الانتصار عبر السلام من واقع الإسلام

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: لعل من المفارقة المؤسفة في بلادنا الاسلامية، أن نلاحظ هذه البلاد مسكونة بالحروب والمعارك الأهلية والدولية، والدسائس المخابراتية والفتن الطائفية والنعرات القومية والعرقية التي تشكل -عادةً- وقوداً لهذه الحروب التي لا تتوقف، بل تتوالد وتتسع رقعتها، وهي تحصد مئات الآلاف من ابناء الأمة.. هذه الأمة هي نفسها التي أظلت الأمم بالسلام والأمان والاستقرار، وبالنظام المتكامل، في الأصعدة كافة، وفي مرحلة لاحقة، منحت العالم فرص التقدم والتطور في الحياة.

فما الذي جعل بلادنا تبحث عن سبل التصعيد الأمني والعسكري، ثم المواجهة والحرب، بل تستسيغ القتال وإراقة الدماء؟

هذا السؤال العريض المطروح على مائدة البحث والمناقشة أمام الخبراء والمحللين، يمكن البحث عن الإجابة عنه من خلال الاقتباس من فكر سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- في كتابه "السياسة من واقع الإسلام"، وهو يسلط الضوء على مفهوم الحرب في الإسلام، مع إشارته الى أن أحد أهم اركان الإسلام هو "الجهاد"، بيد أن هذا الفرع من فروع الدين، لم يتحقق بالحرب والقتال بالمفهوم الذي يعرفه العالم ويعيش في ظله. حيث من المعروف أن الإسلام بسط جناحيه في أرض الجزيرة العربية، في حياة الرسول الأكرم، ولم يكلف الناس، أكثر من (1400) قتيل من المسلمين والكفار، سقطوا في غزوات وحروب، كان المسلمون دائماً في موقف الدفاع عن النفس أمام المشركين، أما عن واقع اليوم فيقول عنه سماحته: "أن الفخر في العالم، في التدمير وسفك الدماء.."، ثم يتسائل سماحته بغير قليل من التبرّم والمرارة: "فهل ترى اليوم يقام نظام، على أقل من ملايين من الضحايا"؟ !

هنالك دوافع عديدة وراء اتباع سياسة إثارة الحروب وخلق الفتن السياسية والطائفية، يمكن الاشارة الى اثنين منها، في ضوء فكر سماحة المرجع الشيرازي:

 الاول: تعزيز قواعد الحكم وضمان فترة أطول في السلطة، وهذا أمر ملحوظ جداً في بلادنا. فالانظمة السياسية الحاكمة، ومنذ حوالي أربعين عاماً، لم تستفد في تكريس وجودها السياسي من عامل أفضل من الحرب والقتال والتصعيد الأمني والعسكري، سواءً على الصعيد الداخلي بفتح جبهات المواجهة مع المعارضة، حتى وإن لم تتبن الخيار العسكري، أو على الصعيد الخارجي، بافتعال العدو الوهمي و"المخاطر التي تهدد الوطن" وغيرها من الشعارات التعبوية التي زجّت بالملايين الى سوح القتال، كما حصل مع تجربة العراق في عهد صدام.

ولنا في تجربة حضارية غنية ونادرة من عهد أمير المؤمنين، عليه السلام، خير نموذج يحتذى به لمن كان يرجو مصلحة شعبه حقاً وصدقاً. فقد كان "معاوية" عدواً ليس فقط للإمام علي، عليه السلام، إنما كان يقاتل "الشرعية السياسية" كما يعبر عنها اليوم، حيث كان، عليه السلام، يقود الدولة الاسلامية المترامية الأطراف، بانتخاب الغالبية العظمى من المسلمين، بينما كان معاوية يقود الفئة الباغية التي حذر منها النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله. لكنا نلاحظ أن الإمام يوصي أصحابه وأفراد جيشه، بعد تنظيم صفوفهم للقتال في "صفين" بأن "..وإياك أن تقاتل إلا أن يبدؤوك". فإن بدأ الامام القتال أو مارس اسلوباً او طريقة معينة في الحرب، تباغت معاوية وجيشه، ويحقق النصر عليهم، هل كان يُلام او يحاسب آنذاك ؟

إن الحرب والقتال، بمعنى سقوط القتلى وإراقة الدماء وتكبيد الناس خسائر مادية فادحة، في أي زمان كان.. لكن الناس، بشكل عام، ينظرون الى الأقوى الذي يحقق النصر والغلبة، ويعدونه فرصة للعودة الى حياتهم الطبيعية، حيث بالامكان العيش في ظل ذلك القائد القوي الذي سيوفر لهم سبل العيش وما يريدون، ما دام تحقق له بقائه على كرسي الحكم. إلا ان عامة الناس لا يقرأون المعادلة من البداية الى النهاية، إلا الاجزاء التي يسلط الحاكم الضوء عليها. لذا نرى التاريخ والاجيال لا تنظر الى معاوية، إلا بالازدراء والتنفّر، أو على في أضعف الايمان بالسكوت حيال سجله السياسي الحافل بالمكر والغدر والخديعة. علماً أن بعض الكتاب والمؤرخين يصفونه بأنه أول مؤسس لدولة قوية في التاريخ الاسلامي، او انه أول مؤسس "للدولة العربية".

أما الدافع الثاني: فهو تصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين، فالحرب والتصعيد السياسي والامني، يمثل فرصة وغطاء شرعي لتصفية الحسابات مع الافراد او الجماعات التي لا تساير الحاكم وحزبه أو الايديولوجيا التي يتبعها. أو ربما فرصة للانتقام والتشفّي من تراكمات تاريخية وسلبية بين الحاكم وبين افراد او جماعات معينة. وهذا يحصل على قدم وساق في بلادنا، حيث نشهد أن الحرب او المعارك الداخلية والاهلية على وجه الدقة، غير خاضعة لقواعد معينة، ولا بصيص نور فيها نحو مخرج النفق المظلم، إنما دوامة من العنف، على شكل اغتيالات ونسف وتشريد وقتل على الهوية وبالجملة.

سماحة المرجع الشيرازي يستشهد بحديث عن الامام الصادق، عليه السلام، يؤكد عدم وجود الانتقام في منهج الاسلام، حيث سُئل عن الرجل من أهل الحرب، إذا أسلم في دار الحرب، فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك؟ فقال: "إسلامه إسلام لنفسه ولولده الصغار وهم أحرار، وولده ومتاعه ورقيقه لـه..". وهكذا شملت هذه القاعدة الحضارية، مشركو مكّة ومن شارك في قتال المسلمين، فقد دخل الجميع في الاسلام، دون أن يسمه أحد بسوء، أو ان يذكره بما فعل أيام تبليغ الرسالة مع النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، بل ما فعله وغيره من المكائد والمؤامرات وإلحاق الأذى به، صلى الله عليه وآله.

إن ابتعادنا عن هذه القاعدة والسمة الحضارية، كلفت شعوبنا الكثير من الخسائر الفادحة في الارواح والممتلكات والثروات، في حروب جانبية أبعدتنا عن العدو الحقيقي، وهو الانحراف والفساد والطغيان لدى الانظمة السياسية ومن يقف خلفها من الدول الكبرى ذات المصالح الاستراتيجية في العالم. لنلاحظ الثورات والانتفاضات التي جرت في غير بلد من بلادنا خلال العقود الماضية، وما يزال لهيب بعضها لم يخمد بعد، مثل تونس ومصر وليبيا، حيث نشهد يومياً احداث العنف والتصعيد الامني والسياسي يقضّ مضاجع الناس الذي عقدوا الآمال لتحقيق التغيير الشامل والحقيقي في حياتهم، وليس الخروج من الصراع مع حاكم ديكتاتوري، للدخول في صراع جديد ينشب بين رموز وقادة تلكم الانتفاضات.

سماحة المرجع الشيرازي، يضيئ زاوية مظلمة في ساحة الصراع، أو لنسمها "دوامة الصراع"، وهي الجهل والتسطيح في الوعي أزاء ما يجري من تحولات وتطورات على الساحة، فقد باتت بلادنا على وشك القبول بالأمر الواقع بأنها بلاد مسكونة بالحروب والمعارك والارهاب وغيرها من مفردات العنف والدموية، و يؤكد سماحته بأن هذا ما يحرص على تكريسه وترويجه الدوائر المخابراتية الغربية، في حين إن حقيقة اللغة التي يجب أن تسود بين المسلمين هي الحب والمودّة – يقول سماحته- وهو العامل الأول الذي جعل المؤرخين يذكرون: أنّ الزحف الإسلامي في قوته وسرعته، هو الفريد الذي لم يحدّثنا تاريخ العالم كله لـه مثيلاً ولا نظيراً.. ويضيف سماحته ايضاً: " بالحبّ والفضيلة استطاع الإسلام أن يكسب العالم فكرياً، ويخضع حكومات الدنيا سياسياً".

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 28/كانون الأول/2013 - 24/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م