لغة العنف ومثقفو السلام

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: لكل متابع مسؤول ومنصف، عندما يرى مشاهد اللاجئين السوريين تحت رحمة البرد القارس، وفي جهة أخرى يرى مشاهد العنف واللااستقرار التي يتعرض لها الشعب العراقي بشكل عام، وسكان المنطقة الغربية بشكل خاص، يكون أمامه تساؤل عريض عن الجهة التي يفترض أن يلجأ اليها الاطفال والنساء، أو الآباء وهم حيارى في كيفية توفير المكان الآمن، قبل الدفء والطعام لأولادهم..؟.

"المعارضة" في سوريا..؟ انها تدعي أنها خير بديل للنظام القائم، ولذلك اصطفت ضمن مجاميع مسلحة، ثم تفرقت وتباعدت في الافكار والانتماءات وحتى مصادر الدعم المالي والعسكري، ثم عادت لتوجه بنادقها ضد بعضها البعض، حتى ذكرت آخر التقارير أن جماعة "داعش" في سوريا اطلقت الرصاص في الهواء بوجه متظاهرين متذمرين من استمرار سفك الدماء والنهج التكفيري والتدميري لهذه الجماعة في ريف حلب، وإذن؛ فان هذه "المعارضة"، مشغولة بقتال القوات السورية، ولا وقت لها لإطعام وإيواء وتأمين الشعب السوري، وإذن؛ على هذا الشعب تحمّل البعد عن البيت الدافئ والمكان الآمن والعمل المستمر، وبشكل عام الحياة العادية أيام زمان، حتى إشعار آخر، ربما يطول الأمر لسنوات عديدة أخرى.

وهل تكون الحكومة العراقية..؟ انها ايضاً مشغولة بمواجهة الجماعات الارهابية المسلحة، للدفاع عن هيبة الدولة، وايضاً عن التجربة الديمقراطية في العراق، وهذا همّ كبير وثقيل، فالجيش العراقي يستعد لحملة عسكرية حاسمة لتطهير مدينة الفلوجة من مقاتلي "القاعدة" التي تسيطر على المدينة، الى جانب العمليات الجارية في أطراف مدينة الرمادي مركز محافظة الانبار. أما العدو في الجهة الاخرى، فهو تنظيم مسلح له تجارب حرب عصابات في بلاد عديدة في الشرق الاوسط، كما يحظى بتسليح ودعم لوجستي كبير، والأهم؛ العامل المعنوي والشعارات التعبوية التي تضلل وتغرر شريحة واسعة من المحرومين اقتصادياً وثقافياً في غير مدينة ومحافظة بالعراق. هذه العمليات الواسعة النطاق استوجبت تعبئة شاملة من لدن العشائر العراقية في المنطقة الغربية برمتها، بمعنى أن الحالة الاجتماعية في محافظة الانبار و ربما في محافظة صلاح الدين والموصل ايضاً، تأثرت وارتبطت مصيرياً بعجلة هذه الحرب.

 إذن؛ لا مجال للاعتماد لا على الحكومة – الدولة- ولا على العشائر – المجتمع- تبقى منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية والهيئات النقابية والجمعيات الخيرية، التي تكون قادرة على احتواء الأزمة الانسانية التي ربما تتفجر بين لحظة وأخرى، اذا ما أصرّت "القاعدة"، على تكرار تجربة حرب المدن السورية، في مدينة الفلوجة، وجعلت المدنيين دروعاً بشرية لها. علماً أن الاوضاع الانسانية والمعيشية في هذه المدينة ومدن اخرى في محافظة الانبار تعيش وضعاً لا يُحسد عليه، حيث الشحة في الوقود والمواد الغذائية والاساسية، علاوة على أزمة الكهرباء والماء.

من هنا فان واقع الحال يستدعي تضامناً ونشاطاً مبرمجاً من هذه الهيئات والمكونات المهنية والثقافية لأن تعلن وقفة تضامنية واحدة مع الحالة الانسانية في الانبار. نعم؛ ربما لم تنقل لنا كاميرات الفضائيات الحالات المأساوية للاطفال والنساء، لكن عندما تتفاقم الازمة وتفرض نفسها على وسائل الاعلام، حينها ربما تكون الأزمة أكبر بكثير من أي محاولة انقاذ او مساعدة، كما هو الحال بالنسبة للوضع في سوريا. فقد بدأت وسائل الاعلام بتسليط الاضواء على مأساة ومعاناة الشعب السوري، عندما وصل الى مخيمات اللاجئين والمشردين في الصحاري والوديان داخل وخارج سوريا، بينما كانت البداية في الاحياء السكنية وداخل المدن والحارات، عندما تحولوا الى رهائن بيد الجماعات المسلحة خلال حربها ضد القوات السورية.

كان بإمكان تلكم الهيئات والمؤسسات، مع ما لديها من استقلالية من حيث المبدأ، أن تضغط على طرفي النزاع بأن تقلل الضغط – على الأقل- على المدنيين او تحجم الخسائر واراقة الدماء، من خلال إيصال المساعدات وايجاد المناطق الآمنة والبديلة، قبل ان يهيموا على وجوههم ، كما لو انهم لم يعيشوا تحت ظل مؤسسات دولة أو مؤسسات اجتماعية ومدنية من قبل.

هذه التجربة، لا يجب ان تتكرر في العراق. وهذه الخشية نابعة من معطيات خطيرة على الأرض، حيث ان خارطة الحرب تشير الى تصعيد عسكري وشيك تكون مدينة الفلوجة مسرحاً له في الايام القادمة، إلا في حالة واحدة، وهي أن تنسحب "القاعدة" من المدينة ومن سائر المدن والمناطق الاخرى في الانبار وتعود أدراجها من حيث أتت، وهي ليس سوى الاراضي السورية. بينما تشير المعلومات المتطابقة الى استمرار تدفق العشرات والمئات من الارهابيين والمتمرسين على القتل وحرب الشوارع، من الاراضي السورية باتجاه الفلوجة والرمادي لمساندة التنظيم في قتاله الجيش العراقي. ثم إذا نقول: أن الجيش العراقي، هو جيش كل العراقيين وليس لفئة معينة أو شخص معين، وهو عامل وحدة وصمام أمان للشعب العراقي، فهذا يعني أن مواساة المدنيين في الانبار، ومن يرزح تحت وطأة المعارك والقصف، ايضاً له صبغة وطنية شاملة، ما دامت القضية أخذت طابعاً انسانياً بحتاً.

أما الفائدة الكبرى للتحرك الانساني بموازاة التحرك العسكري في الانبار، هو التأكيد للرأي العام في الداخل والخارج، إن قرار الحملة العسكرية والبحث عن انتصارات ومكاسب عسكرية على الأرض، ليس الهدف، إنما هو وسيلة لتطهير المنطقة من الجماعات الارهابية، وفي مرحلة لاحقة، تنظيفها من الافكار التكفيرية والدموية التي يروجون لها. ثم إن غالبية الشعب العراقي لم تكن يوماً ظالمة بقدر ما عانت الظلم والجور والاضطهاد، وهي دوماً تحمل قيم ومبادئ السلام والتعايش والحرية للجميع. هذه الرسالة يجب أن تصل الى كل مواطن يتعرض لرصاص الجيش العراقي او لقصف الطائرات او المدفعية في محافظة الانبار، وربما في المحافظات الاخرى التي تنتشر فيها خلايا "القاعدة". وذلك عبر القنوات الثقافية والانسانية.

 أما لنفترض العكس مما ذهبنا اليه، واجتمعت كلمة المؤسسات الثقافية والنقابات والهيئات غير الحكومية والمستقلة على أن تكون لغة العنف هي سيدة الموقف، او الرد بالمثل على الطرف الآخر، هو الخيار الصحيح، كما يذهب الى ذلك الكثير في الساحة. فان النتيجة لن تكون سوى مزيد من الانقسام والتشظّي في الجسد العراقي المهدد أساساً بالتمزق والتفرق، وهكذا ربما تتكرر الحالة النفسية التي طُبع عليها الأكراد في تعاملهم مع العرب بشكل عام في العراق. فقد حسموا أمرهم وقطعوا نهائياً أنهم لن يتمكنوا من تحقيق التعايش مع العرب في العراق بتاتاً، بعد ما لاقوه من معاناة مآسي خلال العقود الماضية. وهذا ما يجب على المثقفين والشريحة الواعية والمتعلمة أن تحذره بشدة فيما يتعلق بمستقبل الانبار والمحافظات المشابهة لها في المصير.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 6/كانون الثاني/2014 - 4/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م