محمد (ص) بين إسلامين!

في ذكرى مولده السعيد

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: في أيام الذكرى العطرة لمولد خاتم الأنبياء والمرسلين، ومنقذ البشرية، نبينا الأكرم، صلى الله عليه وآله، يكون فرحنا وسرورنا وابتهاجنا بقدر أسفنا وشجوننا. فقد بشّر البشرية جمعاء بقيم اخلاقية وانسانية، حقق بها المعجزة الخالدة بتأسيس أمة الخير والعطاء والتقدم، من مجتمع جاهلي وممزق، بينما نجد اليوم من يقدم للعالم أفكار وممارسات تذكرنا بالجاهلية التي ضحى النبي وجاهد من أجل القضاء عليها. وبدلاً من أن يرى العالم إسلاماً واحداً، هو ذلك الذي حوّل المجتمع الجاهلي في الجزيرة العربية الى مجتمع ناهض ومتحضر، بات يجد أمامه، إسلاماً ينشر العنف والكراهية والتخلف والدمار، من خلال ظهور جماعات وتنظيمات ترفع اسم "الاسلام" وتخفي اهداف مشبوهة ومريبة لا صلة لها برسالة النبي الأكرم. فهل يخفي دخان الانفجارات في غير بلد إسلامي، ومشاهد الدماء والأشلاء، وايضاً الافكار والممارسات اللاانسانية واللااخلاقية، تلك الشمس الساطعة في التاريخ؟.

يكفي أن نضع ميزة واحدة تفصل بين الإسلامين، وهي الحكمة التي تحلّى بها النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في نشر رسالته ودعوته الناس الى الاسلام، فهو يرى شريحة واسعة من الناس في مكّة كانوا يرفضون ويعارضون دعوته وبشدة، رغم أنها كانت تصب في مصلحتهم، وهي الحقيقة التي أدركوها فيما بعد، إلا انه، صلى الله عليه وآله، لم يمارس القوة والعنف من باب رد الفعل على تنكّر الناس وعدم تقديرهم لجهوده وعمله.

إن سياسة العفو والإحسان والعطاء وغيرها من الخصال الاجتماعية التي اتصف بها النبي، كانت تنبع من حكمة عالية وذكاء حاد، ينمّ عن وجود برنامج متكامل وخطة استراتيجية لتغيير حضاري شامل في الجزيرة العربية، ثم في العالم، فالنبي لم تكن لديه مشكلة شخصية مع أحد، أو مع قومه، أو مع حالة معينة تضايقه أو تنغّص عليه أو تتقاطع مع مصالحه، إنما كان يمثل الحل لجميع مشاكل وأزمات الناس في مكة، ثم في العالم أجمع.

لنلاحظ هذه الحادثة من جملة حوادث ومواقف تدلنا على إسلام النبي الأكرم:

جاء اليه أعرابي يطلب منه شيئاً، فأعطاه النبي الأكرم، وقال له:

أأحسنت إليك؟

قال الأعرابي: لا، ولا أجملت..!

وكان هذا في محضر من أصحاب النبي من المهاجرين والانصار، فغضب المسلمون، وشقّ عليهم أن يسمعوا هذا الكلام القاسي والغليظ ، فقام بعضهم ليعاقب هذا الاعرابي على كلامه، فأشار النبي اليهم بأن يكفوا. ثم قام ودخل منزله وأرسل اليه وزاده، ثم قال له ثانية:

أأحسنت اليك؟

قال الأعرابي:

نعم؛ وجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. ثم ودّع الأعرابي وخرج.

هنا توجه النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، الى أصحابه، وقال لهم:

مثلي، ومثل هذا الاعرابي، مثل رجل له ناقة شردت عليه، فأتبعها الناس، فلم يزدها إلا نفوراً، فناداهم صاحبها، خلو بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه إليها ووقف بين يديها، فأخذ من قمام الأرض، فردها حتى جاءت واستناخت، وشدّ عليها رحلها واستوى عليها. واني لو تركتكم حيث قال ما قال فقتلتموه، دخل النار.

في هذه القصة، تجتمع الحكمة مع الرحمة التي تمثل قمة في العطاء والبناء الاجتماعي، وعلى غرار هذا الموقف، هنالك العديد من المواقف التي سجلها لنا النبي الأكرم في التاريخ، ولو من الجدير التأكيد على أن التاريخ وكتب السيرة، لم تحمل الينا إلا القليل واليسير من ذلك البحر الزاخر من المواقف الانسانية مع هذا الاعرابي وذاك الحضري، ومن جميع شرائح المجتمع. بل إن الرحمة والشفقة تشمل الحيوانات ايضاً، وحتى النباتات، وهناك صوراً ومشاهد معروفة في هذا المجال.

هذه الروح الانسانية العالية والسامية هي التي حملت الإسلام الى الآفاق والبلاد البعيدة في فترة قياسية أثارت إعجاب وانبهار الباحثين والمؤرخين غير المسلمين في الماضي والحاضر، وحتى اليوم. فالإسلام الذي نجده في العالم الاسلامي، والبلاد البعيدة، إنما وصل بالرحمة الشاملة والأخوة والفضائل والصفات الاخلاقية الحميدة، ولم يصل بالعنف والقسوة والإكراه، أو عن طريق التغرير والتضليل، كما جربت ذلك الشعوب في مذاهب وأفكار عديدة في العالم خلال العهود الماضية.

من هنا؛ اذا نقول أن ثمة إسلاماً آخر، فهذا لا يعني بأي حال من الاحوال، وجود واقعي على الأرض، وهل بامكان شخص ما او جماعة حجب ضياء الشمس بغربال؟! بمعنى أن ما نراه ويراه العالم من أعمال ارهابية ودموية فضيعة ترتكب باسم الاسلام، ما هي إلا محاولات بائسة ممن يحملون عقد نفسية وليست عقيدة بالمرة، للتطاول على الرسالة المحمدية وتقمّص الدور الذي قام به النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في تغيير المجتمع والتأثير عليه، فالجماعات الارهابية والطائفية التي نسمع عنها باسماء عديدة، إنما تريد أن تكرر ذلك الدور، وكان أول ما تعكّزت عليه، هو "الجهاد" لانه يمثل بالنسبة اليهم الوسيلة الأسرع لتحقيق مصالحهم ومآربهم، فأباحوا لأنفسهم قتل الناس فرادا وجماعات، وبأبشع الصور، لكن الغباء والغفلة جعلهم بعيدين عن الأرضية الاخلاقية والمعنوية التي يجب ان تتوفر لدى الانسان المسلم قبل أن يخوض الجهاد، وهذا ما بينه النبي للمسلمين، عندما وصف جهادهم في سوح المعارك مع الاعداء بأنه "جهاد أصغر"، بينما وصف جهاد النفس بـ "الجهاد الأكبر".

وحتى لا نجانب الحقيقة؛ فان تجاهل هذه المعادلة الحضارية، جعل الجماعات الارهابية امتداداً لحكام الجور والطغيان الذين رفعوا هم ايضاً شعارات اسلامية، وادّعوا تمثيل الدين وأنهم "خلفاء" من بعد وفاة الرسول الأكرم، وكذلك الحكام الأمويين ومن بعدهم العباسيين وغيرهم، حتى كان وعاظ السلاطين والمتزلفين حولهم يطلقون عليهم لقب "أمير المؤمنين"! في حين انهم كانوا أحرص الناس على ذواتهم ونفوسهم ، وما تملي عليهم من ميول وشهوات. وهم بذلك يلتقون مع حكام معاصرين في عالمنا الاسلامي، يحمل البعض منهم ألقاب مشابهة مثل "خادم الحرمين" التي ابتكرها أول مرة الملك السعودي الراحل "فهد"، أو "أمير المؤمنين" التي ابتدعها في العصر الحاضر، الملك المغربي الراحل "الحسن الثاني" وهكذا. فالنهج الذي مضى عليه هؤلاء وتعاملهم مع شعوبهم، هو الذي تمخّض عن ولادة جماعات وتنظيمات تحمل شيئاً "يشبه الإسلام"، لكنه ليس الإسلام الحقيقي، لأنه جاء بالموت والدمار وتشريد الملايين من المسلمين وإلحاق الذل والمهانة بهم، بل انها تحاول اليوم إعادة الأمة الى عهد الجاهلية المظلمة التي كان عليها قبل فجر الإسلام.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 20/كانون الثاني/2014 - 18/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م