الحاجة الى التفكير في مجتمعات لا تفكر

ملتقى النبأ الاسبوعي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: كل ما يدور حولنا هو معطى للأفكار التي انتجها الانسان في مسيرته الطويلة.. تلك المسيرة تخللتها الكثير من المحطات الصاعدة الى الأعلى او الهابطة الى الأسفل، وهي في حركتها الدؤوبة لا تتوقف عن التفكير في ابداع وابتكار الحلول لمشاكلها، او ابداع تصورات جديدة للمضي قدما في حياتها..

الذات الإنسانية مفكرة في ذاتها وفي ذوات الاخرين، في واقعها ومستقبلها، وهي مندفعة الى الامام لا تلتفت الى الماضي الا بمقدار اخذ العبرة منه، وتجنب السقوط وارتكاب الأخطاء نفسها..

يصح هذا على المجتمعات التي تفكّر/تتفكّر والتي قطعت اشواطا طويلة في ارتقاء السلم الحضاري الفاعل في حاضرنا الراهن..

مجتمعات أخرى تنظر الى التفكير والتفكر كنوع من ترف لا تمتلك مقوماته، وهي تعتقد ان الماضي الذي تمتلكه هو كل الخزين المطلوب لمواصلة حياتها والبقاء على سلم الوجود الإنساني، لكنه وجود خامل وغير فاعل، لا يستطيع ان يقدم منجزا جديدا تشارك فيه منجزات الاخرين..

المجتمعات العربية والمسلمة، لا تنشغل بالشرط الإنساني لوجودها وهو التفكر والتفكير، والذي حث وندب عليه دستور دينهم الإسلامي وهو القرآن، الذي كثيرا ما يركز في خطابه على التفكير والتفكر والتدبر..

ما هو التفكير؟.

انه نقل الواقع بوساطة الحواس إلى الدماغ، وربطه بالمعلومات السابقة لتفسيره أو إصدار حكم عليه.

ويتضمن التعريف أربعة أركان:

(الواقع – الحسّ - الدماغ (الصالح للربط) - المعلومات السابقة).

وأنواع التفكير ثلاثة: السطحي، والعميق، والمستنير.

اما التفكر فهو: تصرف القلب بالنظر في الدليل والتأمل فيه لإدراك المطلوب وصولا للحقيقة.

هذا الشرط الإنساني هو مدار النقاشات التي جرت في ملتقى النبأ الأسبوعي، الذي استضاف الدكتور ماهر مجيد مدرب التنمية البشرية..

انطلق الدكتور ماهر مجيد في طرحه لمصطلح التفكر من خلال التمييز بين الدماغ والعقل، وهذا التفريق بين كتلة من النسيج العصبي ذات درجة تطور مرتفعة والتي تشكل الجزء العلوي من الجهاز العصبي المركزي والمسؤول عن ملائمة جميع النشاطات الإرادية في الجسم، عن السلوك المرتبط بالذكاء، ويتحكم بجميع الوظائف الأساسية في الجسم، وبين العقل الذي هو خاصية الإنسان، والذي يمتاز بالقدرة على التفكير والتفكر..

يحتاج كل مجتمع الى التفكر، لكي يستطيع ان يحل مشاكله ويقدم إضافات جديدة لحياته وتطورها، الا ان الغالب، كما يرى ماهر، على مجتمعاتنا هو انها تتذكر اكثر مما تفكر وتتفكر.. معتمدة في ذلك على صور ذهنية سابقة تستدعيها في معالجتها لمشاكلها الحياتية المستجدة. انها نماذج مستنسخة من الماضي والبحث فيها عن حلول للحاضر..

المجتمعات التي تفكر للمستقبل هي المجتمعات التي تكون اقل عرضة للصدمة او المفاجئة التي يأتي بها المستقبل.

في طرحه لموضوعة التفكير والتفكر، يعود بنا الدكتور ماهر الى حقب التأسيس الأولى لمصادرة التفكير في المجتمعات المسلمة، ويذكّر بما قام به معاوية بن ابي سفيان من محاولات دؤوبة لتفصيل الدين وتعاليمه على مقاسات مصالحه السياسية والتي ساهمت في تشكيل تلك الصور الذهنية في العقل المسلم، وهذا الحائط السميك من تلك الصور والمسلمات والذي لا يمكن هدمه بسهولة، دون بناء منظومات فكرية جديدة تبدأ من الاسرة أولا من خلال نظم تربوية وتعليمية، ونظم سياسية واجتماعية مساندة، وفتح مساحات التفكير الحرة على سعتها، مع الاخذ بنظر الاعتبار عدم المساس بالاخلاقيات، وعدم الاهانة والتجريح، والتفريق بين نوعين من التفكير، الأول يهدم لمجرد الهدم ولا يبني من جديد، والثاني همه البناء وتقديم إضافة جديدة يمكن اختبارها عبر التحقق من نتائجها..

في مداخلته يستشهد مرتضى معاش مدير مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام بقول للامام علي (عليه السلام)، وهو (ما اكثر العبر واقل الاعتبار). والتي يرى فيها دعوة الى تحليل احداث الماضي واخذ العبرة منها لبناء الحاضر..

يتفق معاش مع الملاحظة التي ابداها الدكتور ماهر حول مجتمعاتنا التي تتذكر اكثر مما تفكر، مستدلا على ذلك بالعراقيين وقدرتهم على تذكر كل شيء من ماضيهم بانكساراته واحباطاته وبعض وجوهه المشرقة، لكنهم في المقابل لا يبذلون جهدا في التفكير لتغيير حاضرهم..

يعزو معاش ذلك، الى منظومة القيم التي تسود فيها المركزية الشديدة في التخطيط وفي العمل في المجتمع العراقي والمجتمعات الأخرى، مع عدم منح او إعطاء التفويض للآخرين الذي يساهم في الحد من هذه المركزية وثقافتها السائدة..

ويناقش في مداخلته جغرافية التفكير العالمية، التي يبرز فيها النموذج الغربي من خلال لامركزيته في الاعمال وفي التحرر الفردي.. وفي المجتمعات الشرقية طغيان تلك المركزية والعمل الجماعي، كما يلاحظ في الكثير من تلك المجتمعات..

في مداخلته يعترض مرتضى معاش على الكثير من صور التفكير السائدة، والتي كل همها تهديم الأطر والقواعد، ظنا منها انها تحسن صنعا، لكنها في الحقيقة، تقيم حصونا وقلاعا من قوالب ومسلمات جديدة مطلقة لا تقبل النقاش حولها او المساس بها، ودون اعتبار لبعض الثوابت الإنسانية الكبرى للمسلمين، مثل الايمان والغيب.

يتساءل مرتضى معاش: ما هو الحد الذي يحول التفكير الى حالة إيجابية، وكيف يستفاد من التفكير لتغيير المجتمع؟.

يجيب: إيجاد قواعد للتفكير، والى قواعد للحوار المتبادل الذي يتبادله المتحاورون في ما يفكرون فيه..

يختم مداخلته باستعارة معنى لاحد اقوال الامام علي عليه السلام، وهو اذا لم تكن ناطقا حكيما فكن مستمعا واعيا.

يطرح الإعلامي عباس سرحان سؤالا افتتاحيا في مداخلته يصيغه على الشكل التالي:

لماذا نسير بهذه الطريقة من عدم التفكير والتفكر؟ يقدم عدة أسباب لذلك:

اغلب مجتمعاتنا تعود في جذورها الى القبلية والعشيرة، فشيخ العشيرة هو من يحكم، وهو من يفكر نيابة عمن يحكمهم، انتقل ذلك الى القادة السياسيين وبعض الزعامات الدينية، التي فرضت تلك الطريقة والسلوك على اتباعها.

سبب اخر يضيفه سرحان، وهو تقديس التاريخ وعدم اخضاعه للمناقشة وإنتاج أفكار جديدة تنسجم وروح العصر.. وهو في الوقت الذي يدعو فيه الى حرية التفكير، يضع شرطا لهذه الحرية، وهو عدم الانفلات من كل القيود الأخلاقية التي تفرضها المسؤولية، مسؤولية حمل الحرية والدفاع عنها..

هناك بوادر تغيير في تحكم القبيلة او العشيرة، كما يرى الشيخ مكي الحائري في تعليقه على الكلام السابق، ويضرب مثلا من خلال ما كان سائدا قبل ثلاثة عقود في دول الخليج وهي التجمعات والملتقيات الاجتماعية التي تعرف باسم (الديوانيات) والتي أصبحت غير ما هي عليه الان، وكذلك كثرة المبتعثين من دول الخليج الى اوربا وامريكا وحملهم لثقافة جديدة تحاول التغيير في مجتمعاتهم..

سبب اخر يراه احد المعوقات لتغيير طرق تفكيرنا وهو الحسد، الذي يقف حائلا امام تقدم أصحاب الأفكار المبدعة وتأثيرهم في مجتمعاتهم.. وهو ينقل صورة لهذا المعوق من خلال حادثة تكشف عن طريقة مبدعة في التفكير والغاية منه للتغيير المنشود بعيدا عن الأضواء او الشهرة.. حين التقى احد رجال المخابرات في احد الدول بالامام الشيرازي الراحل، وبعد ان توثقت علاقته به بعد ما رأى من سلوكه واخلاقه، يطلب ذلك الرجل من الامام الراحل ان يبرءه الذمة على ما قام به في احدى المرات التي قام فيها بعملية تفتيش لاحد منازل طلابه، وكيف اخذ كتابا مخطوطا للامام الراحل، ثم طبعه تحت اسمه.. فما كان من الامام الراحل الا ان ينادي احد العاملين في مكتبه لجلب مجموعة من الأوراق واعطاها لهذا الرجل قائلا له: هذا الجزء الثاني من الكتاب اطبعه أيضا تحت اسمك..

بينما يعزو احمد جويد تراجع التفكير والتفكر في مجتمعاتنا الى نظم الحكم الاستبدادية، والى ثقافة الاستبداد في الرأي أيضا فالحكومة هي التي تفكر نيابة عن مواطنيها، وكذلك شيخ العشيرة والاباء. حتى وصل الامر في زمن النظام السابق ان الدراسات العليا تكون عناوينها عادة محصورة في استلهام خطب وكتابات القائد الضرورة والحزب الحاكم..

ولغرض تطوير منظومات التفكير في مجتمعاتنا يقترح احمد جويد:

رفع الغطاء عن حرية التفكير ولكن في اطار حدود وثوابت، تحترم المعتقدات والأخلاق.

احترام الفكر والفكرة.

رعاية التفكير.

يطرح محمد معاش سؤالا يعتبره جوهريا في معادلة من يفكر ومن لا يفكر، وهو لماذا نلجأ الى الغرب في تعلم منهجيات التفكير والتفكر، رغم وجود جذرها التأسيسي في ديننا الإسلامي، ويخلص الى اننا لا نمتلك منهجا للتفكير والتفكر في واقعنا المعاصر، لغياب او تغييب ذلك التأسيس.

تأثير القيم هو الاطار الذي يحدده الباحث جميل عودة، وهي القيم الثقافية والاجتماعية التي تقف مانعا من التحريض على التفكير والتفكر، والتي يراها تنقسم الى ثلاثة اركان من الإعاقة والمنع هي:

عدم وجود محفزات التفكير.

عدم وجود مهارات التفكير.

عدم وجود مشتري لنتاجات التفكير.

وهي التي أدت الى تقدم مستويات أخرى من التفكير السلبي والتي اثرت على كل تفكير إيجابي يمكن ان يسود وينتشر، وهو يقترح ان يكون التغيير في طرق تفكيرنا من خلال العائلة أولا، عبر برامج واليات تدعمها الحكومة ومنظمات المجتمع المدني.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 27/كانون الثاني/2014 - 25/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م