مع شيوع ظاهرة استخدام الحواسيب، ومع شدة إقبال الناس على شبكة
الانترنت بدأ لون مغاير من ألوان الأدب بالظهور معتمداً على آلية عمل
هذه الحواسيب، ومسخّراً إمكاناتها الهائلة بغيةَ بناء نص إبداعي جديد
كلَّ الجدة ومغاير للنص الإبداعي السابق له والمعتمد على المنجز
الطباعي والفضاء الورقي وسيلة للتداول والتواصل بين المبدع والقارئ.
وإذا كان هذا الوليد الجديد بلفافته التكنولوجية هو الابن الشرعي
لوسائل الاتصال المتطورة (الشبكة العنكبوتيّة)، فهذا دليل على أن الشكل
الأدبي مستجيب إلى درجة كبيرة لتطورات العصر، وهو ما يعني أن المهتمّين
والمنشغلين بقضايا الأدب والفن مدعوون إلى مراجعة دائمة لنظريّاتهم
الأدبيّة وقناعاتهم النقدية والفنيّة (الراسخة)، حيث لم يخلق ولن يخلق
شكل فني نهائي له شرعيّة البقاء الأزلي عبر السنين، ولا أدلّ على ذلك
من (فن المقامة) الذي قد استقال من وظيفته الأدبية منذ قرون حتى باتت
العودة إليه الآن، والكتابة على منواله من مضحكات الزمان لسبب بسيط؛
وهو لأننا نحيا في عصر آخر مغاير تماماً لا يسمح إلا بإفراز أشكاله
الحميمة المرتبطة به والمعبرة عن إشكالياته.
إن الأدب الرقمي، أو النص التفاعلي، أو النص المترابط، وكلّها
مصطلحات تطلق على النص المنتج من خلال استخدام الحواسيب ذات القدرة
المذهلة التي تتوفر لها عبر برمجياتها المتمكنة من إنتاج وتلقي نص (فائق)
بطريقة مختلفة عن السابق والمعهود في النصوص الورقية، حيث تبنى هذه
الطريقة على إمكانية الربط بين البنيات الداخلية للنص نفسه، فضلاً عن
إمكانية الربط مع بنيات أخرى تقع خارج هذا النص وهي بالتالي تستطيع أن
تهيء له قدرة الاشتراك معها في عملية البناء الكلي عن طريق التعالق
النصي أولاً سواء كانت هذه البنيات من نفس جنس النص أو من جنس أدبي أخر،
كما قد تستطيع بنيات هذا النص المنتج أن تتشابك مع بنيات من فنون أخرى
سمعية أو بصرية أو إشارية عن طريق التضافر الدلالي بين البنيتين ثانياً.
لقد كانت طريقة الانتقال في النصوص السابقة (اللارقمية) تتم عبر
عملية تسخير الفضاء الطباعي للتحرك من السابق إلى اللاحق بطريقة خطية
(عمودية) أي من الأعلى إلى الأسفل، أما عملية الانتقال في النص الرقمي
فقد اتّسمت بـ (اللاخطّيّة)، أي بمغايرة المألوف عبر تكريس طريقة
الانتقال اللاخطي (اللاعمودي)، حيث أصبحت هذه العملية تتم من خلال
الانتقال من بنية ما – مثلاً- من بنيات النص إلى بنية أخرى بوساطة
النوافذ والإشارات والأيقونات التي تتوفر عليها برمجيات الحواسيب
الألكترونية ذات السرعة الفائقة في الانتقال والاختزال والرصد.
إن هذا اللون من الأدب مرتبط إذن بالبرمجة الالكترونية (الرقمية)
التي أسهمت في طريقة بناء نصوصها عبر القدرة على تفعيل هذه النصوص من
خلال ربطها بنصوص وفنون أخرى سواء كانت لفظية أم غير لفظية، دون أن
ننسى بطبيعة الحال أن الذي يقف وراء عملية التفعيل والربط والتدليل
معاً هو المنشئ الحاذق أو الأديب البارع الذي وعى العملية الإبداعية
بشروطها ومسوّغاتها وإجراءاتها أولاً، ثم وعى وخَبَرَ الآلية التي
تشتغل وفقاً لها البرمجية الحاسوبية، إذ سينتج من كلّ ذلك تواشج طرفي
المعادلة أي صنعة الأديب ومهارته مع استجابة الآلة وقدرتها الفائقة من
أجل إنتاج نص رامز له قدرة على التأثير والإيحاء بصورة مغايرة.
لقد ظهر أول نص رقمي في الغرب عام 1985 على يدي الروائي (مايكل جويس)
ثم توالت بعد نصوص أخرى بالظهور المتلاحق في عموم أمريكا وأوربا
والعالم، ولم يعرف العرب هذا اللون من الأدب إلاّ في العام 2001 من
خلال رواية رقمية كتبها الأديب الأردني (محمد سناجلة)، ومع حلول العام
2007 كتب أكاديمي عراقي هو الدكتور مشتاق عباس معن القصيدة العربية
الرقمية الأولى وأسماها (تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق) وطرحها
بالأسواق على شكل أقراص مدمجة معلناً بذلك ريادته الشعرية العربية لهذا
اللون الجديد من الأدب الذي ستتكفل الأيام والسنين القادمة وحدها
بالكشف عن قدرته الأدبية والفنية وعن تأكيد مشروعيته، وأحقيته بالبقاء
والاستمرار، وهل هو حقاً تجربة جديدة تستحق العناية والتأمل والتحليل،
أم أنّه مجرد لون أدبي لا يتعدى حدود التجريب والاستفادة المرحلية من
إمكانات عديدة يوفرها الحاسب الآلي؟ |