آمال التحرر والتقدم.. بين مكاسب الداخل والارتكاز على الخارج

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: أثبتت التجارب التاريخية للشعوب والأمم، أن الاستقلال والاعتماد على القدرات الذاتية، هو الذي فتح أمامها أبواب النصر في مواجهتها الاستعمار والاستعباد، وايضاً الاستبداد السياسي والديكتاتورية. وفي مرحلة لاحقة، وتحديداً خلال القرن الماضي، أصبح "الاستقلال" مفردة جذابة وطيبة الأثر في نفوس الجماهير، ومدعاة للتطور والنمو ونيل الكرامة والثقة بالنفس، لذا نجدها تحولت الى شعار عريض رفعته حتى الأنظمة الانقلابية في بلادنا، فضلاً عن الأنظمة الثورية والديمقراطية (الشكلية)، أملاً في أن تفيدها في تكريس حكمها وكسبها الشرعية الجماهيرية، ثم ضمان فترة أطول في الحكم.

بيد أن الغريب حقاً، أن نلاحظ ظاهرة تراجع مفردة "الاستقلال" أمام الارتباط علانية بعوامل القوة الخارجية في الوقت الحاضر. ربما يعزو البعض بروز هذه الظاهرة في الساحة، الى التغييرات الشاملة التي شهدها العالم على صعيد العلاقات بين الشعوب والأمم، منها "العولمة" التي فرضت نفسها بالقوة على ثقافات الشعوب، رغم الرفض الشديد، كما يمكن الاشارة الى دور تقنية الاتصال وسرعة انتشار المعلومة، في تغيير المعادلة، حيث بدأت بعض الحركات السياسية وأصحاب مشاريع التغيير والإصلاح، يشعرون أنهم لن يتمكنوا من إخفاء نقاط ضعفهم في المنهج والأداء والآليات أمام رياح الافكار والثقافات الجاهزة والمحببة الى النفوس، والتي باتت اليوم في غرف النوم وفي أدمغة الشباب والفتيان والفتيات. فكان لابد من استعجال الأمر، وربط اكبر قدر ممكن من خيوط الاتصال والارتباط بالأقوى لكسب عناصر القوة لتحقيق مصالحهم والوصول الى مطالبهم داخل بلدانهم.

هنا ربما تغيب عن أذهان البعض، تجارب شعوب وأمم، حققت انتصارات كبيرة وتغييرات تاريخية شاملة في حياتها بفضل الاستقلال والاعتماد على الذات والقدرات الداخلية، مثل الهند في نضالها السلمي ضد الاستعمار البريطاني، ومثل فرنسا التي تحررت من الاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية، بفضل قوات الحلفاء، لكنها لم تتحول الى بلد محتل من قبل هذه القوات. بينما تنتصب أمامنا حالة مقيتة ومأساوية لتبعية وعمالة بأرخص الأثمان، متمثلة بالجماعات الارهابية المسلحة في سوريا.

ففي الهند، خاض الشعب نضالا سلمياً ضد الاستعمار البريطاني العنيد الذي لم يكن يتصور يوماً أنه يغادر هذا البلد بعد حوالي أربعة قرون من الاستعمار، وحصل على استقلاله عندما واجه العنف والاضطهاد والاستعباد، بقوة الإرادة على العمل والانتاج واستخراج ثرواته بيده. أما فرنسا، فهي مثال آخر للاستفادة من القوى الخارجية دون الاضطرار الى تنازلات كبيرة. فقد نُقل عن الزعيم الفرنسي يومها "شارل ديغول" عندما تناهى الى سمعه همسات امريكية بالفضل في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية، قال: "عندما نعيد ترتيب أوضاعنا سننظر في تسديد ما بذمتنا من الديون الامريكية.."، وهكذا كان موقف الزعيم اليوغسلافي "جوزيف تيتو" الذي تدين بلاده كثيراً الى الدعم البريطاني للمجاميع المسلحة التي قاتلت ضد الاحتلال النازي، وجعلت القوات الهتلرية تواجه أقسى وأشد أنواع المقاومة بين جميع الدول التي احتلتها في اوربا. وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية، كانت يوغسلافيا بين الدول التي ساهمت في إنشاء "منظمة عدم الانحياز".

نعم؛ ربما يتحدث البعض عن التضامن والتعاون بين الشعوب للمساعدة على التخلّص من الديكتاتورية والظلم، لكن هذا يكون في سياقه الصحيح، عندما تكون هنالك منهجية متكاملة وطريق واضح من واقع ذلك الشعب الثائر والطامح للتغيير، لا أن يستجدي المنهج و"خارطة الطريق" من واقع حياة الآخرين. فالحرية التي ينشدها الشعب السوري وايضاً سائر الشعوب العربية والاسلامية، لن تكون نفس النسخة والصورة الجذابة السائدة في الغرب، كما ان الديمقراطية التي يحلم بها بعض السياسيين في بلادنا لن تكون مطابقة للديمقراطية التي يمارسها السياسيون في الغرب، بل حتى في بلاد عديدة في العالم. لنأخذ فسيلة نخلة عراقية ونذهب بها الى مناطق افريقية، ونزرعها هناك، هل تثمر لنا ذلك التمر الموجود عندنا؟ وهل يكفي الطقس الحار الموجود هناك لنمو هذه الشجرة بشكل صحيح؟

المشكلة هنا؛ لا تنتهي أمام فشل تجربة، فهذا ما يمكن تجاوزه والتعويض عنه، بيد أن المشكلة الكبرى في الخسائر الفادحة التي تترتب على الإصرار والعناد على تقوية العلاقات مع الخارج على حساب القدرات والامكانات في الداخل، وهذا ما نلاحظه جلياً من أحد تجارب شعوب "الربيع العربي" التي حققت تغييراً سياسياً كبيراً في أنظمة الحكم، فسقطت ديكتاتورية "القذافي" وايضاً "بن علي"، و "مبارك"، و"صالح"، وقبلها طبعاً سقطت ديكتاتورية "صدام"، ولكن هذه التغييرات لم ترافقها تغييرات ثقافية وفكرية جوهرية من الداخل، الامر الذي أبقى على الترسبات الثقافية للحقبة الماضية في حياة الناس. لذا نجد أول مظاهر التغيير في بلادنا يتم بانتزاع صورة الرئيس والزعيم من أعالي الجدران، واستبدالها بصورة أخرى للزعيم الجديد.

وإذن؛ فالعنف والدموية وإقصاء الآخر والاستبداد بالرأي، وغيرها من مفردات الديكتاتورية والفردية، هي سيدة الموقف في بلادنا العربية، لكن بثوب ديمقراطي – تعددي، فبدلاً من ديكتاتور واحد، لدينا تعددية في الديكتاتوريات! لنلاحظ الوضع السوري.. امامنا تعدد في المعارضات للنظام السوري الحاكم، هذه التعددية تحمل اليوم مسؤولية تعدد المصائب والمآسي التي يواجهها الشعب السوري كل يوم، فالمعارضة العلمانية في اوربا، فشلت في إقحام الغرب لإسقاط نظام الأسد عسكرياً، كما فعلت في ليبيا. فيما فشلت الجماعات الارهابية – التكفيرية من تمرير مخططاتها وافكارها، أو بالأخرى المخططات السعودية في الأرض السورية، والنتيجة اليوم، حسب آخر الاحصائيات، سقوط حوالي (130) ألف قتيل من ابناء الشعب السوري، وحوالي خمسة ملايين مشرّد من منزله في داخل وخارج البلد، فيما لا يجرؤ أحد في الداخل والخارج أن يتحدث عن وجود ثورة جماهيرية في سوريا.

والمثال الآخر من مرحلة البناء والإعمار، يمكن الاشارة بقوة الى الوضع العراقي، حيث كانت الآمال معقودة على عراق واعد، ناهض، ومتقدم بعد زوال ديكتاتورية صدام، بيد أن العراق الذي يعيش بعد عقد كامل من الزمن تحت مظلة "نظام ديمقراطي"، يعاني بالدرجة من غربة موحشة وقاتلة مع هذا النظام، و ربما يمكن اختزال الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كلمة واحدة؛ "عدم وجود قراءة صحيحة للديمقراطية لدى معظم ابناء الشعب العراقي"، وهو ما يتسبب حالياً بنشوب النزاعات المسلحة و توالد أزمات سياسية، وفتن طائفية، والجميع نراه يبحث عن حقوقه ومصالحه، من المواطن البسيط الذي يبحث عن لقمة عيشه في السوق والشارع، وحتى أعلى وأغنى سياسي في البلد..!

ألا توجد الامكانيات والقدرات في بلادنا، تجعلنا نتعفف عن استجداء الدعم والمساندة من الخارج..؟ طبعاً؛ السؤال شاملٌ لجميع بلادنا التي تعيش الازمات الخانقة، مثل سوريا والبحرين والعراق ومصر ولبنان وغيرها. ربما ينبري الكثير بالإجابة بـ "نعم" حفاظاً على الظاهر العام..! بيد أن المشكلة – كما يبدو- في استنساخ الحلول وتوزيعها جرعات لجميع الحالات الموجودة في البلاد المشار اليها وأكثر. وهذا ربما يشبه الخطأ الذي يرتكبه البعض، عندما يجيز لطفل صغير مصاب بالسعال، نوعاً خاصاً من الشراب، ثم يقدم نفس النوع من هذا العلاج لرجل بالغ كبير، وكذلك يفعل اذا أصيب شيخ طاعن في السن بحالة السعال..!

إن تجاهل قدرات وامكانيات وايضاً الظروف الموضوعية لكل بلد، هو بالحقيقة يُعد استخفافاً بالعقول وتجاوزا على العقول والمشاعر، ربما يؤدي تفاقم الوضع الى ظهور حالة تذمر ليس على الاطراف الخارجية أو "التدخلات الاجنبية" كما في السابق، إنما على الاطراف الداخلية والأذرع المحلية التي تسمح بحصول هكذا استخفاف وانتهاكات واستسهال إراقة الدماء في هذا البلد، أو الإبقاء على الضيم والحرمان والتخلف في ذاك.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 5/كانون الثاني/2014 - 3/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م