لم يكن انفصال جنوب السودان المستعجل عن شماله، وصفة سحرية لمعالجة
الأزمات المتفاقمة في "السودانين"... الشمال ما زالت تضربه عواصف حركات
التمرد والانفصال، والتي وصلت إلى قلب الدوائر الضيفة للنظام الذي فقد
عدداً كبيراً من رموزه المؤسسة بالانشقاق أو بالتغيير، أما الجنوب،
فالحرب الطاحنة بين قبائله ورموزه، تكاد تصير حرباً أهلية جديدة، ستأكل
إن امتدت وتواصلت، أخضر البلاد ويابسها.
لكأنه كتب على السودانيين، عرباً وأفارقة، مسلمين ومسيحيين ووثنيين
(كما يوصفون)، في الصحراء والأدغال، أن يخرجوا من حرب إلى حرب، ومن
حالة عدم استقرار إلى حالة تأزم وصراع... لا استراحة محارب في السودان،
ولا عزاء لفقرائه الذين ذاقوا الأمرين جراء حروبهم الداخلية، وحروب
الآخرين عليهم.
بين سيلفا كير ميارديت ونائبه السابق رياك مشار، صراع مكشوف على
السلطة، سابق لما أسمي بالمحاولة الانقلابية... تحول إلى حرب قبائل،
تقف قبيلة "الدينكا"، كبرى قبائل الجنوب بزعامة سيلفا كير في خندق منه،
وتقف قبيلة "النوير" وهي أيضاً من أكبر قبائل الجنوب، بزعامة مشار، في
الخندق الآخر، وخلف كل قبيلة من القبيلتين، تصطف قبائل وأحلاف قبلية
أقل شأناً، ما ينذر باندلاع حرب شاملة، قد تمتد بتأثيراتها إلى "ما بعد
ما بعد جوبا"، حيث امتداد هذه القبائل يصل إلى عدد من الدول المجاورة.
ولأن الحكاية تتخطى حدود "المحاولة الانقلابية" إلى حرب مواقع
ومناطق تهدد وحدة البلاد، وتنذر بإعادة رسم خرائطها وفقاً للواجهات
القبلية وتطلعات زعمائها المحليين، فقد هرع الاتحاد الأفريقي ومن خلفه
المجتمع الدولي، للتدخل بكثافة، في مسعى للتوسط بين الفريقين، وثمة ما
يشير إلى أن بؤرة جديدة، لتوتر مديد، قد فتحت في المنطقة، قبل أن تكمل
الجمهورية الوليدة عامها الثالث... وإن لم تفلح جهود الوساطة في إعطاء
أُكلها سريعاً، فإن دولة الجنوب ستكون قد وضعت بدورها على سكة التقسيم،
المستند إلى "المكون القبلي" هذه المرة، بعد أن كان انفصال الجنوب عن
الشمال، قد تم استناداً للمكون الديني/ الطائفي بين شمال مسلم وجنوب
مسيحي.
قبل انفصال الجنوب، قيل إن الشمال بكثرته المسلمة، يتحكم بالجنوب
بكثرته المسيحية، برغم أنه "مستودع" النفط السوداني وخزانه... اليوم،
أو غداً سيقال شيئاً مشابهاً: إن الدينكا بكثرتها العددية، تتحكم
بالنوير التي ينتشر أبناؤها ومواشيهم فوق بحر من نفط الجنوب، الذي
يتركز في مناطق انتشار هذه القبيلة بشكل خاص... يبدو أن كرة التشقق
والتناسل والتفسخ إلى كيانات أصغر، ما زالت تفعل فعلها في جنوب السودان،
كما أن شماله لم ينجو من تأثيراتها المدمرة بعد.
الوضع في الشمال، لا يبدو أحسن حالاً بكثير... الأزمة بين النظام
والمعارضة على أشدها، والبلاد شهدت موجات متعاقبة من التظاهر تعددت
أسبابها، وإن كانت انتهت إلى ذات الشعار والمطالب... أما النظام نفسه،
فتحيط بإجراءاته الأخيرة جملة من الأسئلة وعلامات الاستفهام، بعد أن
أطاح الرئيس بأبرز مساعديه ونوابه، وأحل محلهم جنرالات أكثر التزاماً
وولاءً، وقبلها كان "مُنظر النظام وعقله السياسي"، يعلن انشقاقه عن
الحزب الحاكم، ويسعى في تشكيل حزبه الخاص، من دون أن يعرف أحدٌ، ما إذا
كانت هذه الخطوات ستقوي النظام وتعيد انتاجه، أم أنها ستضعفه وتعجّل في
تفكيك قبضته.
لأكثر من ثلاثين عاماً، والسودان في قلب دائرة الأخبار... والمرجح
أن يستمر على هذا الوضع لثلاثين عاماً قادمة على ما يبدو، وكلما لاحت
في الأفق إرهاصات حلولٍ لأزمة معينة، تناسلت منها أزمات أشد كلفة
وتعقيداً، في بلد مترامي الأطراف، متعدد الأعراق والأقوام واللغات
والأديان... يضربه الفقر والجوع واللجوء، بقوة تتخطى مقياس "ريختر"،
وتتكاثر عليه ومن حوله، الأطماع والأجندات، وتثير قبضته الرخوة على
حدوده وسيادته، شهية مختلف اللاعبين: من إسرائيل والمراكز الأفريقية
الكبرى، إلى العواصم الإقليمية والدولية الأكبر، مروراً بحركات التطرف
والتبشير الديني، الإسلامي منها والمسيحي على حد سواء.
كنا من قبل نطالب بـ"سودان واحد بنظامين"، يومها قيل الكثير في هجاء
النزعة التفريطية لهذا الشعار، انتهينا إلى "سودانين بنظامين"، والأرجح
أن كرة الثلج المتدحرجة لن تتوقف عند هذا الحد، وإن استمر الحال على
هذا المنوال، فقد يصبح شعار "كومنولث للسودانات"، شعاراً وحدوياً
طموحاً، حتى لا نقول عصي على التحقيق، كان الله في عوننا وعون أشقائنا
في السودانين.
* مركز القدس للدراسات السياسية |