل يمكن ان يتولد من جزء. وهنا
ستنشأ فكرة عدم الكمال الجوهرية في عالم الفكر والاشياء.
يؤمن هيجل ايمانا راسخا بالترابط بين جميع مظاهر الكون. وبعبارة
اخرى، ان ما يبدو من استقلالية للاشياء المتناهية هي مجرد أوهام. هو
يرى ان لا شيء نهائي وواقعي بالكامل عدى الانظمة التصورية المتنوعة
بقدر التنوع في تاريخ العالم وان رحلة الروح الانسانية تعمل طبقا
للبناءات الديالكتيكية. في عالم الافكار، الفكرة المجردة، غير التامة
حالا تفقد عدم اكتمالها الضروري وتصبح متورطة في تناقض، يحوّل الفكرة
الى نقيضها. ولكي نهرب من التناقضات، سنجد "فكرة جديدة اقل نقصاً"،
والتي هي عبارة عن تركيب من فكرتنا الاصلية ونقيضها". التركيب الجديد،
ايضا لا يزال غير تام، وسيخلق تناقضات جديدة ليعيد خلق الدورة من جديد.
هيجل يتقدم في هذه الصورة حتى يصل في النهاية الى "الفكرة المطلقة".
التي هي تامة كليا باعتبارها وصف "للحقيقة المطلقة". هذه الحقيقة
الكلية هي بلا زمن او مكان، "ولا تنطوي على اي درجة من الشر" وهي "عقلانية
بالكامل". عقائدنا بما يخالف ذلك تعود الى رؤيتنا التجزيئية للكل. هيجل
يعتقد بإمكانية ادراك حقيقة "الوحدة الروحية التامة الابدية غير
المتغيرة".
نقد برانتد رسل
اذا كان رسل يميل بقوة الى المظهر المثالي المتعالي لهذه الصورة،
فهو يجد ان الحجة المؤطرة لها هي مضطربة وغارقة في افتراضات لا يمكن
الدفاع عنها. هو يدّعي ان اصل الفكرة الهيجلية هي الايمان بان " ماهو
غير تام" يحتاج الى مساعدة" من الاشياء الاخرى قبل ان يوجد". ذلك يعني
بان الشيء المرتبط بأشياء اخرى يجب ان يحتوي على "احالة" reference
لتلك الاشياء الاخرى داخل "طبيعته الخاصة" لكي يكون على ما هو عليه.
وهذا معناه ان الانسان لا يمكنه الوجود كما هو بدون الوجود المتبادل مع
تلك الاشياء. فلو اُخذ المرء ذاته، كجزء بالمعنى الهيجلي، هو "سيكون
متناقض ذاتيا". يكشف رسل بان رؤية هيجل تعتمد على تعريف "الطبيعة"
باعتبارها" كل الحقائق عن الشيء". وفق هذه الرؤية، نحن لا نستطيع معرفة
طبيعة الشيء ما لم نعرف جميع علاقاته مع الاشياء الاخرى.
يحاول رسل كشف الالتباس في استدلال هيجل. انه بالامكان، ان نمتلك
معرفة بالشيء عبر الاطلاع عليه بدون معرفة الافتراضات بشأنه. طبيعة
الشيء ليست معنية هنا. يقول رسل" الاطلاع على الشيء لا يستلزم منطقيا
معرفة بعلاقاته". وكذلك "معرفة علاقاته لا تتطلب معرفة جميع تلك
العلاقات ولا المعرفة بطبيعته". ربما احد لديه اطلاع تام بألم اسنان
شخص اخر دون معرفة كل شيء عن طبيعته، كما يعرف طبيب الاسنان. مجرد ان
للشيء علاقات لا يعني انها "ضرورية منطقيا". ذلك بسبب ان الشيء هو ما
هو عليه، ونحن لا نستطيع معرفة وجوب ان يمتلك تلك العلاقات ليكون ما هو
عليه.
يتبع من هذه المعارضة لاستخدام مصطلح "طبيعة" هو اننا لا نستطيع
اثبات فرضية هيجل عن الكلي المنسجم، ولا نستطيع ايضا الاعتقاد في خصائص
اللازمنية وعدم واقعية الشر. مع رسل، نحن نعود الى "التحقيق التدريجي
للعالم"، دون معرفة اضافية متحصلة عن تلك الاجزاء من الكون خارج
تجربتنا. هو يشير بان هذه العودة "تلتقي مع النزعة الاستقرائية والمزاج
العلمي لعصره" ومع تحقيقه عن المعرفة في "مشاكل الفلسفة".
الميتافيزيقيون حاولوا اثبات عدم واقعية الاجزاء التي تبدو كعالم
حقيقي باكتشافهم انها متناقضة ذاتيا. غير ان، "نزعة الفكر الحديث"
الحالية تتجه لتوضيح ان التناقضات المفترضة هي مضللة، وان هناك القليل
جداً يمكن اثباته منطقيا من اعتبارات ما يجب ان يكون". المكان والزمان
دعما رؤية الفكر الحديث هذه. انهما بديا سابقا "لا متناهيان في المدى"،
اننا نجد من الصعب تصور الوصول الى بداية او نهاية للخط المستقيم
المستمر او للزمن المستمر، "والقابلية اللامتناهية للانقسام"، التي
تبدو واضحة من اعتبار ان اي مسافة بين نقطتين او لحظتين بالامكان
قسمتهما الى نصفين الى ما لانهاية. بعض الحجج في الفلسفة حاولت اثبات
ان هذه الخصائص وهمية، لتثبت ان المجموعات اللامتناهية هي مستحيلة.
كانط اول من انتبه الى التناقضات بين هذه الحجج والى ما يبدو من طبيعة
لانهائية للزمان والمكان، هو وجد ان الزمان والمكان هما "ذاتيان بشكل
بحت". الاعتقاد بان الزمان والمكان هما فقط يبدوان ظاهراً وليسا
حقيقيين، كان مصدراً ثرياً "للبناءات الميتافيزيقية".
مع ذلك، الميتافيزيقيون ذهبوا أبعد من ذلك واثبتوا امكانية وجود
انواع اخرى من المكان عدى الحيز الاقليدي. ان نوعية الضرورة المرتبطة
ببعض المبادئ الاقليدية وُجد انها تعود الى "ما نألفهُ من حيز حقيقي،
وليس الى اي اساس منطقي قبلي. "المنطق كشف عن هذه الامكانات عبر تصور
عوالم اخرى، لا ترتكز على التجربة". وبينما انحسرت معرفتنا بما هو
كائن، نجد ان احساسنا قد اتسع بما يمكن ان يكون.
يتضح هذا من نقاش رسل في المعرفة بالوصف. بياناتنا الحسية تمكننا من
استنتاج اشياء فيزيقية ضمنية. هذا المبدأ هو ارتباط بين عوالم، ويصف
كيف نتعلم عن العالم المادي عبر التجربة اللامباشرة.
في النهاية يطرح رسل استنتاجات تصل الى ذروة تحقيقه في معرفة
الحقائق. هو يكتب، "معرفتنا البديهية، التي هي مصدر جميع معارفنا
الاخرى عن الحقائق، هي من نوعين: معرفة تجريبية خالصة، تخبرنا عن وجود
بعض خصائص اشياء معينة نحن مطلعون عليها، ومعرفة قبلية خالصة تعطينا
ارتباط بين الاكوان وتمكننا من وضع استنتاجات من حقائق معينة معطاة
بالمعرفة التجريبية. المعرفة المشتقة، بدورها، تعتمد جزئيا على بعض
المعرفة القبلية وكذلك ايضا على بعض المعرفة التجريبية".
ان مشروع الفلسفة هو مشابه للعلم في هذا الاعتبار الميثدولوجي
والنتائج لكلاهما ليست مختلفة راديكاليا. ما هو مختلف جوهريا في متابعة
الفلسفة هو النقد. الفلسفة تراجع المبادئ المسلم بها وهي تقبلها فقط
عندما لا يوجد هناك عدم انسجام او لا توجد هناك اسباب واضحها لرفضها.
كـما في "نقد المعرفة"، يصر رسل على فرض حدود معينة حين يتعلق الامر
بالشك. تأثير الشك هو بنّاء دائما، ما عدى في حالة "الشك المطلق". لا
يمكن التقدم في الجدال مقابل "الشك الفارغ". رسل يطلق على هذا النوع من
الشك بـ "المدمر"و "غير المعقول" في مقابل نموذج ديكارت في الشك
المنهجي، الذي يسميه "جوهر الفلسفة". من خلال هذا الشك، ربما تدّعي
الفلسفة بشكل صائب انها تقلل من "خطورة الخطأ" في المعرفة (مع ان
المعرفة دائما عرضة للخطأ بسبب امكانية تعرّض الانسان له).
استنتاج
يلمح رسل الى ان نظام هيجل هو محاولة لازالة وتجاوز حدود التجربة
الخاصة. المحصلة الاستنتاجية لفلسفة هيجل هي الرؤية الفلسفية بكوننا
قادرين على بلوغ فضاء عام وتام. وبينما هذه الصورة شديدة الجاذبية، الا
انها تعتمد على افتراضات لم تثبت صحتها. يفحص رسل حجج هيجل قبل ان
يكتشف انها غير كافية منطقيا. وبدلا من انظمة ميتافيزيقية متعالية، هو
يناقش فضائل وعادات ان تكون "مؤيد متحفظ للفلسفة". يرى رسل ان
الديالكتيك يسهّل مهمة الفلسفة اذ تعلّمنا كيف نعيش بدون تأكد، وبدون
ان نُصاب بشلل التردد. نحن لاحظنا نجاح "الشك المنهجي" في ما يتعلق
بالبيانات الحسية والاشياء المادية. بعد المزيد من التأمل والتفكير
الدقيق احتفظنا بايماننا بصحة البيانات الحسية، ولكن ليس بايماننا
المنطقي بان الاشياء المادية تتطابق تماما مع تلك البيانات الحسية.
طبقا لهذا المثال، طريقة رسل تُعتبر متواضعة، حتى وان كانت معقدة
وعميقة منهجياً.
......................................................
المصادر
1- SparkNotes :Problems of philosophy, Bertrand
Russell, chapter 14 – The Limits of philosophical knowledge
2- Kim O’connor، جامعة شيكاغو، نظريات الميديا،
شتاء 2003. |