شكلت الصراعات الداخلية التي طالما تواجدت على مساحة اغلب الدول
العربية كابوسا مرعبا للكثير من شعوبها، فقد توالدت هذه الصراعات منتجة
مشاكل أكبر واوسع واكثر تعقيدا، بحيث تكاد هذه الصراعات
(الحديثة-القديمة) ترسم في مخيلة كل مواطن عربي سلسلة من سنوات العنف
والرعب والاضطراب التي غيرت ملامح تلك الدول وجعلتها تعيش في ازمات
متلاحقة وعميقة.
البعض يرى ان تلك الصراعات انطلقت منذ اتفاقية (سايس- بيكو) حيث
قسمت المنطقة لمناطق نفوذ بين فرنسا وبريطانيا، هاتان الدولتان اللتان
لم تخرجا من المنطقة الا بعد ان قسمتا الوطن العربي وسلمت السلطة فيه
لبعض العائلات الحاكمة، غير ان البعض الاخر يرى ان اسباب تلك الصراعات
ترجع الى عهد مابعد الرسول الاكرم (صلى الله عليه واله) وماجرى من بعده،
فيما ذهب ثالث الى طبيعة النشوء للقبيلة العربية وبيئتها ومارافقتها من
قسوة المعيشة في حياة البداوة.
مايخيف في هذا المشهد ان تلك الصراعات بدأت (تعيد إنتاج ذاتها)
بأشكال مختلفة، وأحياناً بأشكال مماثلة متكررة، سواء في الصراع المحلي
الذي أصبح اليوم سمة المرحلة الراهنة بين القبائل والطوائف والمذاهب،
سواء عند انحسار السلطة المركزية أو عند تحللها، كما يحدث الان في دول
الربيع العربي.
امثلة لبعض الصراعات العربية:
1-الصراع الداخلي في المغرب على خلفية فشل التجربة الديمقراطية في
المغرب (1963-1965)، حيث برزت مشكلة الصحراء الغربية كأهم مشكلة مؤثرة
في الصراع الداخلي المغربي.
2-الصراع الداخلي المستمر في الجزائر منذ شهر مايو/ أيار 1991 على
خلفية المظاهرات والاحتجاجات التي تطورت نتيجة لإلغاء الانتخابات،
وتدخل الجيش لمنع تأثير الإسلاميين حين فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ
(Islamic Salvation Front) بالجولة الأولى للانتخابات، وانفجر الصراع
بين الإسلاميين والحكومة نتيجة إلغاء نتائج الانتخابات.
3- في البحرين هناك جذور مذهبية للصراع الداخلي، تقوم على الدور
الذي يطالب به الشيعة على المستوى السياسي، وساهمت عملية تقييد أو الحد
من الحريات في حدوث عدة اضطرابات ومواجهات مع الحكومة بدأت منذ عام
1975، عندما قام الأمير عيسى بحل المجلس القومي وحصر القوة وجميع
السلطات بيده.
4- في مصر حيث يرتبط الصراع الداخلي بين بعض الجماعات الإسلامية
والحكومة على خلفية طبيعة الحكم والعلاقة مع إسرائيل، مضافا اليها
مايحدث بين المسلمين والاقباط بين الفينة والاخرى.
5- في العراق حيث اكثر من وجه للصراع فمن جهة اولى الصراع (القومي)
الكردي- العربي المتمثل بصراع حكومة المركز والاقليم، ومن جهة ثانية
الصراع (المذهبي) السني- الشيعي.
6- في الحالة اليمنية حيث جذور الصراع الداخلي يتجسد في بنية النظام
الاجتماعي القائمة على البعد القبلي، وانعكاس هذه البنية في الحالة
السياسية والأمنية في اليمن، بالإضافة إلى مشكلة الوحدة التي تمّت على
أساس قسري باستخدام القوّة العسكرية.
ورغم ان الشعوب العربية تعيش انطلاقة جديدة بربيعها الديمقراطي غير
انها في الوقت ذاته تغرق بعوامل الاقتتال والصراعات التي باتت تهدد
نسيجها الاجتماعي وتماسكها الوطني، بحيث شكلت هذه الصراعات تهديدا
حقيقيا لتماسك الشعوب العربية برمتها وادخلتها في اختبار اقل مايقال
عنه بانه (ازمة مزدوجة)، وفي حين ترغب اغلب هذه الشعوب بالتخلص من
كوابيسها المرعبة المتمثلة في حكومة العسكر، داهمتها كوابيس الصراعات
الداخلية (مذهبية - طائفية- قومية).
لم تكن هذه الصراعات وليدة الصدفة ولا حديثة النشوء فبغض النظر عن
فترة ولادتها، فانها ترعرعت في بيئة مهيئة من خلال عقود وسنوات من
التراكم الذهني والاجتماعي والانفعالي بالحكم الشمولي واطار الحزب
الواحد الذي حاول تسخير هذا الصراع لإطالة بقاؤه في الحكم، ورغم ان
اسباب هذه الصراعات اكبر من ان يحويها مقال او بحث الا انها يمكن ان
توجزه بعدة اسباب رئيسية تتفرع منها اخر ثانوية وتتمثل في عدة نقاط
اهمها.
الاسباب
1- اول هذه العوامل واهمها تكمن في ازمة شرعية السلطة السياسية
الحاكمة في الوطن العربي، إذ أن غالبية الأنظمة لم تصل إلى السلطة
بوسائل ديمقراطية حقيقية، لذا فإن انتماء الشعب للنظام السياسي محدود
أو هامشيا، ويكاد ينحصر في المصالح الضيقة لبعض فئات الشعب، هذه
الانظمة حاولت ايجاد فئات من الشعوب تنتمي لها ولو شكليا (طائفيا او
قوميا) لتجعل منها مصد رياح تجاه الفئات الاخرى، وجود مثل هذه الانظمة
اوجد فئات كبيرة من الشعوب معارضه لها مما جعلها بتصادم مع بعض الفئات
التي ترى في الحكم الموجود حكما شرعيا وقانونيا (حسب وجهة نظر الاخيرة)
وهنا كانت انطلاقة شرارة احدى تلك الصراعات.
2- كما يمكن أن تطرح قضية هيمنة الأقلية على الأغلبية في بعض الدول
العربية مع عجز هذه الأقلية غالباً، عن الحصول على الشرعية بالإرادة
الحرة، ما لم تكن تلك الاقلية مصادرة لحقوق الاغلبية بشكل مروع على مر
التاريخ مضافا لها الاضطهاد الذي تمارسه في حكمها.
3- النخب السياسية كانت عاملاً من العوامل الرئيسة في صنع الصراعات
وتأجيجها متخذة من ذلك وسيلة لترويجها السياسي كوسيلة للكسب السياسي
بطريقة التخندق الطائفي او الاجتماعي.
4-عامل القيم يحدث عندما تكون هنالك منافسة وتعارض على الأفكار أو
المعتقدات الدينية او العادات الأخلاقية او الاختلافات التربوية عند
الافراد او الجماعات وصراعات القيم هو بحد ذاته صعب الحل ، ففي الدول
العربية يكون هذا النوع من الاسباب مزدوج التأثير ففي ذهنية كل طائفة
تاريخ مثقل ضد الطائفة الاخرى او القومية من الصراع التاريخي يعيش مع
الطرفين ويؤثر حتى في تصرفاتهم اليومية.
5-عامل الهوية واحد من اكثر العوامل تسببا في نشوء الصراعات،
فالصراع حول الهوية او صراع الاعراق، الذي يحدث عندما يكون الشخص أو
مجموعة اشخاص يشعرون بأنهم مهددون نفسيا او جسديا من قبل الاخرين، وهذا
النوع موجود حتى في نفس الطائفة الواحدة والمنطقة الواجدة من حيث
الترتيب الشرفي بعلوية بعض العوائل او العشائر ودونية الاخرى من وجهة
نظر الاولى.
6-العامل الديني الذي سُخر بشكل مخيف في تأجيج مثل هذه الصراعات،
خصوصا بوجود اجواء الشحن الطائفي والتشدد الذي انتشر في اغلب البلدان
العربية، وظهور (تجار الاديان) في فترات ليست بالقصيرة واستخدامهم لذوي
العقول البسيطة والسذج من العامة شكل جيشا من المقاتلين (فاقدي العقول)
لزجهم في أي صراع دون فهم ابعاده.
صورة المستقبل
لايبدو ان المستقبل القريب سيشهد انفراجا سريعا لتلك الصراعات بل ان
اغلب المؤشرات تتجه بتصاعد حدتها وقد تنشا اخرى ضمن معادلة (توازن
الصراع) الذي يعمل بعض بناة الازمات الاقليميين على خلقه هذه الايام،
خصوصا بتصاعد شدة الحرب على تنظيمات ارهابية في المنطقة وتغيير المواقف
عند الكثير من الدول العالمية، غير ان تلك التصاعدية سيتبعها على
مايبدو خفوت لاحق خصوصا بوجود توجه عالمي (بتبريد المنطقة) حيث التحرك
الدولي على عزل مصادر تمويل جماعات العنف وتهدئة المنطقة عموما.
الحل المطلوب
إن تطور مفاهيم المجتمع المدني الذي يسهم في بناء مؤسسات تستوعب (البُنى)
الأهلية والتي تسهم في دمج أفراد المجتمع سيكون له دورٌ كبيرٌ في
التخفيف من الصراعات العربية الداخلية مستقبلاً وهذا لايمكن ان يوجد في
صفقة واحدة بل يكون البناء العمودي والافقي فيه متوازيان، ففي الوقت
الذي تبدا الحكومات العربية (المنتخبة) فعليا برنامج (لم الشمل) ببناء
دول يتشارك فيها كل افراد المجتمع بتوازنهم الحقيقي، فان ازالة اثار
الماضي وتضميد الجراح الناتجة من الصراعات يجب ان تكون العمل الافقي
الذي يرافق البناء العمودي، وقد يتم هذا عن طريق:
1- أن تقوم الدولة بدورها الطبيعي بخدمة جميع فئات المجتمع من خلال
تحقيق العدالة الاجتماعية، والصعود بروحية المجتمع الى الكرامة الفعلية
دون تمايز بين الفئات مطلقا.
2- ان لاتصنف الحكومة التنفيذية في بلد ما في اطار طائفة او قومية
معينة بل يجب ان تكون لونا وعملا حكومة البلد بكل اطيافه.
3- المبادرة بحل المشكلات المتجذرة ولو بخريطة طريق تمتد لسنوات
وعدم دس الرأس في التراب منها، او تفسيرها على انها مشاكل عابرة او
تشويهها عبر اتهامها بالارتباط بأجندة خارجية وما شابه.
4- معالجة مسألة الفقر التي تعصف ببعض البلدان العربية والتي تشكل
بيئة لاندفاع اغلب فئات هذا المجتمع الى الدخول بالصراع نتيجة الفراغ
والبطالة او للكسب اصلا من خلال الحروب.
5- المساهمة الفاعلة لمنظمات المجتمع المدني والاعلام في تقليص
مساحة الفراغ بين فئات المجتمع واطراف الصراع ببناء الفكر الوطني
والخطاب الانساني وحصر الاعلام المنفلت والمحرض في خانة عدم الاصغاء.
6- التركيز على ايجاد ثقافة عامة خصوصا في المراحل الدراسية تبدأ من
الطفل في نبذ العنف وتذوب الحواجز النفسية، تبتعد عن الفواصل الزمنية
ذات الحساسية الخاصة والمواقف التاريخية المختلف فيها.
7- يجب ان يكون للصوت الديني المعتدل الاثر الواضح في تهدئة النفوس
وعزل الاصوات المتطرفة.
قد يرى البعض ان ايجاد حل للصراعات الحالية شيء مستبعد غير ان
البقاء على وضع الاستسلام لواقع هذه الصراعات سيكون له عواقب وخيمة على
حاضر ومستقبل الجميع سواء من كان ضمن دائرة الصراع او من هو خارجها،
فكثير من فئات المجتمع الصومالي والعراقي والمصري ليس طرفا في النزاعات
الحالية، غير انها تدفع ثمنا باهظا في حياتها اليومية اولها حالة
الاستقرار الاجتماعي والامني وقد يفقد الكثير حياته نتيجة عشوائيات
العنف التي تطال الجميع بسبب تلك الصراعات، لذا فمن الواجب ان يتحرك
الجميع باتجاه التفكير الجدي بإيجاد مناخ هادئ للتفكير في مجتمع مستقر
ومتعايش.
* مركز المستقبل للدراسات والبحوث
http://mcsr.net |