من الثابت ان بريطانيا احتضنت ورعت أشهر وأهم المفكرين الاقتصاديين
في العالم. غير انها لم تُنتج منظّرين اقتصاديين ارثودكسيين. مفكرون
ثوريون امثال كارل ماركس وفردريك انجلس عملوا ايضا في بريطانيا في
الشطر الاكبر من حياتهم المهنية. وفي اواسط القرن العشرين، قادت
الجامعات البريطانية العالم في تطويرها لأفكار جديدة. كان الاقتصاديون
في جميع دول العالم مندهشين بالنقاشات التي تجري بين الاكاديميين في
الجامعات البريطانية خاصة بين أتباع كنز في جامعة كامبرج واتباع فردريك
هايك في مدرسة لندن للاقتصاد. كانت تسمية "العصر الذهبي" للنقاشات هي
الرائجة في الجامعات البريطانية اثناء الخمسينات والستينات من القرن
الماضي حين كانت تلك النقاشات في اوج ذروتها.
ولكن في الثلاثين سنة الاخيرة، تراجعت كليات الاقتصاد البريطانية
لتبقى الى الخلف من نظيرتها الامريكية. الاقتصاديون ذوي الاسماء
اللامعة عالمياً حالياً هم عادة امريكيون بدلاً من ان يكونوا بريطانيين.
وطبقا لقوائم التصنيف العالمية، كانت بحوث البريطانيين اقل شأناً
مقارنة بالمواضيع الاخرى. في تصنيفي جامعتي شنغهاي وجامعة تلبيرغ
Tilburg University، جرى التركيز على نوعية البحوث، حيث جاء تصنيف أرقى
جامعة بريطانية مدرسة لندن للاقتصاد (LSE) في الترتيب 13 و11 على
التوالي. جامعة كامبرج هي الآن دون التسلسل الـ 28 حسب تصنيف جامعة
تلبيرغ لعلم الاقتصاد رغم تربعّها على قمة السلالم الاخرى في مواضيع
غير الاقتصاد كالرياضيات والتاريخ. وعلى الرغم من افتقاد منهجية
التصانيف هذه لصفة الكمال (تصانيف عالمية اخرى ترسم صورة اقل تشاؤماً)،
الاّ ان معظم الاقتصاديين البريطانيين يتفقون بان "العصر الذهبي" قد
انقضى منذ وقت طويل.
لماذا اذاً تراجعت كليات تدريس الاقتصاد البريطانية في العقود
الاخيرة بعد ان كانت هي الرائدة عالمياً في افكارها؟ الجواب يكمن جزئيا
في فشل تمويل الجامعات البريطانية بحيث اصبحت غير قادرة على مسايرة
نظيراتها الامريكية، ذلك ان الاخيرة لديها الان من النقود يفوق ما لدى
الجامعات البريطانية. هذا يجعلها قادرة على جذب أفضل الاساتذة
الموهوبين والخبراء من اوربا. واذا كانت بعض الجامعات الامريكية
المتقدمة تدفع للاستاذ المساعد 120 ألف دولار سنويا، فان جامعة كامبرج
تدفع لموظفيها من نفس الدرجة 60 ألف دولار سنويا فقط. كذلك يُعتبر
تمويل البحوث في امريكا اكثر سخاءاً. نقص تمويل البحوث هذا أثار استياء
معظم الاكاديميين البريطانيين.
لكن المال وحده لا يوضح القصة كلها – فروقات الرواتب توجد ايضا في
مواضيع اخرى تتفوق فيها الجامعات البريطانية كثيراً. البعض يلقي اللوم
على اهتمامات الاكاديميين البريطانيين التي اصبحت ضيقة جداً في السنوات
الاخيرة – ذلك يعود في جزء منه للمجلات الاكاديمية البحثية في الولايات
المتحدة، مثل مجلة American Economic Review، التي ترسم برامجا لبحوث
العالم. وبالنتيجة، يرى النقاد ان كليات الاقتصاد الراقية في بريطانيا
هي الآن تركز كثيرا على النظرية وعلى الاقتصاد القياسي econometrics،
وليس على البحوث التجريبية المتقدمة. فمثلا، قسم الاقتصاد التطبيقي في
جامعة كامبرج اُغلق في عام 2004، رغم ما انتج من بحوث نوعية متميزة منذ
تأسيسه عام 1945. وهناك اقسام اخرى متقدمة ايضا تفتقر الى الخبراء في
الحقول الرئيسية مثل الاقتصاد الجزئي التجريبي وتاريخ الاقتصاد الكمي.
بدلا من ذلك، نرى العديد من اقسام الاقتصاد البريطانية تصارع في الحصول
على الخبراء الموهوبين في الاقتصاد القياسي في معركتهم ضد المنافسين
الامريكيين – ولكن مع نقود قليلة جداً. ومن غير المدهش، انها معركة لم
يُسجّل فيها اي انتصار.
ان الانطباع بالانحدار النسبي لتدريس الاقتصاد في بريطانيا يمتد
ايضا الى التعليم. القليل من التمويل للبحوث يعني ان هناك القليل من
الطلاب المتخرجين يدرّسون طلاب المرحلة الاولى في الجامعة وهو ما يجعل
الكادر التدريسي يعمل بما يفوق طاقته. كما ان التعليم الذي يقدمه
التدريسيون هو اكثر ضيقا مما كان في السابق. فمثلا، العديد من الكورسات
في تاريخ الاقتصاد وتاريخ الفكر الاقتصادي اُغلقت في السنوات الاخيرة
بما جعل هناك طريقة واحدة يمكن ان يتعلمها الطلاب حول تطبيق الافكار
الاقتصادية في مواقف العالم الواقعية. بعض طلاب الاقتصاد البريطانيين
يشقون الآن طريقهم في الدراسة دون ان يدركوا ان ديفد ريغاردو هو اول
منْ طور نظرية المزايا النسبية، او فكرة الدور التاريخي في تشجيع حرية
التجارة. احد المشرفين في جامعة كامبرج اصيب بالذعر حين اُبلغ من احد
طلابه في السنة الثالثة ان كنز هو اول منْ جاء بتلك الفكرة. كذلك،
بالنسبة لأصحاب الاعمال المتعاقدين مع الاقتصاديين يقولون ايضا انهم
محبطون من الافواج الحالية من الخريجين الذين يستطيعون اجراء حسابات
قياسية معقدة، لكنهم لا يستطيعون تطبيق معرفتهم النظرية في المشاكل
الاقتصادية للعالم الواقعي.
مع ذلك، لا حاجة لنكون متشائمين كثيراً حول القدر السيء لدراسة
الاقتصاد في بريطانيا. التغيير هو طريقة الحياة : المقدرة على فرض اجور
دراسية عالية على طلاب الدراسة الجامعية الاولية منذ عام 2012،مثلا،
ساعد الجامعات على انفاق المزيد من الاموال في اقسام الاقتصاد. مدرسة
لندن للاقتصاد وكلية لندن الجامعية تدفعان الان رواتب مغرية لجذب
واستقطاب الكفاءات من الجامعات الاخرى، موازنات التعليم في الجامعات
الاخرى هي ايضا اصبحت أكثر مرونةً، واصبح هناك المزيد من النقود تأتي
من المتبرعين لتمويل البحوث. صندوق التحوط الاستثماري (بريفين هاورد)،
والحائز على قيمة اصول بـ 40 بليون دولار، أسس اخيراً مركز بحوث مستقر
ماليا في امباريال كولج بلندن. وفي السنوات القليلة الماضية تم تأسيس
اربعة مراكز بحوث جديدة في جامعتي اكسفورد وكامبرج جرى تمويلها بنقود
من (ادارة ونتن لرأس المال) وهو صندوق تحوط استثماري، وهناك ايضا معهد
التفكير الاقتصادي الجديد Institute for New Economic Thinking، وهو
مجموعة من الخبراء ذوي التخصص العالي think-tank اسسها جورج سوروس
المليونير الامريكي الهنغاري الاصل.
ان الاكاديميين البريطانيين وطلابهم تبنّوا اعادة التفكير بالطريقة
التي يجب ان يدرّس بها الاقتصاد. مشروع وندي كارلن Wendy Carlin، وهو
استاذ الاقتصاد في كلية لندن الجامعية، قاد برنامج لتطوير منهج جديد
يؤكد على تطبيقات العالم الواقعية للاقتصاد، والذي سيُطرح لطلاب
الاقتصاد لاحقا هذه السنة. جماعات من الطلاب في عموم البلاد يشجعون
التغيير في طريقة تعليم الاقتصاد، مثل (جمعية اقتصاد ما بعد الانهيار)
Post-Crash Economics Society في مانشستر، (وجمعية إعادة التفكير في
الاقتصاد) Rethinking Economics في لندن وكذلك (جمعية كامبرج للاقتصاد
التعددي) في جامعة كامبرج.
ربما انحدرت كليات الاقتصاد البريطانية في الماضي، لكن روح التحدي
والاصرار سيجعلها تحقق الافضل في المستقبل.
............................................
Britain’s economics departments, Reviving the
“golden age”, The The Economist, Jan 2nd 2014. |