حين التأمل في الخيارات والمشروعات الأيدلوجية والسياسية، نكتشف أن
ثمة مشروعات ومقولات وخطابات سياسية عدمية، لا تفكر في الواقع
ومعطياته، وإنما تفكر في الشعار واليافطة السياسية المرفوعة، ومدى
انسجامها مع عواطف الجمهور المتلقي أو المعني بتلك المشروعات..
فالهم السياسي لمثل هذه القناعات والأطروحات السياسية، ليس تحقيق
إنجاز ما، وإنما خلق معادلة صفرية إما الانتصار الكاسح أو الهزيمة
النكراء، دون التفكير في خيارات أخرى.. ولعل أحد ابتلاءات الممارسة
السياسية في المجال العربي المعاصر، هو شيوع الرؤية أو النهج العدمي
لدى الكثير من المجموعات والجماعات التي تنشط في الحقل السياسي..
لأن هذا النهج على المستوى السياسي، لا يحقق مكاسب لمجتمعه ووطنه،
وإنما هو يدغدغ مشاعر أبناء شعبه، دون الالتفات إلى طبيعة المعادلات
القائمة، وما هو المتاح والممكن الذي نقدر على تحقيقه.. لذلك نجد في
العالم العربي الكثير من الجماعات الأيدلوجية والسياسية، التي لم تستطع
في كل حياتها وتجربتها السياسية من تحقيق أي منجز سياسي لشعبها ووطنها،
إلا أنه يتم التعامل معها، بوصفها هي جسر العبور إلى المستقبل ومنقذة
الجميع من مآزق الراهن وأزماته..
والرأسمال الحقيقي الذي تمتلكه هذه الجماعات وتسوقه في الفضاء
الإعلامي والاجتماعي، حزمة من الشعارات والمقولات العاطفية، التي
تتناغم وعواطف الناس المجردة، دون قدرة فعلية لديها لتحقيق إنجاز سياسي،
يقرب هذا الوطن أو المجتمع من أهدافه السياسية المعلنة.. ولا شك أن نهج
هذه الجماعات السياسية العدمي، هو الذي يصحر الحياة السياسية ويفقرها
على مستوى السلوك والممارسة والإبداع والمبادرة وعلى مستوى الآفاق
الممكنة والمتاحة التي يمكن العمل من أجل تحقيقها في الواقع الخارجي..
كما أن هذا النهج هو الذي يساهم في تشويه مفهوم الوعي السياسي لدى
أبناء المجتمع أو الوطن.. فالسياسي الناجح وفق هذا النهج العدمي هو
الذي يرفع صوته بشعارات سياسية كبرى أو صدامية، حتى لو لم يكن له أي
نصيب في إمكانية تحقيق بعض الشعارات التي يرفعها ويعبأ الناس من
أجلها..
أما ذلك السياسي الذي يعمل ويكافح من أجل بناء معطيات سياسية جديدة،
تمكن مجتمعه أو وطنه من تحقيق ما يصبو إليه دون يافطات سياسية صارخة،
هو سياسي يعاني سوء الفهم من شعبه، ويعاني الكثير من الصعوبات في إقناع
أبناء شعبه بجدوائية ما يقوم به.. فالذي يحقق المنجزات السياسية
والاجتماعية الصغيرة والتي تقرب المجتمع إلى أهدافه وغاياته، لا شعبية
له، ويعاني الكثير من الصعوبات في تسويق مشروعه، مع أنه المشروع الوحيد
الملموس والقادر على مراكمة منجزات ومكاسب وطنه ومجتمعه..
أما صاحب المعادلة الصفرية واليافطات الكبرى والصارخة، والتي ليست
جزءاً من مشروع اجتماعي وثقافي وسياسي يعمل من أجله، هو الذي يحظى
بالمقبولية الشعبية، ويشار إليه بالبنان بوصفه هو الحامي والمدافع عن
الحقوق والثوابت..
أقول إن هذه الممارسة السياسية القائمة على المعادلة الصفرية، هي
التي تقود مجتمعاتنا نحو خيارات خاسرة أو كلفتها المادية والمعنوية
أكثر بشكل مضاعف من أرباحها..
وسيبقى الواقع العربي بكل دوله ومجتمعاته، يعاني الكثير من الخلل
البنيوي في ممارسته السياسة بفعل هذا النهج، الذي يفقر الحياة
السياسية، ويدخل قوى المجتمع في أتون معارك ليست متوازنة ومكلفة على
راهن المجتمع ومستقبله..
لذلك ثمة ضرورة وطنية وقومية قصوى في دول العالم العربي إلى معاودة
النظر في مفهومنا للممارسة السياسية، حتى تتحول هذه الممارسة إلى رافعة
وطنية وقومية حقيقية لكل مجتمعاتنا العربية، بدل أن تكون هي أحد
المصادر الأساسية لإدامة التوتير الاجتماعي والسياسي في كل المنطقة
العربية.. فليس من الممارسة السياسية الصحيحة إطلاق العنان لمخزون
الرغبات الكبرى المجردة والتي تدغدغ مشاعر وعواطف الناس.. إن الممارسة
السياسية الصحيحة هي القدرة على بناء العلاقات الإيجابية مع مختلف
القوى، وتطوير نسق التفاهمات والتحالفات وصياغة برنامج سياسي ممكن
ومتاح ومنسجم ومعطيات القوة المتوفرة لدى جميع الأطراف.. فليس كل من
يتفاوض مع خصمه هو باع قضيته، وفرط في مصالح شعبه.. كما أنه ليس كل من
يحمل يافطات صارخة وشعارات رغبوية جامحة، هو حارس أمين لقضايا ومصالح
شعبه وأمته.. فالعبرة ليس في الشعارات واليافطات المرفوعة، وإنما في
السلوك والممارسة السياسية.. فهناك من يفرط في الثوابت والمقدس، وهو
يحمل شعارات صارخة، وهناك من يحافظ على كل المصالح والأهداف وهو يفاوض
ويصالح.. فالعبرة ليس في الشعارات والتكتيكات وإنما في الممارسة
والالتزام العملي بالأهداف والتطلعات.
ولعل أزمة الممارسة السياسية الطوباوية، انها تفكر في الواجب دون أن
تحتفل بالممكن، تطلب البعيد دون أن تنال القريب، تشدد على الإرادة
وتهمل الواقع. ممارسة لفظانية-منبرية، تدغدغ المشاعر، دون أن توضح لهم
خريطة الطريق أو مشروع الانعتاق. ويحدثنا التاريخ العربي المعاصر عن
الكثير من الزعامات السياسية، التي رفعت شعارات ثورية صارخة، إلا أنها
في الغرف المغلقة هي التي فرطت في الحقوق والثوابت.. فالزعيم الليبي
السابق (معمر القذافي) كان يملأ الدنيا صراخاً بالشعارات واليافطات
الثورية، إلا أنه على صعيد الممارسة السياسية سواء على مستوى القضايا
الوطنية الليبية أو على مستوى القضايا القومية العربية، هو من أبرز
المفرطين بحقوق الليبيين والعرب.. وكان يستخدم الشعارات الشوفينية
كغطاء لممارساته الديكتاتورية ولاستئثاره بالسلطة والثروة في ليبيا..
وفي المقابل هناك زعماء عرب لم يرفعوا شعارات صارخة، ولم يحدثوا العالم
عن نزعات ثورية جامحة، إلا أنهم ووفق المعطيات السياسية القائمة تمكنوا
من بناء مؤسسات لدولة مستقرة تحافظ على مصالح شعبها وثوابته السياسية
والتاريخية..
فالشعارات العدمية الصفرية، هي التي جوفت الحياة السياسية العربية
من الداخل.. فهي شعارات تدعو إلى التقدم وبناء حقائق الحضارة والعصر في
مجتمعها، إلا أنها على المستوى الفعلي، هي المسئولة عن تأبيد التخلف
وقمع وقتل كل محاولات التقدم الحقيقي في حقول الحياة المختلفة..
كما أنها شعارات تدعو إلى الوحدة والاندماج الوطني والقومي، إلا
أنها على الصعيد الفعلي هي التي تنمي الفروقات بين المواطنين، وهي التي
تساهم بسياساتها في خلق التحاجز السميك بين أبناء الوطن والمجتمع
الواحد..
وهي التي ترفع شعارات الاستقلال والتعامل الندي مع القوى الدولية،
إلا أنها على الصعيد العملي هي أكثر الأطراف خضوعاً لإرادة الأجنبي،
وانقياداً واستتباعاً لسياسات الدول الكبرى..
فهي تحمل الشعارات الكبرى وتمارس النقيض تماما.. تدعو إلى الوحدة
ولكنها تمارس التجزئة، تدعو إلى الاستقلال وهي خاضعة حتى النخاع في
أتون التبعية، تدعو إلى التقدم وهي تعيش رهابه وتحارب كل من يدعو
إليه..
فالعبرة ليس في الشعارات واليافطات، وإنما في الحقائق والممارسات
السياسية.. وعالم السياسة اليوم، لا يحتمل الثنائية في الخطاب.. بمعنى
أن وسائل الإعلام المفتوحة، قادرة على اكتشاف المفارقات، وفضح السياسات
والخيارات.. كما أن الشعوب السياسية بحسها السياسي الفطري، قادرة على
معرفة الحقيقة من كل الادعاءات..
وما أحوج الواقع العربي اليوم إلى إعادة تصويب الممارسة السياسية،
لأن الخلل الذي أصاب الممارسة السياسية في الكثير من جوانبها وأبعادها،
هو الذي ساهم مع عوامل أخرى، في دخول العالم العربي في منزلقات كثيرة
تهدد نسيجه الاجتماعي واستقراره السياسي..
فالسياسة ليست صراخاً وصناعة للأوهام والرغبات المجردة، وإنما هي
قدرة على التدبير العام، وإدارة للشأن العام على قاعدة ضمان المصالح
النوعية ليس في اللحظة الراهنة فحسب بل والمستقبل أيضا.. كما أن
السياسة ليست شعارات ومناكفات ومكايدات، وإنما بناء وتنمية وصناعة
الخير في أروقة المجتمع، وبناء مؤسسي راسخ لإدارة الدولة والمجتمع على
قاعدة مؤسسية بعيداً عن نوازع الأفراد وردود فعلهم غير المحسوبة.. |