الضحك.. من التشارك الى الانعزال

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: كبرنا على المثل القائل (ابكي تبكي لوحدك، اضحك تضحك الدنيا معك)، لم تكن أيامنا تلك تقبل أن نعيش بجزر منعزلة عن الاهل او الجار او أصدقاء وزملاء المدرسة، حتى اهتماماتنا الشخصية لها جانب جماعي عن طريق المشاركة بوحا حميما او نقاشات صاخبة.. كانت جلساتنا في الكثير من الأوقات يأخذ تبادل النكتة فيها جانبا كبيرا، وكان الضحك جماعيا، الا من عبس وتولى، لكنه بعد مرور وقت كاف يصاب بهذه العدوى من الضحك الجماعي..

الانسان حيوان ضاحك، مثلما هو ناطق ومفكر، وكتب الكثير عن فلسفة الضحك، وعن دوره في شفاء بعض الامراض، وفي الترويح عن النفس من همومها والتخلص من سموم الكآبة، والعبوس.. وله دور أيضا في تأخير ظهور التجاعيد على الوجه، وغير ذلك من فوائد.

مدح العرب الرجل الضاحك فهو (ضحوك السن) وذموه فقالوا(هو عبوس الوجه جهم المحيا).

نيتشه، الفيلسوف الألماني ارتكزت فلسفته على عمود الضحك، وعن كتابه (هكذا تكلم زرادشت) يقول: (لقد وضعت كتاباً وبكل جدية أقول إنه على غاية من الجد كما لم يسبق لكتاب آخر أن يكون وإن استوعب الضحك).

وهو القائل أيضا: (لما كان الإنسان هو أعمق الموجودات شعورا بالألم كان لابد له من أن يخترع الضحك).

يرصد الفيلسوف الفرنسي (هنري برجسون) والحاصل على جائزة نوبل في كتابه الجميل (الضحك) على أن الضحك يثيره الهزل بشكل عام، سواء هزل الأشكال، أو الحركات، أو الكلمات، أو الشخصيات، وأن لا هزل إلا في الإنسان، بل الهزل هو الإنسان على حد تعبيره. كما حاول وضع منهج يقوم على تحديد وسائل صنع الهزل. يقول في صفحة 11 من الكتاب والذي قام بترجمته إلى العربية علي مقلد:

يبدو أن الهزل لا يمكن أن يحدث هزة إلا إذا وقع على سطح نفس هادئة جداً، متماسكة جداً. إن اللامبالاة هي بيئة الهزل الطبيعية، والضحك ليس له عدواً أكبر من الانفعال.

ويستطرد قائلا:

إن ضحكتنا دوما ضحكة المجموعة، ربما قد حصل لك في عربة قطار أو إلى مائدة في وليمة أن تسمع مسافرين يقصون على بعضهم بعضا قصصاً يُفترض أن تكون هزلية في نظرهم لأنهم يضحكون منها من كل قلبهم، وربما أنكم تضحكون مثلهم لو كنتم من مجتمعهم.. إلى أن يقول:

كم من مرة قيل أن ضحكة المشاهد في المسرح تكون أعرض كلما كانت الصالة ممتلئة أكثر. ويصل الكاتب إلى نتيجة مفادها أن المجتمع ينتقم عن طريق الضحك للحريات التي سلبت منه، وان العلة الغائية لضحك المجتمع هي تصحيح وإصلاح للمظاهر السلبية في المجتمع، وقمع عيوبه، ولا يأتي ذلك إلا بإخجال المضحوك منه كي يراجع نفسه، فهو إذن وظيفة، ووسيلة لإصلاح للباطن.

المجتمع الذي لا يضحك مجتمع مريض، غير متكيف، وغير متسامح. لذلك أنشأت مدارس للضحك في شرق أسيا وأوروبا، لتخفيف التوتر ولعلاج الكثير من الأمراض النفسية والجسمانية . يكفي أن الشخص الذي لا يضحك لا يرغب في مجالسته أو مصاحبته، أو حتى مساعدته أحد .

انتشرت وسائل الاتصال الحديثة بصورة غير مسبوقة، بعد ان تمدد فضاء الشبكة العنكبوتية الى كل شيء في حياتنا، وأصبحت الهواتف المحمولة وبرامج المحادثة المتعددة فيها اكثر من ان تحصى، وكل واحدة لها مميزاتها العديدة..

اصبح الاعتماد على هذه الأجهزة كبيرا جدا، وفرض انماطا سلوكية جديدة على المجتمع، وخلق تاثيرات كبيرة سواءا من جوانب إيجابية او سلبية..

في ورقته المقدمة الى الملتقى الوطــني الأول والذي حمل عنوان (تأثيرات وسائل الإعلام الجديدة على الأفراد والمجتمعات) الذي نظمته جامعة فرحات عباس في سطيف الجزائرية العام 2010.

يرى الباحث (إبراهيم بعزيز) الأستاذ بقسم علوم الإعلام والاتصال في جامعة الجزائر إن ظاهرة (الإدمان الاتصالي) جعلت الأفراد يغرقون في عالم افتراضي أو كما يسميه المختصون (المجتمعات الافتراضية)، ويشكلون لأنفسهم (هويات افتراضية) يتعاملون بها مع نظرائهم من الأفراد المستعملين لتطبيقات الشبكة العنكبوتية المختلفة. كما أن التعرض المستمر لمضامين هذه الوسائل والتطبيقات التكنولوجية الحديثة، قد تجعل الفرد ينشغل عن اهتماماته وقضاياه المصيرية، و ينعزل عن محيطه الاجتماعي، وبالتالي تقل نسبة احتكاكه بمن يحيطون به، مع ما يمكن لذلك أن يحدثه من أثار على الفرد و المجتمع ككل.

وقد أدى هذا الاستعمال المفرط لشبكة الانترنت و خدماتها المختلفة، الى حصول ما يسميه فيليب بروتون (بالثمالة الاتصالية) و بالتالي إلى حدوث عدة انعكاسات على الأفراد المستعملين وعلى المستوى العام للمجتمع، سواء كانت انعكاسات اجتماعية، نفسية، أخلاقية، أو ثقافية.

في دراسة قام بها (كريستوفر سانديرز) نشرت في صيف سنة 2000، تبين أن هناك علاقة بين استعمال الانترنت ومشاعر العزلة الاجتماعية والاكتئاب، وقد بينت دراسة أخرى أن الاستعمال الزائد للانترنت كانت له علاقة مع انخفاض الاتصالات العائلية، ونقص حجم الدائرة الاجتماعية المحلية للعائلة، مع زيادة مشاعر الاكتئاب والوحدة، فالتقنيات الاتصالية للانترنت تجعل الفرد يشعر بمتعة وانبساط، نظرا لإمكانية الحديث مع أشخاص من كل أنحاء العالم وفي الوقت الآني المتزامن، وهذا ما يجعله يستغرق في النقاشات ويقضي أوقاتا دون أن يشعر، و بالتالي (ينفصل عن المجتمع الحقيقي ويدخل في مجتمعات افتراضية)، ويصبح شخصا غريبا عن مجتمعه، وينقص اهتمامه بقضاياه وبأحداث محيطه الاجتماعي، ومع مرور الوقت يتحول إلى شخص منعزل تماما عن بيئته الاجتماعية، ويصيبه ما يسمى (بالانعزال الذاتي)، ويزداد ارتباطه بأصدقائه الافتراضيين، إلى درجة أن يفقد الرغبة في الجلوس لمدة طويلة مع أفراد عائلته وأصدقائه.

النكتة مدخل رئيسي لفلسفة الضحك، وبوابة رئيسية للتشارك الاجتماعي فيه.

والنكتة في دلالاتها المتعددة، الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، تحمل شعارات قد تعبر عن واقع مجتمعي، كانت تنتقل عبر التشارك والمشاركة في القائها وتبادل الضحك حولها، وهي أيضا كانت شفهية تعتمد على الصوت وطريقة القائها، والتي كثيرا ما كانت عاملا مساعدا للاضحاك واحيانا اكثر من طبيعة النكتة نفسها..

بوسائل الاتصال الحديثة، انتقلت النكتة من الشفاهية الى الكتابية، وتخلت عن ابرز عنصرين فيها هما ملقيها ومتلقيها وما كان يدور بين الطرفين من تفاعل مرئي ومحسوس..

اصبح صاحب النكتة الان، يضحك لوحده وهو يرسلها عبر الرسائل النصية، ولا احد يسمع ضحكه، واصبح المتلقي يضحك لوحده او لا يضحك أيضا، وغاب هذان العنصران خلف النصوص المكتوبة المتبادلة بينهما، وغاب بالتالي التفاعل الاجتماعي الذي يثيره الاحتكاك المباشر بين الناس..

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 28/كانون الثاني/2014 - 26/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م