بين دخول الجيش العراقي سنة 2005م محافظة الانبار أيام رئاسة إياد
علاوي للحكومة السابقة، ودخوله المدينة ذاتها مرة أخرى هذه الأيام على
عهد نوري المالكي أكثرُ من ثمانية أعوام كاملة، وقد ظلّ هذا الدخول في
المرّتين حدثا غير عادي في يوميّات السياسة العراقيّة الجديدة، ولاسيما
الدخول الأخير الذي خلّف سيلا من أسئلة مبهمة لن يجد لها كثير من
المتخصّصين بالشأن العراقي جوابا شافيا، من قبيل ما الهدف الحقيقي من
وراء هذا الدخول؟ وما الحجّة من توقيته؟ وما هي الكيفيّة التي سيخرج
الجيش عليها من محافظة الأنبار؟ وما الحصيلة الحقيقيّة لضحاياه ولضحايا
الأبرياء من المدنيين العُزّل؟ وهل تم دخول هذه القوات المسلحة بموافقة
أطراف العمليّة السياسيّة جميعا؟ وفيما لو خرجت هذه القوات ظافرةً فهل
ستعقد العزم على دخول هذه المحافظة العراقيّة الحبيبة مرة أخرى قادمة،
وفي ولاية سياسيّة أخرى قادمة؟
سيلٌ من الأسئلة التي تحتاج مزيدا من الوقت والتفكير والمتابعة في
ظل سياسة حكومية لبلد يستقبل غده الديمقراطي بلا رؤية شاملة للمستقبل،
ودون معالجة حقيقيّة لأصل أزمة الأنبار التي باتت تستفحل مع كلّ دورة
انتخابيّة منذرة بوضع مصير العراق وخريطته الجغرافيّة والسياسيّة في
مفترق طرق.
ومن المؤسف أن ساسة العراق لم يقرأوا درس الماضي القريب جيّدا، وهم
حين يأتون على معالجة نتائج الأزمة فإنّهم يتناسون المقدمات والأسباب
التي صاغت أبعادها، فشيء ممّا يحصل الآن في الأنبار قد حصل في سنوات
سابقة إبان الحقبة البعثيّة، وذلك عندما داهم الجيش العراقي أغلب
المحافظات الجنوبيّة المنتفضة ضد النظام السابق سنة 1991م، وقد عاث ذلك
الجيش فسادا في الممتلكات والأرواح مع الفارق الكبير بين طبيعة
الحكومتين الحاليّة والسابقة بقياسات الديمقراطيّة والوطنيّة وبقياسات
أخرى عديدة لا نطيل الوقوف عندها، غير أننا من الممكن أن نجد مضمونا
واحدا يقف وراء دخول الجيش للمدن العراقيّة الآمنة في الحالتين، وهو
مضمون يعكس إلى حدٍّ بعيد درجة الاحتقان الشعبي التي قد تصل إليها
الأمور في ظلّ سياسة حكوميّة لا تنظر بواقعية واعتدال لما يجري حولها،
فشعور المحافظات الجنوبيّة إبان فترة حكم النظام السابق بالغبن
والتهميش أفرز مستويات متعدّدة من الاحتقان عند السواد الأعظم من الناس،
وهو ما ولّد الاستعداد لقبول أية قوة أو جهة محتملة تدفع عنهم الحيف
والاضطهاد حتى لو كانت قادمة من خلف الحدود دون أن يعني هذا أنّهم
ليسوا وطنيين، أو ليسوا عراقيين، وهذا عينه ما حدث في الأنبار التي لا
ينبغي المزاودة على وطنيّة أهلها، ولا يجوز المساس بطيبة عشائرها
العربيّة، فقد وصل الشعور بالإحباط واليأس من وعود الإصلاح الحكوميّة
عند البعض منهم إلى درجة بات معها مستعدّا لتشكيل حواضن رعاية وتفريخ
لمجاميع الإرهاب المسلّح وتنظيماته التي تسعى لتقويض برامج الحكومة
ومشاريعها المختلفة، سواء أكانت هذه المجاميع محلّية الصنع والولاء، أم
كانت قادمة من خلف الحدود بولاءات وأجندات متنوّعة، ما دامت الحكومة
تصكّ مسامعها عن أصوات الناس وتدير ظهرها لمطالبهم المشروعة.
الآن وبعدما دخل اقتحام الأنبار أسبوعا رابعا نجم عنه وقوع الخسائر
الفادحة بالأرواح والمعدّات، فضلا عن نزوح جماعي تناقلته وسائل الإعلام
المختلفة للآلاف من السكان، فإن بوادر الحسم لا تلوح في أفق هذه
المحافظة الغربيّة، ولا في أفق المناطق المتاخمة لها، وربّما لن تلوح
في القريب العاجل هذه البوادر لأسباب عديدة، عسكريّة ولوجستيّة تتعلّق
بكون العدو الذي تلاحقه القوات الحكوميّة عدوّا وهميّا مجهولا قادرا
على التخفّي والمناورة.
ومن المؤكّد، إن نتائج الحملة على الأنبار ستكون منذرة بخطورة غياب
الحوار والتعقّل في حلحلة المشاكل العالقة بين أطراف العمليّة
السياسيّة بروح ديمقراطية حضارية ينبني على كون الديمقراطيّة ليست
مجرّد صناديق اقتراع تصوّت لها الأكثرية فيُحتكم إلى نتائجها بين كل
المتخاصمين في العملية السياسيّة فحسب، بل هي توافق الجميع على مشروع
مجتمعي وطني إنساني يرعى المصالح العامة للناس، ويحقّق إنسانيتهم ويضمن
أمنهم وسلامتهم وعيشهم الرغيد، وهذا مالم يحصل للآن في تجربة العراق
التي اقتربت من إكمال عقدها الأول، ومازال البعض من ساسة الكتل
والمكوّنات ينعتها كلّما أتيحت لهم الفرصة في وسائل الإعلام، بأنها
تجربة لا تزال طرية العود! في حين إنّ العقد من الزمان في حسابات الأمم
الأخرى هي فترة كافية جدا للتأسيس الديمقراطي والنهضوي السليم، لو
وُجدت نوايا حقيقيّة ودوافع أصيلة لذلك، مقارنة بما يمتلكه بلد مثل
العراق من موقع إقليمي متميّز، ومن قيمة تاريخيّة، ومن طاقات بشرية،
وثروات معدنيّة هائلة.
ومع احتفاظ الحكومة بالحق الكامل في دفع الأخطار المحدقة التي
تثيرها التنظيمات التكفيريّة والأصوليّة المتطرّفة بين آونة وأخرى تحت
المسميّات المختلفة، فإنّ مسألة التفكير في حقوق كل مكوّنات الشعب
العراقي هي مسألة غاية في الخطورة مادام الدستور العراقي مشتملا في
بنوده وفقراته على لفظة ( مكوّن ) أكثر من اشتماله على لفظة (
مُواطَنَة ) بنسبة ثلاثة أضعاف تقريبا، وما دامت المطالب الشعبيّة لا
يمكن نكرانها أو تجاهلها أو الإشاحة عنها على وفق نظريّة الديمقراطيّة
التي من المفترض أنها هي التي تحكم الواقع السياسي الجديد في العراق.
هنا هل يمكننا القول: إنّ اتخاذ قرار اقتحام الأنبار يأتي بمثابة
السهم الأخير في جعبة الحكومة؟ وبالرغم من اختلاف الناس حول طبيعة
السهم الأخير من ناحية كونه أردأ السهام أو أجودها، فإن الناس متفقون
على أنه هو السهم الأخير الذي لا سهم غيره في الكنانة ليُرمى من جديد،
أمّا مقدار جودته أو رداءته، فهذا أمر منوط بقدرة السهم الأخير على
معالجة الأمور الشائكة في المواقف الحرجة، أو بإخفاقه في هذه المعالجة،
وهو سؤال سيظلّ عالقا ينتظر الإجابة مثل كلّ الأسئلة الكثيرة التي
أثارتها عمليّات الأنبار.... |