ربما كان اجتماع مجلس التعاون الخليجي الاخير في الكويت من اسوأ
الاجتماعات في تاريخ هذه المنظومة الاقليمية التي ولدت في خضم حقبة
سابقة كانت عنيفة وتنذر بامتداد حروب اقليمية الى عمق الدول المؤسسة
للمجلس انتهت المعارك العراقية ـ الايرانية عسكريا بعد ما يقارب العقد
الكامل من الحرب فهدأت مياه الخليج العربي لفترة الا ان تداعيات هذا
التاريخ الدموي لا تزال تلقي بظلالها وتبعياتها على المرحلة الحالية.
تصدرت السعودية مشروع المجلس بمباركة امريكية وطويت صفحات
الاختلافات السياسية بين الاعضاء المؤسسين لفترة الا انها ظلت تظهر بين
الحين والحين وطرحت مشاريع كبيرة لتمكين التعاون على المستويات
الثقافية والاقتصادية والتجارية والامنية الا ان المشروع الاخير الذي
تقدمت به السعودية تحت شعار الوحدة الخليجية ينذر اليوم بتفكيك المجلس
قبل ان يبدأ النقاش حول آليات هذه الوحدة واهدافها واستراتيجياتها. فلم
يحضر الاجتماع الاخير زعماء ثلاث دول من الاعضاء المؤسسين وطويت صفحة
الوحدة بعد ان تعالت الاصوات المنددة بالمعارضين وخاصة سلطنة عمان التي
استبقت الوحدة بالاعلان عن رفضها التام للمشروع وتهديدها بالانسحاب من
الكيان القادم الوحدوي ان هو تطور واصبح حقيقة على ارض الواقع. وان
كانت عمان صريحة في رفضها ففتور الاعضاء الآخرين او صمتهم يدل على عدم
الرغبة في الانخراط بالمشروع السعودي والذي لا تسانده سوى البحرين
لأسباب تتعلق بوضعها الداخلي الخاص.
تبدو السعودية وهي الدولة صاحبة المشروع وحيدة تلملم ما تبقى من
مجلس التعاون الخليجي في ظل تغييرات سياسية اقليمية وعالمية قد تطيح
كليا بالمنظومة الحالية المتمثلة بمجلس التعاون الخليجي حيث لا يبقى
منه سوى هوية باهتة لا تتمثل الا على لائحة اسماء الشركات والمؤسسات
والتي تكاثرت وتشعبت حاملة الاسم الخليجي علها بهذا الشكل تؤصل لهوية
جغرافية وثقافية تذوب فيها الثقافات المحلية لكل منطقة في هذا المجلس.
وان كان النفط قاسما مشتركا بين الدول الست الاعضاء الا ان هذا لم يكن
كافيا لان يسبغ على المنطقة وحدة ثقافية او حتى اقتصادية رغم الامتداد
البشري بين قلب الجزيرة العربية وشواطئها.
حاول المصطلح الخليجي ان يصهر المنطقة تحت شعار هوية جديدة تستغل
سياسيا وأمنيا خاصة في ساعة الازمات والتهديد الخارجي الا ان المصالح
المحدودة لكل دولة وأمنها الخاص وطبيعة مجتمعاتها المحلية رفضت ان تذوب
تحت خطابات الهوية الجامعة حيث فرضت هذه الهوية بطريقة فوقية تم
تأطيرها بمؤسسة اقليمية ومنابر محلية بعد ان كانت حالة طبيعية تعيشها
المجتمعات في المنطقة على شقي الحدود المشتركة بين الدول. وبدل ان
تتقوقع دول الخليج الصغيرة خلف هوية تاريخية ضيقة نجدها فتحت أبوابها
للعولمة وتطلعت الى مرحلة يطغى فيها التراث العالمي على محدودية الهوية
التاريخية وتصدرت الامارات مشروع هذا الانفتاح الاقتصادي والثقافي حيث
رأت فيه تجاوزا لمحدودية المحلي وقيوده وقلة عدده فمن قطاع المصارف الى
الاعلام مرورا بالتقنية الحديثة ووسائل الاتصالات والفن الحديث نجدها
انتقلت الى تشكيل مدنها بطريقة جديدة وهويتها كهوية منفتحة غير مغلقة
وبعد فترة التغني بالتراث المحلي البحري الذي وضعته في متاحف فخمة
نجدها تجاوزت هذا التراث او ربما استبدلته بآخر معلوم تحصد على خلفيته
طفرة اقتصادية ضخمة.
اما عمان صاحبة التاريخ المعولم والتراث الذي يستند على عملية مزج
فرضتها الظروف التاريخية القديمة جعلها من اكثر المجتمعات في المنطقة
تعددية وتنوعا ظلت متمسكة بانفتاحها القديم الذي ترك بصماته على
سياستها الخارجية ومواقفها من المنطقة خلفها فآثرت تحييد نفسها عن
الصراعات القديمة وتبني سياسة براغماتية تناسب تاريخها وحاضرها وظلت
تنظر الى البحر أمامها محاولة تناسي الصحراء القاحلة ومشاكلها وقحطها.
وظهرت قطر على الساحة العربية بحلة جديدة تحاول من جهة تبني الانفتاح
الاماراتي المعولم ومن جهة مناجاة المنطقة العربية بهمومها ومشاكلها
التي تفاقمت منذ اندلاع الثورات العربية.
واصطدم مشروعها لاعادة صياغة العالم العربي بالمنافسة الحادة بين
لاعبين آخرين وجدوا في الربيع العربي فتنة وخطر قادم. وتظل البحرين
مكبلة بمشاكلها الداخلية التي لن يحلها الارتماء في احضان الشقيقة
الكبرى واصبح اسمها مرتبطا بالتبعية للسعودية اقليميا وانتهاكات حقوق
الانسان والقمع عالميا دون ان تظهر بوادر تغيير حقيقي يعيد مكانتها
كجزيرة صغيرة تلعب دورا مصرفيا هاما بعد تقلص مواردها النفطية وتلتفت
الى ازمتها السياسية الداخلية ولن تنفرج هذه الازمة بالاتجاه نحو وحدة
خليجية او حتى فدرالية نتمناها بل سيزيد ذلك من مصاعبها الداخلية ويعقد
الامور اكثر قبل ان تلوح بوادر الانفراج على ساحة محتقنة.
وتبدو الكويت كلاعب توافقي لم يحسم أمره من موضوع الوحدة المقترحة
خاصة وان في هذه الامارة مجتمعا مدنيا وتعددية قديمة سياسية رفعت
اصواتها منددة بالمشروع وحقها في التصويت عليه قبل ان تنجر الحكومة في
متاهاته. وتبقى السعودية تراهن على اهميتها كأكبر دولة في المنطقة علّ
ذلك يخولها لقيادة الدول الصغرى وتطويعها خلف المصالح السعودية الضيقة
من المنظور الآخر.
وان دل مشروع الانسحاب من الوحدة المقترحة على شيء فهو يدل على توجس
معظم الدول الاعضاء من الهيمنة السعودية رغم شعارات التفاهم والاحترام
التي تعودت المنطقة على رفعها وتبادل مراسيمها عند كل فرصة. ولماذا
تتوجس الدول الصغيرة من السعودية وتتردد في الارتماء خلف مشروعها؟ وهل
السعودية تشكل بالفعل خطرا وجوديا على هذه الدول سياسيا بالدرجة الاولى
وربما ثقافيا واجتماعيا بالدرجة الثانية؟ وماذا عن الهوية المشتركة
والتكامل الاقتصادي والهواجس الامنية أليس من المحتمل تحت شراع الوحدة
ان تفعل المنظومة الوحيدة المطروحة تحت الوحدة لتضمن للدول الاعضاء
امنا مشتركا؟ ما شهدناه خلال الجلسة الاخيرة لمجلس التعاون الخليجي
يشير الى ان هذه السيناريوهات ليست بالمستحبة بل مرفوضة قطعيا من بعض
الدول والقبول بها جاء فاترا في احسن الحالات في دول اخرى. ولا يمكن ان
نعول هذا التوجس على التاريخ القديم حيث تعرضت الدول الصغيرة لتهديد من
الداخل السعودي بل لفهم هذه الظاهرة لا بد أن نعول على معطيات الحقبة
الحالية وظروفها الخاصة رغم ان التاريخ القديم قد يبقى في الوعي
الجماعي قبل ان يندثر.
آثرت الدول الصغيرة في المنطقة تبني سياسة خارجية تقوم على المصلحة
الفردية والامن القومي في منطقة تتجاذبها تيارات وصراعات عالمية معروفة
فوجدت ان هذا الامن لا يحققه الا المرونة في التعامل مع مستجداته
وتطوراته بدل ان يظل رهينا للصدام الايديولوجي او حتى العقدي مع القوى
المتعددة خاصة ايران مما جعلها تنظر بحذر وريبة لمشاريع كبيرة تطمح
للهيمنة او فرض نمط لم تتعوده مجتمعاتها وحكوماتها في التعاطي مع
المعضلات السياسية مفضلة لغة الحوار على المصادمة حيث تعلم علم اليقين
ان اي انحياز لطرف سعودي او ايراني قد يقوض طفرتها الحالية ويهدد أمنها
وتنميتها بل انه قد يعرض سلمها الاجتماعي لخطر غير معروف العواقب خاصة
وان هذه المجتمعات الصغيرة متنوعة تاريخيا وحاليا وهذا التنوع المجتمعي
سبب رئيسي في تنميتها وتطورها على عكس السعودية التي لا تظل حبيسة صراع
الهويات الضيقة التي بدل أن تستثمرها نجدها تحاول صهرها في محاولة
بائسة لخلق المجتمع الآحادي صاحب اللون الواحد وهذا ما ترفضه الدول
الصغيرة وتحاول ان لا تنجرف خلفه خاصة ان إرتبط بمشروع وحدة كبير تحت
الهيمنة السعودية وان اخذ إسما خليجيا مشتركا.
وستظل اي وحدة مع السعودية تثير توجسا لاسباب عدة أهمها الطموحات
السعودية التي ترغب بتصدر المنطقة تحت رايتها وتعاملها مع الآخرين من
مبدأ الصدارة والقيادة لا المشاركة الفعلية في صنع القرار
والاستراتيجيات فالسعودية تريد ان تكون قلب العالم الاسلامي ونبضه
الاقتصادي ومنبعه الثقافي والديني ومهندس سياسته الخارجية في آن واحد
مما يثير الحذر بل حتى الرفض القاطع لها وعليها ان تنطلق من الواقعية
وليس الاحلام الكبيرة في عالم تتغير ملامحه واقطابه وتتعدد احتياجاته
مما يدفع الدول نحو سياسة تتماشى مع كل ما هو جديد وتنبذ القديم
المتحجر غير المتجج. هذه الحقيقة جعلت مشروع الوحدة يتفكك قبل ان يبدأ.
* كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
http://www.alquds.co.uk/ |