العلوم الإنسانية في الجامعات العراقية

في ملتقى النبأ الأسبوعي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: الإنسان هو ميدان ما يطلق عليه العلوم الانسانية، وهي بمجموع اختصاصاتها تدرس النشاط البشري من خبرات وأنشطة، وبُنى، وصناعات مرتبطة بالبشر وتفسيرها. وتسعى هذه العلوم لتوسيع وتنوير معرفة الإنسان بوجوده، وعلاقته بالكائنات والأنظمة الأخرى، وتطوير الأعمال الفنية للحفاظ على التعبير والفكر الإنساني.

في جلسته الاسبوعية التي يحضرها عدد من المثقفين والاكاديميين، طرحت موضوعة تراجع دراسات العلوم الانسانية في الجامعات العراقية، وتراجع دورها أو انعدامه في المجتمع العراقي، مع تقدم اختصاصات اخرى عليها مثل الطب والهندسة، وايضا النظرة المجتمعية الى حملة شهادات العلوم الإنسانية والتي تقترب من الدونية او الاحتقار، او نظرته الى حملة شهادات الدراسات العلمية وما تدره على حاملها من اموال، او ما تتيحه اليه من فرص للعمل..

يفتح الشيخ مرتضى معاش نافذة على الموضوع والنقاش حوله من خلال قوله ان التنمية في المجتمع العراقي اذا اريد لها الانطلاق لتغيير الكثير من هذا الواقع الذي نعيشه، يجب ان تستند الى رؤى وابحاث المتخصصين في العلوم الانسانية، الذين بإمكانهم تشخيص الخلل والمعوقات واجتراح الحلول والمعالجات لها..

والعلوم الانسانية، يقول مرتضى معاش، تتيح لنا معرفة تلك التجارب التي قدمتها شعوب وثقافات اخرى، وتتيح لنا معرفة طرق تفكيرها.. ويذكّر بأهمية هذه العلوم من خلال استحضار الاهتمام بها من قبل البريطانيين في توجههم نحو استعمار الكثير من البلدان وكيفية تعاملهم مع شعوبها، وفقا لدراساتهم الرائدة في الاستشراق والعلوم الانثروبولوجية..

عن النظرة المجتمعية، يؤشر مرتضى معاش الى قضية مهمة لها علاقة في تحديد وجهة الدراسة التي يختارها افراد المجتمع العراقي بضغوط عائلية في كثير من الأحيان، وهي اختيار الدراسة بناءا على الفرص التوظيفية مستقبلا بعد التخرج والتي لا تستطيع العلوم الإنسانية منافستها او مجاراتها في هذه الفرص، مما يخلق اقبالا على دراسات بعينها كالطب والهندسة على حساب تراجع الاقبال على العلوم الإنسانية، وينسحب هذا أيضا على الاعمال اليدوية التي تحضر بكثرة في سوق العمل لما تدره من دخول مادية لاتصل اليها الاعمال الفكرية والثقافية.. أي ان قيمة كل عمل في مجتمعاتنا يحددها مقدار الكسب المالي المتأتي عنها، لهذا يجب تغيير هذه النظرة المجتمعية للدراسات والاعمال المتعلقة بها..

سبب اخر يراه معاش سائدا في المجتمع العراقي، وهو ليس وليد لحظة التغيير بعد العام 2003 بل يمتد الى ابعد من ذلك، الا انه اصبح اكثر رسوخا بعد ذلك العام، وهو ما يسميه الولاء والكفاءة..

الولاء لحزب او شخصية سياسية او اجتماعية يتقدم الصفوف في المواقع الإدارية بغض النظر عن الكفاءة وما يتطلبه الموقع الذي يحتله الشخص المسؤول، بهذا تتراجع الكفاءة الى الصفوف الخلفية، ولا تجد لها مكانا للعمل والتنافس، مما يؤدي الى اضمحلالها وغيابها عن جميع المواقع، التي تحتلها الولاءات الفرعية والتي تساهم في تراجع جميع الاعمال المرتبطة بها، وبالتالي تراجع حركة المجتمع نحو التغيير..

في معرض رده على مداخلة من الصحفي حيدر مرتضى علي، والتي دارت حول رأي رجل الدين تجاه بعض الكتابات في العلوم الإنسانية ومدى قبوله بتلك التحليلات والتوصيفات، رأى مرتضى معاش ان العلوم الإنسانية هي علوم نسبية وليست مطلقة في تحليلاتها ونتائجها التي تتوصل اليها، وهي أيضا تعتمد على مناهج ومقاييس غربية مستنسخة وتحاول تطبيقها ونتائجها قسرا على واقع اجتماعي مغاير للواقع الذي نشأت فيه تلك المناهج..

محاولات الاستنساخ والقسر ستبقى مستمرة، طالما ان الحضارة التي نستنسخ منها هي الحضارة السائدة والغالبة.

يقترح مرتضى معاش كحل لهذا التراجع في دراسات العلوم الإنسانية، ان يكون لدينا تخطيط استراتيجي بعيد المدى للمشاكل والمعوقات الاجتماعية واستشراف اثارها المستقبلية، حتى نستطيع تقديم رؤية رصينة للحل، إضافة الى تغيير معايير القبول في دراسات العلوم الإنسانية ورفعها مقارنة بالدراسات الطبية والهندسية..

يشارك الدكتور احمد عبد الأمير الأستاذ في جامعة بغداد، في النقاش مستعرضا تجربة الاخوان المسلمين في مصر، والتي اغلب قياداتها من حملة الشهادات العلمية البحتة كالطب والهندسة، والذي يرى ان فشلهم خلال عام واحد، بعد عمل متواصل لسبعين عاما، سببه الرئيسي عدم وجود التخصصات العلمية الإنسانية في صفوف قادته، مما أدى الى عدم معرفتهم بمشاكل المجتمع ومعوقات تغييره، ويقارن بينهم وبين الكتل السياسية العراقية التي تميل الى الاستعانة بالشخصيات ذات الاختصاصات العلمية البحتة كنواب ووزراء، والذين لم يستطيعوا ان يقدموا شيئا في عملهم، او حتى تكون لهم وجهات نظر يطرحوها في جلسات مجلس النواب..

ويضرب مثلا لذلك، وزارة حقوق الانسان والتي تعتمد في عملها على البحوث والدراسات الامريكية حول المكونات الاجتماعية العراقية، ويستشهد بمثل اخر، حول مادة إعلامية متخصصة جرى استحداثها في احدى الكليات العراقية دون توفر أستاذ متخصص فيها، يفترض رئيس الجامعة ان أي أستاذ يمكنه تدريسها..

وحول تراجع العلوم الإنسانية، يرى عبد الأمير ان ذلك يعود الى عدم استعداد السياسيين على الاستعانة بجهود الباحثين والمتخصصين والخبراء في العلوم الإنسانية، وعدم جدية واهتمام المسؤولين الاداريين بهذه النخبة..

وهي حالة تعود الى النظام السابق، حيث لم يكن احد يعترف بجهودهم إضافة الى انشغال هذه النخبة طيلة سنوات الحصار بمحاولة الاستمرار في العيش والبقاء على قيد الحياة..

وبعد العام 2003 انشغلوا بالوظائف والامتيازات في محاولة منهم لتجاوز سنوات الحرمان والعوز التي عاشوها وعانوا منها، وسبب اخر يذكره وهو عجز المؤسسات الحكومية وعدم قدرتها على التغيير..

في مداخلته يرى الصحفي حيدر مرتضى علي، ان الخلل في تراجع العلوم الإنسانية يكمن في الادارات الرسمية والتي لا تعتمد على معايير واقعية وعلمية في قراراتها التي تتخذها، مع التركيز الحكومي على القطاعات العامة واهمال قطاع العمل الخاص وتركيزها على الاختصاصات العلمية البحتة واهمال الاختصاصات الإنسانية..

الإعلامي عباس سرحان يعزو الخلل الى المراكز البحثية ومسؤوليتها المباشرة في تراجع دورها وتاثيرها وبالتالي تراجع العلوم الانسانية، بسبب غياب الدراسات والأبحاث الرصينة وعدم الاهتمام بالجانب الإعلامي في الترويج لبحوث المراكز البحثية وعدم تسويقها للراي العام المجتمعي..

ويشير أيضا الى حقيقة ثقافية موجودة في المجتمع العراقي، والتي تحدد المكانة والوجاهة الاجتماعية للإنسان تبعا للعمل الذي يزاوله، فالطبيب يكون على اول السلم الاجتماعي، وبعده يأتي الآخرون تبعا لأعمالهم، حتى وصلت على سبيل المثال، احتقار مهن واعمال أخرى وخاصة اليدوية منها مثل الحائك وزارع الخضار...

يذكر الدكتور علي محمد ياسين في اشارته الى نظرة المجتمع نحو أصحاب الشهادات في العلوم الإنسانية، مثلا من أمريكا، حيث يتوجه أبناء الذوات الى الدراسات الإنسانية كالقانون مثلا، لسبب بسيط وهي ان تلك الدراسات تتطلب جهدا فكريا شاقا لدراستها متقدمة على العلوم البحتة. ويورد مثلا اخر حول تأثير الاستغناء عن العلوم الإنسانية وما يستتبع ذلك من خواء فكري يصيب المجتمعات التي تستغني عنها، ويستحضر تجربة الثورة الثقافية التي قادها ماوتسي تونغ في الصين، والتي انكفأت على العلوم البحتة لأغراض التنمية، وبعد ثلاثة عقود، يكتشف الصينيون حجم المشاكل الاجتماعية التي خلفتها حركة التحديث والتصنيع في مجتمعهم والتي لم تواكبها حركة أخرى نحو العلوم الإنسانية.. ويطالب محمد ياسين المؤسسات الحكومية والتعليمية بإعادة الاعتبار للتخصصات الإنسانية..

يرى حيدر الجراح: أن العلوم الانسانية بما ان مجالها هو الانسان، فإنها تكشف عن مشاكله ونقائصه وعيوبه، وبالتالي تكشف ما يعاني منه المجتمع، وهذا الكشف يضعه امام حقيقته الصادمة، وبالتالي فان دور العلوم الانسانية يتراجع تاثيره بسبب هذه التابوات الثلاثة (السياسة – الدين – الجنس) التي تحاول الدخول الى بواطنها واكتشاف الخلل في بنياتها الفكرية التي تقوم عليها..

ويضيف أسبابا أخرى، تأخر المناهج الدراسية مع قريناتها في جامعات العالم، الوجاهة الاجتماعية التي تتيحها التخصصات العلمية البحتة لحامليها، كالطبيب والمهندس والصيدلي اضافة الى المردود المادي لأصحاب هذه التخصصات.

ويتطرق الى (السلطة المعرفية) التي تحوز عليها طبقة الاكاديميين، والتي تشعر بالتفوق والتعالي على المثقفين او الجماهير الاقل تعليما، وبالتالي عدم الكتابة في الصحف اليومية والمجلات الثقافية واقتصار نشاطهم البحثي على المجلات المحكمة التي يقرؤونها هم ويتبادلون افكارهم فيما بينهم.

على العكس من جميع وجهات النظر التي طرحت، يرى الدكتور عمران كركوشي الأستاذ في جامعة كربلاء، اننا لا نمتلك دليلا حول تراجع مستوى الاهتمام بالعلوم الإنسانية، من خلال ذكره بعض الأرقام المتعلقة بزيادة عدد الكليات في جامعة كربلاء على سبيل المثال، والتي قفزت من ثماني كليات الى ستة عشر كلية منذ العام 2008 ، ولا يعود السبب الى عدم الاهتمام الحكومي، بقدر ما يعود الى ضعف الكادر الاكاديمي في عملية التأثير، ويذكر ان في نفس الجامعة يوجد اكثر من ستمائة أستاذ، الا انهم رغم ذلك ليس لديهم نقابة ينتظمون فيها..

يتحدث الدكتور عمران عن المثقف والسياسي والاكاديمي، ويطالب بإعادة تعريف المثقف ودوره ووظيفته في المجتمع، بعد انتقاله من حالة الحصار والحرب الى الانفتاح غير المحدود على العالم والثقافات الأخرى..

المثقف غاب تأثيره بسبب السلطة السياسية التي تنظر اليه نظرة خوف او شك، ومحاولة شراء صوته.. اما الاكاديمي فهو القادر على انتاج المعرفة، لكن دوره تراجع في ذلك بسبب الكسل والعجز والتثاقل في التعاطي مع الواقع العراقي عبر الكتابة والنشر في الصحف اليومية.. وهو في هذا يعزو السبب الى عدم تكون رأي عام عراقي يمكن له ان يتعامل بجدية مع النتاج الفكري الاكاديمي، بسبب اعلام يوجهه الجهلة والطارئين عليه.. ولا ينسى في كلامه الإشارة الى غياب المناهج الدراسية في العالم الثالث القادرة على استخراج المعرفة، واعتمادهم في ذلك على المناهج الدراسية الغربية.. ويوجه دعوة الى الاكاديميين لمشاركة المجتمع في مشاكله واجتراح الحلول لها.

كانت هناك أيضا عدد من المداخلات لآخرين في الملتقى، منهم الشيخ مكي الحائري، والذي يوسع دائرة عدم الاهتمام بالعلوم الإنسانية الى دول أخرى مثل ايران عبر تجربة عاشها احد أصحاب الشهادات العليا في العلوم السياسية، وسخرية المحيطين به من تلك الشهادة، التي لا تسمن ولا تغني من جوع..

وأيضا حقيقة الوجاهة الاجتماعية التي تتيحها التخصصات العلمية البحتة، وانتقال ذلك مع العراقيين حتى الى دول مهجرهم، والتفاخر بها امام الاخرين..

وردا على غياب المناهج الدراسية يذكر بالجهد المعرفي للامام الشيرازي الراحل في كتابه (الفقه الاجتماع)، وهو الذي يرى فيه منهجا إسلاميا متكاملا في هذا العلم..

اما حيدر المسعودي التدريسي في جامعة كربلاء، فهو يرى افتقار العلوم الإنسانية الى اطار تعليمي واضح ويطالب الباحثين بوضع معايير علمية صارمة لهذه العلوم.

عدنان الصالحي مدير مركز المستقبل للدراسات والبحوث يرى وجوب فك هذه النظرة المجتمعية للحكومة ووظيفتها من خلال الاعتماد المطلق على ما تقدمه، والتأسيس لنظرة جديدة يصبح المجتمع وخاصة نخبه المثقفة هو المفكر لنفسه ومن اجلها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 20/كانون الثاني/2014 - 18/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م