أبو مخنف.. مؤرخ الطف

محمد الصفار

 

شكة النبأ: يعدّ أبو مخنف من كبار مؤرخي الشيعة، وهو شيخ أصحاب الأخبار بالكوفة ووجههم، كما يعدّ أول من صنّف في أخبار الفتوح والخوارج وأيام العرب، حيث امتازت رواياته بالموضوعية في الطرح بعيداً عن التعصّب الأعمى الذي جُبل عليه باقي المؤرخين.

ورغم اشتهار تشيّعه فقد اعتمد على رواياته كبار مؤرخي السنة في النقل عنه كالطبري وابن الأثير وغيرهما، ومن أشهر كتب أبي مخنف كتاب (مقتل الحسين) الذي نقل عنه أعظم العلماء والمؤرخين المتقدمين واعتمدوا عليه اعتماداً كاملاً، وهو أول مؤلَّف عن واقعة الطف، وأغلب ما نقل الطبري من روايات تتعلّق بمقتل الحسين (عليه السلام) هي من روايات أبي مخنف.

ولكن للأسف الشديد فإن هذا الكتاب فُقد مع باقي مؤلفاته القيمة والكثيرة، حيث لعبت السياسات المعادية لأهل البيت (عليهم السلام) دوراً كبيراً في ضياعها، لأن أغلب هذه الكتب كانت تُظهر الجرائم الوحشية التي كانت تمارسها تلك السياسات تجاه أهل البيت (عليهم السلام) كما تُظهر حقهم ومظلوميتهم فعملوا جاهدين على طمس الحقيقة ونشر أضاليلهم وتدليسهم وفسح المجال للوضّاعين الكذّابين من مرتزقتهم ممن يقتاتون على موائدهم لتزييف الحقائق.

ولكن رغم كل هذه الإجراءات التعسفية والظلامية بحق مؤرخي الشيعة الذين نقلوا لنا الحقائق التاريخية بكل أمانة وصدق، فقد وصلنا البعض من روايات أبي مخنف عن طريق ما رواه المؤرخون في تواريخهم، ونستطيع أن نقول أن روايات أبي مختف هي من الروايات القليلة التي لم تلوّثها يد التزييف الآثمة، فهي إذاً من أوثق الروايات، وراويها من أكثر المؤرخين صدقاً وورعاً وتقوى.

ومما ويدل على صدقه وتقواه أن أغلب رواياته كانت منقولة عن رجال رأوا الحوادث بأعينهم، والباقي إما رآها بعينه وشهدها، أو نقلها من رواة أقدم منه، وكان شديد الإلتزام والأمانة في النقل، فهو ينقل الحادثة بحذافيرها، دون أن يضيف عليها رأيه الشخصي، أو يعكس عليها معتقده ومذهبه، فامتازت رواياته بالموضوعية وعدم التعصب.

كان أبو مخنف من أزد الكوفة ولد حوالي سنة (57)ه أي قبل واقعة الطف بثلاث سنوات وتوفي عام (157)ه عن مائة عام وهو (لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف)، وكان جده رئيس الأزد في معركة صفين مع أمير المؤمنين(عليه السلام).

كان أبو مخنف صديقاً لمحمد بن السائب الكلبي، فكان لهذه الصداقة الفضل الكبير في حفظ روايات أبي مخنف وروايتها وانتشارها عند المؤرخين، فقد كان محمد بن السائب هذا هو والد هشام بن محمد المؤرخ المشهور الذي نقل عنه الطبري أحداث أهم المراحل من التاريخ الإسلامي، فقد عاش أبو مخنف إلى سقوط الدولة العباسية عام 132ه، فكان حريصاً على أن لا تفوته واقعة دون أن يؤرخها منذ صدر الإسلام وعصر الخلفاء الأربعة والعصر الأموي، حيث يخصص لها كتاباً خاصاً عنها.

ويتضّح ذلك من عناوين كتبه التي نهل منها اعظم المؤرخين قبل أن تندثر، وقد حفظ التاريخ تلك العناوين التي أربت على الثلاثين كتاباً تخص أهم الوقائع في التاريخ الإسلامي وهذه الكتب هي:

(كتاب الردة ــــ كتاب فتوح الشام ــــ فتوح العراق ــــ الجمل ــــ صفين ــــ أهل النهروان والخوارج ـــــ الغارات ـــــ الحريث بن راشد وبنو ناجية ـــــ مقتل علي(عليه السلام) ـــــ مقتل حجر بن عدي ـــــ مقتل محمد بن أبي بكر ـــــ الأشتر ومحمد بن أبي حذيفة ــــ الشورى ومقتل عثمان ـــــ المستورد بن علَّفة ـــــ مقتل الحسين(عليه السلام) ـــــ وفاة معاوية وولاية ابنه يزيد ـــــ وقعة الحرة وحصار ابن الزبير ـــــ المختار بن أبي عبيد ــــ سليمان بن صرد الخزاعي وعين الوردة ــــــ مرج راهط وبيعة مروان ومقتل الضحاك بن قيس ـــــ مصعب وولايته العراق ـــــ مقتل عبد الله بن الزبير ــــ مقتل سعيد بن العاص ـــــ حديث يا حميرا ومقتل ابن الأشعث ـــــ بلال الخارجي ــــــ نجدة أبي قبيل ـــــ حديث الأزارقة ــــــ حديث روستقباذ ــــــ شبيب الخارجي وصالح بن مسرح ـــــ مطرف بن المغيرة ـــــ دير الجماجم وخلع عبد الرحمن بن الأشعث ـــــ يزيد بن المهلب ومقتله بالعقر ـــــ خالد بن عبد الله القسري ويوسف بن عمر ـــــ موت هشام وولاية الوليد ـــــ يحيى بن زيد ـــــ كتاب الضحاك الخارجي).

ويتضح من خلال هذه العناوين أنه كان مُلمّاً بأحداث أهم فترات التاريخ الإسلامي وأخصبها على المستوى السياسي والاجتماعي، وإضافة إلى هذه الكتب فقد ذكرت دائرة المعارف الإسلامية (المترجمة عن الإنكليزية) أن أبا مخنف صنّف (32) رسالة في التاريخ عن حوادث مختلفة وقعت إبان القرن الأول للهجرة.

إن مما يُدمي القلب حقاً أن هذه الثروة العلمية قد ضاعت واندثرت ولم يبق منها سوى النزر اليسير، وهو مارواه المؤرخون عنه. ونودّ الإشارة إلى أمر مهم وهو أن من ضمن كتب أبي مخنف التي اندثرت هو كتاب (مقتل الحسين) وهو من أشهر كتبه وعُرف به وقد اعتمده كبار العلماء والمؤرخين ومنهم الطبري وابن الأثير والجزري وغيرهم أما المقتل المنسوب إلى أبي مخنف والمتداول الآن فهو ليس له كما أشار إلى ذلك الكثير من الأعلام منهم الشيخ محمد السماوي في تقديمه لكتاب مقتل الحسين للخوارزمي حيث قال:

(فإن المقاتل القديمة المفصّلة، كمقتل أبي مخنف، لم يبق منها شيء إلا ما نقله الطبري والجزري وأمثالهما، في ضمن كتبهم، فأما أعيانها فلم يبق منها شيء، لأن (مقتل أبي مخنف) لم يوجد منذ خمسة أو ستة قرون، وكذلك أمثاله).

وأيّد هذا القول الدكتور لبيب بيضون في (موسوعة كربلاء) بقوله: (ومن أشهر كتب أبي مخنف (مقتل الحسين) الذي نقل عنه أعظم العلماء المتقدمين واعتمدوا عليه ولكن للأسف أنه فُقد ولا توجد منه نسخة اليوم وأما المقتل الذي بأيدينا والمنسوب إليه فهو ليس له بل ولا لأحد من المؤرخين المعتمدين ومن أراد تصديق ذلك فليقابل بين ما في هذا المقتل وما نقله الطبري وغيره يجد تبايناً كبيراً).

كما أيّد هذين القولين كل من العلامة أغا بزرك الطهراني في الذريعة بقوله عن المقتل المُتداول الآن: (أن فيه بعض الموضوعات) والقندوزي في ينابيع المودة بقوله عن نفس الكتاب: (ولكنه يختلف اختلافاً بيّناً حتى في الأشعار).

والظاهر أن مقتل أبي مخنف المفقود هو أكبر من المتداول الآن بكثير ويدلنا على ذلك أن أحد المؤلفين وهو حسن الغفاري جمع روايات أبي مخنف التي وردت في تاريخ الطبري فيما يخص مقتل الحسين (عليه السلام) فكوّنت كتاباً سماه (مقتل الحسين المقتبس من الطبري).

وقد ذكر بروكلمان في كتابه (تاريخ الأدب العربي) ج1 ص253:(إن مخطوطة كتاب مقتل الحسين المنسوب لأبي مخنف موجودة في امبرزيانا، وإنها طبعت في بومباي عام 1311ه).

ولا ندري هل هذه المخطوطة هي المقتل الكبير لأبي مخنف الصحيح أم الصغير المنسوب؟ ولكن من المرجّح أنه المتداول الآن، لأن العلامة السماوي ذكر ان المقتل الكبير المفصّل لم يوجد منذ خمسة أو ستة قرون. لذا فمن المؤكد أن مقتل أبي مخنف هو ليس المتداول الآن، لأن هذا المتداول يحتوي على أحداث تتعارض كلياً مع الروايات التي نقلها الطبري وغيره من مقتل أبي مخنف.

 أما متى ألف هذا المقتل؟ ومن هو مؤلفه؟ لا ندري..، ولكن ربما يكون هذا المقتل هو الذي نوّه عنه الدكتور لبيب بيضون في موسوعة كربلاء حيث يقول: (لفت نظري وجود مخطوطة لمقتل الحسين لأبي مخنف في مكتبة الأسد بدمشق برقم (عام 4303) أولها: (هذا مصرع الحسين وما جرى له ولأهل بيته من قتلهم وسفك دمائهم وسبي حريمهم..) وهذه المخطوطة مصرع كامل قديم لمؤلف مجهول وبدون تاريخ. النسخة مخرومة الأصل ومتهرئة والكلام فيها على شاكلة القصص ويدخل في مجرى القصة قوله: قال أبو مخنف يقصد لوط بن يحيى الأزدي والمظنون أن هذه القصة منسوبة لأبي مخنف وإذا صح أن جامعها نسبها إليه تبين الوضع فيها من أن لغتها غير لغة عصره ومن بعض أغلاط النحو فيها وزيد في آخرها فصل ليس في الكتاب الأصلي وهو شرح زيارة أبي عبد الله في يوم عاشوراء من قرب أو بعد وتقع المخطوطة في 71 ورقة أصابتها الرطوبة بما لم يؤثر....).

ولا نستطيع هنا أن نضيف شيئاً على كلام الدكتور بيضون أو البتّ في هذا المقتل غير أن الدكتور أوضح أن لغة هذه المخطوطة غير لغة عصر أبي مخنف وفيها بعض أخطاء النحو وهذا كاف للدلالة على أنها ليست لأبي مخنف.

ولا نعرف الغاية التي جعلت مؤلف هذه المخطوطة المجهول لأن ينسبها إلى أبي مخنف، إذ أن هذه النسبة ستحدث تشوشاً في الرواية والنقل، ولكن الحمد لله أن هذه المخطوطة كتبت بعد نقل الطبري وغيره من المؤرخين عن المقتل الصحيح لأبي مخنف، فحفظوا رواياته المنقولة مباشرة عنه لما لها من أهمية تاريخية بالغة، إذ أن أبا مخنف كان قد نقلها من أشخاص شهدوا الواقعة باستثناء روايتين رواهما عن هشام بن محمد الكلبي.

 لقد أدرك المؤرخون القيمة الحقيقية لروايات أبي مخنف، كونها كانت (مادة خام) لم تمتزج بها الأهواء، ولم تلوثها السياسة، خاصة وأن الفترة التي أرخها كانت فترة أحداث سياسية صاخبة، كثرت فيها التيارات والانقلابات والثورات ويستشف ذلك من خلال عناوين الكتب التي ألفها أبو مخنف، وهذا ما جعل فلهوزن يقول في كتابه تاريخ الدولة العربية:

(إن الروايات القديمة المتعلقة بعصر بني أمية توجد حتى اليوم على أوثق ما تكون عليه عند الطبري لأنها لم تختلط ولم تتناولها يد التوفيق والتنسيق والطبري حفظ لنا خصوصاً قطعاً كبيرة جداً من روايات أبي مخنف الراوية المحقق فحفظ لنا بذلك أقدم وأحسن ما كتبه ناثر عربي نعرفه).

وكان للمصداقية التي تعامل بها أبو مخنف مع الرواية في النقل أثرها عند المؤرخين الذين جاؤوا بعده وهذا ما جعل المؤرخين يعتمدون على رواياته بشكل مطلق حيث نرى الطبري اعتمد عليه بشكل كامل، فكان ما نقله عنه فيما يتعلق بواقعة الطف كأنه مقتل مصغر للذي ألفه أبو مخنف، كما كان لأسلوب أبي مخنف المميز في الطرح والابتعاد عن التعصب الأعمى الذي اعتاد عليه المؤرخون أكبر الأثر على تهافت المؤرخين على الأخذ برواياته.

يقول فلهوزن: (وأعظم ما صنع أبو مخنف من حيث تقدير قيمة الروايات، هو أنه جمع طائفة كبيرة من روايات متنوعة ومن أخبار الشيء الواحد مختلفة في مصادرها، بحيث يستطيع الإنسان أن يوازن بينها ويعرف الصحيح المؤكد منها من غيره وأبو مخنف قد توصل بذلك إلى أن صارت الأشياء الثانوية تتوارى لأنها لا تظهر إلا مرة واحدة كما صارت الأشياء الأساسية لا تزال تزداد بروزا لأنها تتكرر في جميع الروايات).

ويتضح من كلام فلهوزن أن أبا مخنف لم يكن مؤرخاً كبيراً فقط بل كان أديباً كبيراً أيضاً فالأشياء الأساسية التي تزداد بروزاً هي الثيمة كما تسمى في المصطلح الأدبي التي تدور عليها أحداث الروايات المختلفة ذات المضمون الواحد، ولو تسنى لأحد النقاد أن يتناول روايات أبي مخنف على نمط التحليل السردي فسوف يظهر جانب علمي آخر عند أبي مخنف وهو الأدب حيث لم يسبقه أحد من المؤرخين في تناول الرواية بهذا الشكل الأدبي الرفيع.

كان أبو مخنف من أخصب الأقلام في الفترة التي عاشها على مدى قرن كامل، كما كانت تلك الفترة من أخصب الفترات أحداثاً وخاصة في العراق الذي يعد منبع الثورات ضد الأمويين والعباسيين، فكان أبو مخنف يتناول كل حركات وسكنات تلك الأحداث والثورات ورغم أن هذه الأحداث والثورات المتعاقبة تحتاج إلى جيش من المؤرخين لتدوينها إلا أن أبا مخنف كان حريصاً على أن لا تفوته منها صغيرة ولا كبيرة ورغم ذلك فلم تقتصر رواياته على أحداث العراق فقط، كما جاء في الفهرست لابن النديم حيث قال:

(قرأت بخط أحمد بن الحارث الخزار، قال العلماء: (أبو مخنف بأمر العراق وأخبارها وفتوحها يزيد على غيره، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس، والواقدي بالحجاز والسيرة، وقد اشتركوا كلهم في فتوح الشام).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 15/كانون الثاني/2014 - 13/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م