بلاد الياسمين .. دولة أزمات غارقة في البؤس

متابعة: كمال عبيد

 

شبكة النبأ: مضت ثلاث سنوات منذ اندلاع ثورة الياسمين في تونس مهد الثورات العربية، ولا تزال المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في تفاقم مستمر بسبب الازمة السياسية الحادة، وسط مشاعر إحباط بين التونسيين الغاضبين بسبب عدم تحقيق المطالب التي ثاروا من أجلها وأولها تحسين ظروف المعيشة المتردية وتوفير فرص عمل للعاطلين، ناهيك عن تعثر عملية التحول الديمقراطي الغاية الأهم، فكما يبدو بأن ثورة الياسمين لم تحقق أهدافها بسبب تواصل مسلسل الاضطرابات والعنف وتزاحم المشكلات في طريق تقدم الديمقراطية بهذه الدولة العربية الربيعية، حيث جسدت تلك الاضطرابات والانقسامات السياسية صعوبة فرض الديمقراطية في بلاد تشهد تغييرات جذرية.

كما أظهرتها المستجدات والأحداث والتطورات الأخيرة في تونس، الممتثلة بتصاعد الأزمات سياسية والمصاعب اقتصادية، فضلا عن تزايد الاضطرابات الأمنية، إضافةً الى أمتعاض شباب الثورة من هيمنة الشخصيات السياسية الكبرى الساحة السياسية، جميع هذه الامور آنفة الذكر وضعت السلطة التونسية على رمال متحركة في الوقت الراهن، ولا يلوح في الأفق حل قريب في ظل الأزمة السياسية ألقت بظلالها على المجالات كافة.

حيث الكثير من المراقبين أن لا شيء تحقق من مطالب الثورة التونسية من أجل الحرية والكرامة وتوفير فرص العمل والحد من المعضلة الكبرى الفساد، بينما يرى المحللون آخرون أن انعدام الثقة هو أساس عدم الاستقرار في البلاد، وقد فاقمه نقص الخبرة في الحكم وإدارة الشأن العام، بينما اعرب ناشطون حقوقون عن اسفهم لكون الديمقراطية التي يطالب بها التونسيون، لا تزال هدفا بعيدا ولعدم انجاز شيء لتحقيق العدالة الاجتماعية.

كما لا تزال البطالة والفقر وارتفاع الاسعار التي ساعدت في اذكاء الانتفاضات هي نفس الشكاوى في الاقتصادات التي تضررت من الاضطرابات التي أبعدت السياح والمستثمرين الاجانب، وتونس مثقلة بهموم اقتصادية لم تتوقف منذ احتجاجات اجتماعية بدأها الشاب العاطل عن العمل محمد البوعزيزي في أواخر 2010 باحراق نفسه لتنتقل بعدها موجة الاحتجاجات إلى أنحاء أخرى من الشرق الأوسط.

وبعد حوالي ثلاث سنوات لايزال كثير من التونسيين الذين يصل تعدادهم إلى 11 مليون نسمة يشعرون بالضيق ويرون أن الاوضاع الاجتماعية لم تزد إلا سوءا بفعل استمرار الخصومات السياسية بين الحكام الإسلاميين والمعارضة العلمانية.

لكن الفرقاء السياسيين في تونس بدأوا الشهر الماضي مفاوضات لانهاء أسوأ ازمة سياسية والتوافق حول حكومة جديدة خلال ثلاثة اسابيع لقيادة البلاد الى انتخابات، وتظهر هذه الحالات استمرار نفس الأسباب التي فجرت احتجاجات شعبية أنهت حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي من مشاكل اقتصادية واجتماعية ومعدل تضخم مرتفع.

وجاءت الأزمة السياسية التي فجرها اغتيال اثنين من المعارضين العلمانيين هذا العام لتزيد من تعقد الوضع في تونس رغم بدء محادثات بين المعارضة والحكومة لانهاء أشهر من الجمود السياسي، لكن كثيرين لا يكترثون فعلا لهذه المحادثات ويرون انها تتعلق باقتناص المناصب ولا تعنيهم في شي.

ويقول معظم المحللين لقد زاد الغموض بشأن نجاح عملية التحول في نهاية الأمر، واكتسبت الهجمات والاغتيالات التي تقوم بها جماعات إرهابية زخما في الأشهر الأخيرة وهو ما تسبب في تدهور أوضاع الأمن والاستقرار.

بينما يرى الخبراء اقتصاديون أن تونس تمر بأزمة اقتصادية لكن الوضع ليس كارثيا وأن هناك امكانية للخروج من هذا المأزق مع انتهاء الأزمة السياسية وتشكيل حكومة جديدة تبعث برسائل طمأنة بأن التوافق حصل وتعطي مزيدا من الثقة للاقتصاد.

لذا يرى يجمع المحللون ان استمرار الأزمة السياسية في تونس يفاقم المشاكل الاقتصادية ويغذي الاحباط الشعبي، وعليه ففي الوقت الحالي تحتاج بلاد الياسمين حلول ومعالجات اكثر فعالية على المستوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية كي تنعم بالاستقرار وتمنع الإخطار المحدقة بها على الأصعدة كافة من تبديد منجزات الثورة.

احتجاجات في الذكرى الثالثة للثورة

فقد أحيت تونس في أجواء باهتة ذكرى مرور ثلاث سنوات على اندلاع "الثورة" التي انطلقت في مدينة سيدي بوزيد (وسط غرب) مهد "الربيع العربي"، ففي 17 كانون الاول/ديسمبر 2010 أضرم البائع المتجول محمد البوعزيزي (26 عاما) النار في نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد احتجاجا على مصادرة الشرطة البلدية عربة الخضار والفاكهة التي كان يعتاش منها.

وتوفي البوعزيزي في الرابع من كانون الثاني/يناير 2011 في المستشفى متأثرا بحروقه البالغة، وقد أججت وفاته احتجاجات شعبية عارمة انتهت يوم 14 كانون الثاني/يناير 2011 بهروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي الى السعودية.

وقدمت ولاية سيدي بوزيد أول "شهيديْن" خلال الثورة عندما قمعت قوات الامن بالرصاص يوم 24 كانون الاول/ديسمبر 2010 تظاهرة في معتمدية منزل بوزيان التابعة للولاية.

وتغَيَّب الرئيس المنصف المرزوقي، ورئيس الحكومة علي العريض، ورئيس المجلس التاسيسي (البرلمان) مصطفى بن جعفر عن مراسم رسمية كان يفترض تنظيمها في مدينة سيدي بوزيد بمناسبة الذكرى الثالثة لاندلاع الثورة، لأسباب "أمنية" وفق منظمين، واكتفى الرؤساء الثلاثة بالمشاركة في مراسم صغيرة أقيمت بقصر رئاسة الجمهورية في قرطاج الضاحية الشمالية للعاصمة تونس.

وكان متظاهرون غاضبون طردوا في 17 كانون الاول/ديسمبر 2012 في سيدي بوزيد الرئيس المنصف المرزوقي ورئيس البرلمان مصطفى بن جعفر ورشقوهما بالحجارة، وقال مراسل فرانس برس إن مدينة سيدي بوزيد شهدت خَمس تظاهرات صغيرة متفرقة نظمها على التوالي الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية)، و"اتحاد أصحاب الشهادات (الجامعية) المعطلين عن العمل"، و"الجبهة الشعبية" (ائتلاف لأكثر من 10 أحزاب يسارية وقومية) و"حزب التحرير" السلفي الذي يطالب باقامة دولة خلافة اسلامية، وحركة النهضة الاسلامية الحاكمة، ولاحظ ان العدد الاجمالي للمشاركين في التظاهرات الخمس مجتمعة لم يتعد الألف.

ولفت إلى أن أغلب المشاركين في تظاهرة حزب التحرير غرباء عن سيدي بوزيد وأنهم رفعوا شعارات طالبوا فيها بإقامة دولة خلافة اسلامية في تونس و"تطبيق الشريعة"، في حين رفع المشاركون في تظاهرة حركة النهضة صورا لشارة "رابعة" تضامنا مع جماعة الاخوان المسلمين في مصر ومع الرئيس المصري المعزول محمد مرسي.

وأضاف ان المشاركين في بقية التظاهرات رفعوا شعارات طالبوا فيها بالخصوص بتوفير فرص عمل للعاطلين مثل "التشغيل استحقاق، يا عصابة السرّاق"، وقال بلال وهو شاب عاطل عن العمل يقطن في "حي النور" الفقير في سيدي بوزيد "لم نربح شيئا من هذه الثورة، ما زلت عاطلا عن العمل وبعض أصدقائي في السجن بسبب المخدرات والبعض الآخر غرق في البحر قبل ان يصل الى ايطاليا (في رحلة هجرة سرية) وآخرون ماتوا في سوريا التي سافروا اليها للقتال" مع الجماعات المسلحة، وأضاف "لم يتغير شيء في سيدي بوزيد، ونحن نكره كل الأحزاب السياسية".

وتبلغ النسبة الرسمية للبطالة في الولاية 24,4 % وهي الاعلى في تونس، ويمثل خريجو الجامعات ومؤسسات التعليم العالي نسبة 57,1 % من إجمالي العاطلين عن العمل في الولاية، وفي العاصمة تونس أقر الرئيس المرزوقي في خطاب ألقاه خلال مراسم أقيمت بمناسبة ذكرى اندلاع الثورة بأن "الكثير" من أهداف الثورة لم يتحقق. بحسب فرانس برس.

وقال "حتى نكون نزهاء يجب أن نعترف فعلا أن هناك الكثير مما لم يتحقق أو تحقق بشكل محدود" لافتا بالخصوص الى "الفساد الذي استشرى حتى أصبح يهدد اقتصاد البلاد ويفاقم صعوباته" وإلى "البطالة التي لا تزال كابوسا يعاني منه جزء معتبر من شبابنا"، لكنه ذكر أن التونسيين و"خلافا لكثير من البلدان التي مرّت وتمر بمراحل انتقالية شبيهة بوضعنا (..) حافظوا على لحمتهم، ولم يسقطوا في العنف"، وأضاف "كما أننا لم نتراجع قيد أنملة في الديموقراطية ولم نضيق على الحريات خاصة على حرية الرأي والتعبير" وأن "الدولة حافظت على تماسكها وتزيد فعاليتها يوما بعد آخر"، وقال "ما فشلنا في تحقيقه ولّى ومضى ولا داعي للتحسر عليه، يكفينا أن نتعلم من أخطائنا جميعا وأن ننظر إلى الأمام".

معاناة شعبية

في سياق متصل وقفت شيماء الطياشي وإلى جانبها زوجها تنظر لجدران مصنع الأحذية التي ألفتها وعملت بينها طوال 15 عاما تعرفت خلالها على شريك حياتها ونسجا معا أحلام قصة جميلة.. لكنها لم تستطع أن تحبس دموعها حين تذكرت أن حلمها الجميل قد تحول إلى كابوس مرعب بعدما أغلق المصنع وتركها تصارع مع زوجها وأبنائها الثلاثة مصيرا غامضا.

ففي اغسطس آب أغلق مصنع "جال قروب" الايطالي للأحذية الواقية الواقع في مدينة منزل بنزرت التونسية بسبب أزمة مالية ليضيف أكثر من 4500 عامل الى قائمة العاطلين عن العمل في بلد يبلغ معدل البطالة فيه 15.9 بالمئة.

تقول شيماء إنها تواجه ظروفا اجتماعية صعبة بمنحة شهرية قيمتها مئة دولار توفرها الدولة لا تكفي حتى لشراء الطعام وتصف الحياة بأنها "أصبحت لا تطاق."

لكنها ليست الوحيدة التي تعاني من شظف العيش في ظل تلك الظروف الصعبة إذ يقول محمد عبد المؤمن الذي كان يعمل في نفس المصنع إن ابنته ستضطر للانقطاع عن الدراسة وإنه أصبح عاجزا حتى عن توفير الأكل لابنائه الأربعة بعد اغلاق المصنع مضيفا أنه أصبح يعيش على اعانات بعض الأصدقاء.

يقول عبد المؤمن "هذا ليس حوارا من أجل الوطن...إنه حوار من اجل الكراسي والغايات الشخصية فقط"، ويضيف " منذ الثورة ونحن نسمع وعودا وكلاما جميلا ولكننا لا نرى سوى الكوابيس. اخر همهم (هو) مصلحتنا. اليوم فقدنا شغلنا ولا أحد يهتم بنا".

وأجبرت الاحتجاجات والاعتصامات والمطالب برفع الاجور أكثر من 150 مستثمرا أجنبيا على غلق مؤسساتهم ما زاد من عمق الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعانيها البلاد وسط تراجع الصادرات المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي وهبوط الدينار التونسي الى أقل مستوياته وتراجع احتياطي البلاد من العملة الاجنبية.

كما زاد استفحال الأزمة السياسية من مصاعب تونس في الاقتراض الخارجي لاسيما بعد خفض تصنيفها السيادي للبلاد.

وأذكى تفجير انتحاري الشهر الماضي أمام فندق في منتجع سوسة السياحي -لم يقتل فيه سوى منفذه- المخاوف من سقوط البلاد في براثن الفوضى وتهديدات الجماعات الدينية المتشددة.

وهذه أول مرة يستهدف فيها متشددون قطاع السياحة المصدر الأول للعملة الصعبة في تونس والذي يوفر نحو نصف مليون فرصة عمل.

ومباشرة بعد التفجير خفضت وكالة فيتش التصنيف الائتماني لتونس من (BB+) الى (BB-) مع نظرة مستقبلية سلبية وعزت ذلك إلى تعثر عملية التحول السياسي في البلاد منذ انتفاضة الربيع العربي.

وتحت ضغط المقرضين الدوليين اعلنت الحكومة انها ستبدأ سياسة تقشف تشمل تقليص الدعم وتجميد زيادة الرواتب وهو ما قد يزيد الاحتقان ويقود البلاد الى مزيد من الاحتجاجات الاجتماعية، ويأتي هذا في وقت يعاني فيه التونسيون من ارتفاع الأسعار والتضخم الذي وصل إلى 6.5 بالمئة لاول مرة هذا العام قبل أن يتراجع إلى 5.8 بالمئة في اكتوبر تشرين الأول، وفي سوق بجهة حي الانطلاقة يقول رمزي وهو حارس عمارة "أحاول ان اشتري ما هو ضروري فقط..السمك واللحوم أصبحنا نراها فقط في التلفزيون ولا نقدر على شرائها بسبب الارتفاع المجنون للأسعار".

ويشكو عدد كبير من رجال الأعمال من تدهور الأوضاع الأمنية التي لم تعد تشجع الاستثمار الأجنبي.

 وقال محمد فريخة صاحب مشروع سيفاكس للطيران لرويترز إن الاحتجاجات والاضرابات تؤرق المستثمرين وإن المطالب يجب ان تتوقف كي تتمكن تونس من استقطاب الاستثمارات.

وبلغت الزيادات في الأجور هذا العام مليار دينار تونسي مما سيفاقم عجز ميزانية يصل الى 6.8 بالمئة وستكون نسبة النمو في حدود ثلاثة بالمئة بسبب تباطؤ الاقتصاد جراء الأزمة السياسية في البلاد واستمرار الازمة الاقتصادية في أوروبا أول شريك تجاري لتونس.

لكن وداد بوشماوي رئيسة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية انتقدت فشل النخبة في التوصل لاتفاق وحذرت من أن الاهتمام بالشأن السياسي تجاوز الاهتمام بالشأن الاقتصادي الذي وصفته بأنه "أصبح منسيا"، ولفتت إلى غياب الاستثمارات وتزايد عمليات التهريب التي تخرب الاقتصاد وتسهل دخول السلاح والمخدرات للبلاد وقالت "النخبة السياسية خيبت الآمال ولم تستغل الفرصة...الآن كل الأضواء حمراء أمامنا".

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 22/كانون الأول/2013 - 18/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م