المتطرفون وصناعة الأزمة

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: عندما يتراجع نهج الاعتدال والتوازن أمام نهج التطرف ، من الطبيعي ان تفقد الحياة جزءاً كبيراً من مسارها الصحيح، فلن يكون هنالك استقرار في الاصعدة كافة، لأن أهل التطرف لا يعرفوا العيش في ظل الامن والاستقرار، وايضاً في ظل تحكيم العقل والمصلحة العامة، إنما البحث عن الاجواء الضبابية، وان اقتضى الامر تعكير الاجواء والمياه – إن صح التعبير- ففي ظل هكذا اجواء نراهم يسودون ويحكمون ويعبثون بمصائر الناس، مستغلين شعارات براقة تثير المشاعر والاحاسيس، ربما تلامس المشاعر الدينية او المشاعر القبلية او الوطنية وغير ذلك. عندئذ يكون اللااستقرار أمراً مطلوباً من شريحة لا بأس بها من الناس، حتى يتسنّى لهؤلاء بإنزال قبضتهم الحديدية والقضاء على الخصوم، ممن يوصمون بانهم أعداء الشعب أو الدين..!

إن دوامة  العنف وإراقة الدماء والدمار الهائل في سوريا، لم يكن نتاج الحراك الجماهيري البسيط الذي بدأ عام 2012 بتظاهرات جماهيرية في مدينة "درعا" جنوب البلاد، ثم توالت التظاهرات المطلبية في مدن أخرى، لكن بدخول التطرف والتكفير وهو يحمل السيف والبندقية، فان المطالب الجماهيرية وضعت جانباً، لأن الصولة للجماعات الارهابية، ولا مكان للسكن الآمن لابناء الشعب السوري، ولا مدارس ولا رياض أطفال ولا حدائق، ولا مستشفيات ولا أي نوع من انواع الحياة المدنية الاخرى، لأن هذه الجماعات مختصة بتفخيخ المباني وحرب الشوارع، لمواجهة الجيش السوري ومقاتلته متخذين بيوت وشقق الناس دروعاً ومخابئ لهم. ثم ما لبثوا طويلاً، حتى استعجلوا إراقة الدماء ونشر مشاهد الاطفال والنساء المجزرين كالأضاحي على أنها نتاج العمليات العسكرية للجيش السوري.

لذا نجد أن الجماعات الارهابية والدموية في سوريا، مثل "جبهة النصرة" و "دولة العراق الاسلامية في  العراق والشام"، وحتى "الجيش الحر"، حاولوا أن يزرعوا في الارض السورية، الفتن الطائفية باستهداف العلويين، ذبحاً وتشريداً، حتى وان لم يكن لهم دور في عمليات الجيش السوري، بل حتى وصلت جرائمهم ووحشيتهم الى المسيحيين في قرية "معلولا" التي يسكنها المسيحيون منذ مئات السنين.

من  الواضح؛ ان المشاهد الانسانية المؤلمة للنازحين والمشردين من الاطفال والنساء في مخيمات اللجوء في الدول المجاورة، الى جانب مشاهد الاشلاء والدماء على مرآى ومسمع العالم، وضعت العواصم المعنية اقليمياً ودولياً أمام استحقاق خطير بأن استمرارهم في جلوسهم مكتوفي الايدي ، يشير الى مشاركتهم وضلوعهم في هذه اللعبة القذرة، بينما هم يريدون إبعاد هذه الوصمة قدر الامكان. لذا وجدنا كيف تنصّل الجميع من هؤلاء المتطرفين الارهابيين، بعد أن كانوا يعدون البديل للنظام الحاكم في سوريا. حتى أن العواصم الغربية تراجعت عن وعودها بدعم "الجيش الحر" عسكرياً خوفاً من وقوع المعدات العسكرية بيد هذه الجماعات الفوضوية، الامر الذي مهد الارضية للقوات السورية لأن تشن حملة تمشيط في عدة مناطق وتستعيد المدن الواحد بعد الآخر من قبضة الارهابيين.

وبما أن هنالك أرقام تشير الى وجود حوالي (100ألف) مقاتل من جنسيات متعددة في سوريا، بينهم ارهابيون محترفو القتل بالذبح والحرق، فان الساحة السورية بدأت تتحول بالنسبة لهم الى مقبرة كبيرة، لذا ليس لهم خيار آخر سوى العراق الذي ما يزال يحمل على كاهله آثار "القاعدة" لاسيما في المناطق الغربية، وتحديداً في محافظة الانبار. وحسب متابعين ومراقبين للوضع في هذه المناطق، فان الحديث عن إجماع عشائر الانبار على إخراج "القاعدة" من العراق، هو بالحقيقة للتسويق الاعلامي وإثبات حسن النية أمام الدولة العراقية الجديدة، وايضاً للولايات المتحدة الراعية للشأن السياسي والامني في العراق. وإلا كيف ظهرت أعلامهم في "ساحات الاعتصام" خلال أكثر من عام من ظهور هذه الساحات على واجهة الاحداث، ثم ظهرت ايضاً في العمليات الاجرامية والجبانة التي نفذوها باسلحة كاتمة للصوت ضد ابناء الجيش العراقي، وضد خصومهم وأعدائهم؟

وهذا يؤكد لنا أن التطرف في الفكر والعقيدة في الانبار – مثلاً- ، يدفع البعض لأن يطلب العون والمساعدة من قوى تحمل نفس التطرف، أو اكثر وأشد. وهنا تتقاطع المصالح؛ فالتنظيمات الارهابية أو ما يسمى اليوم بـ "داعش" أو "الجبهة الاسلامية" او غيرها، تشتري الملاذ الآمن على الارض العراقية، مقابل تنفيذ عمليات اجرامية، مثل تفخيخ السيارات والبشر وتفجيرهما وسط المدنيين، أو أي مكان آخر تطلبه الجماعات الارهابية العاملة في العراق وتحت مسميات عديدة.

هذا النهج لن يستقيم مع الحياة العامة للناس في الانبار ولا في محافظة الموصل ولا في صلاح الدين، ولا حتى في ديالى، لأن الجميع ملّ أجواء الرعب والتهديد والوعيد، وأصيب بانتكاسات نفسية بسبب أصوات الانفجارات وأزيز الرصاص، والأمر من ذلك كله، تعطيل الحياة العامة، من صحة وتعليم ومرور، ومصالح عديدة، مما يجعل الناس مجرد سجناء في بيوتهم ومناطقهم يأكلون من يحصلون عليه من لقمة الخبز ولا يتفوهون بكلمة..! لذا نجد الرأي العام في هذه المحافظات التي طالما تتهم بانها حواضن للارهابيين من خارج العراق، هو التأييد والمباركة للقوات العسكرية العراقية بأن تشن حملتها النهائية واكتساح هذه الجماعات واقتلاع جذورها من العراق نهائياً، وتخليصهم من حالة الخوف والارهاب والبدء بحياة جديدة.

هذا الطموح من الطبيعي أن يشاطره معهم سائر العراقيين في المناطق والمدن الاخرى من البلاد، لأن المعروف أن الارهاب مدّ أذرعه في كل مكان، حتى في المناطق الشمالية، الامر الذي يستدعي الاعتبار من
"الدرس السنّي"، إن جاز التعبير، فان اللجوء الى خيار الأزمات واختلاق المشاكل لنيل المكاسب السياسية، بات أمراً مكلفاً جداً ، بل أثبت فشله وخسارته الفادحة، نعم؛ حصل "العلواني" و "الهاشمي" وغيره من وجوه القوم، مكاسباً سياسية خلال السنوات الماضية، بين من جلس على كرسي الوزارة أو جلس تحت قبة البرلمان أو حصل مكتب و حمايات وامتيازات رئاسية كبيرة وضخمة، لكن الذي يأتي من نفق الأزمة والفتن  السياسية والطائفية، لن يصب في مصلحة الناس، لأن ببساطة، تكون المكاسب عبارة عن صفقات واتفاقيات ترضية ومحاصصة واضحة، دون أن تكون لها علاقة بأهل الفلوجة أو الموصل أو تكريت.

 إنما الخيار للتعايش السلمي والقبول بوجود الآخر، مع وجود التباين والاختلاف في الانتماء والتوجهات الفكرية والثقافية والسياسية، وهذا التعايش هو الذي يحقق للبلد النمو والتقدم، فضلاً عن توفير الحياة الآمنة، ولعل مطالعة سريعة للدول التي مضت طويلاً في مسيرة التطور الاقتصادي والسياسي وحتى الاجتماعي، تؤكد لنا استحالة تحقيق أي مكسب او انجاز في ظل أزمات مختلقة وفتن سياسية أو طائفية ، حتى وإن جلبت هذه الازمات بعض المكاسب السياسية لهذا الزعيم أو ذاك، او لهذه الجماعة او تلك، لأن النهاية لن تكون سوى عند اشلاء الضحايا ودماء الابرياء ومزيد من تخلف البلد وحرمانه فرص التقدم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 30/كانون الأول/2013 - 26/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م