
"نجاح الحركات الاجتماعية رهين بتجاوز الصراع
الإيديولوجي والقطع معه".
الأزمة هي التي تساهم في ميلاد الحركات الاجتماعية، فهذه الأخيرة
ما هي إلا مجموعة من أفراد المجتمع الذين يعبرون عن أزمة من داخل
النظام الاجتماعي ويطالبون بتغييره. فهي بمثابة تعبير عن حركية المجتمع،
وعن طريقها يستطيع المجتمع أن ينتصر لوجوده.
ويعرف غوي روشيه الحركات الاجتماعية "أنها تنظيم مهيكل ومحدد، له
هدف علني يكمن في جمع بعض الأفراد للدفاع عن قضايا محددة". أما ألان
تورين فيعرفها بأنها "فعل موجه ثقافيا وتصارع اجتماعي يقوم به فاعل
معرف من خلال وضعه المسيطر أو التابع داخل امتلاك التاريخانية".
إن بداية كل حركة اجتماعية تنطلق من خلال تبادل وتناقل الأفكار،
وما يميزها أنها تمر بثلاثة مراحل مهمة مثل بلورة الأفكار المتعلقة
بأهداف الحركة كخطوة أولية، وثانيا العمل على التعبئة مع الفاعلين
الاجتماعيين والسياسيين ومع الجماهير الشعبية، وثالثا السعي إلى
التغيير مع استحضار الوسائل والأدوات التي يمكن أن تساعد في انتزاع
المطالب والحقوق.
ونرى أن العمل على صياغة هدف عام تشعر به الجماهير بأهميته ومكانته،
وتوضيح الأهداف وطرق الوصول إليها، ثم التزام بالفعل النضالي والسياسي،
والعمل على خلق إثارة وحماس في صفوف الحركات الاجتماعية، من العوامل
المهمة التي تساهم في نجاحها، وفي عدم السيطرة عليها من قبل القوى
المعادية لها، سواء القمعية (المادية) المتمثلة في أجهزة الأمن أو
الإيديولوجية (الرمزية) المتمثلة في وسائل الإعلام أو الأحزاب...إلخ.
ولنجاح أي حركة اجتماعية سواء أكانت حركة طلابية، عمالية،
حزبية...إلخ، فإن ألان تورين وهو عالم الاجتماع وأحد المهتمين بالحركات
الاجتماعية يطرح ما يسميه بمبادئ الوجود، حيث تتمثل في ثلاثة مبادئ وهي
كالتالي:
ـ مبدأ الهوية: إذ يتعين على الحركة الاجتماعية أن تعلن عن هويتها
ومن يمثلها.
ـ مبدأ التعارض: تحديد الخصم الذي يتعارض مع أهداف الحركة
الاجتماعية وتوضيحه بشكل موضوعي.
ـ مبدأ الكلية: وهو أهم مبدأ عند ألان تورين، حيث يفترض من الحركة
الاجتماعية أن تكون مكونة من وعي جمعي وشمولي؛ بمعنى آخر ألا تكون
أقلية أو فردية أو إيديولوجية. لأن هذا المبدأ يساهم بشكل كبير في
التأثير على الرأي العام وعلى تحقيق المطالب والمكتسبات وضمان الحقوق.
تلك هي أهم المبادئ التي وضعها ألان تورين لتوجيه الحركات
الاجتماعية، ولا ننسى استحضار طبيعة وخصوصية المجال كعامل مهم في
التأثير على الحركات الاجتماعية، باعتبار المجال ينتج، ويستهلك،
ويتغير، بفعل العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي
تدفع الناس إلى امتلاكه. فالمجال لا يخضع إلى الصدفة، وإنما إلى تنظيم
اجتماعي يسعى إلى التعبير عن نفسه في مرحلة تاريخية معينة. ولا يجب
إطلاقا أن ننسى العامل التقني في التغيير الاجتماعي، نظرا لكونها أصبحت
تعطي أكلها في تحرير المجتمع مما هو سائد وشائع بسبب تعدد قنواتها.
ونلاحظ أنه من داخل الحركات الاجتماعية، هناك من يسعى دائما إلى
إدخال أي حركة اجتماعية في نفق مظلم ومسدود. فدوره لا يتجسد إلا من
خلال الخطاب الإيديولوجي، فغالبا ما يكون خطابه عاطفي، ومنتصرا
للإيديولوجية التي يتبناها في الفعل النضالي، حيث يحاول من خلالها
التأثير على الحركة، ليس انتصارا لها وإنما تخريبها من الداخل، إما عن
وعي أو عن غير وعي، وهذا الأمر يؤثر بشكل سلبي على كل حركة اجتماعية،
خاصة وإن كانت غير منسجمة، أو في بداية تطورها إلى قوة تنظيمية، فمجرد
أن يتم اختراقها أو ضرب نواتها الصلبة من قبل القوى المادية والرمزية
يتم بشكل مباشرة أو غير مباشر إلى تفكيكها.
إن الحركات الاجتماعية هي في الأصل ممارسة سلمية، تقوم على مبدأ
اللاعنف، وهذا المبدأ يختلف من مجتمع لآخر، ويختلف كذلك حتى في نفس
المجتمع، لكن لا يمكن لهذه الحركات أن تحقق مطالبها وتنتزع حقوقها ما
لم تتوفر على الموارد البشرية والتقنية، خاصة وأن الدولة تمتلك قوتين
ضاربتين تسمح لها بالقضاء على من يعارضها، وتتمثل هاتين القوتين
بالأساس في الأجهزة القمعية والأجهزة الإيديولوجية. إذ تستطيع الدولة
من خلال هذه الأجهزة فرض سيطرتها على المجتمع وتصريف خطابات خاطئة
ومغلوطة للرأي العام ضد الحركات الاجتماعية بدعوة أنها حركات تخريبية،
همجية، محظورة...إلخ. ومما هو معلوم فإن الحركات الاجتماعية هي عبارة
عن مجموعة من أفراد المجتمع؛ أي أنها جزء لا يتجزأ من المجتمع تسعى
بدورها للتعبير عن الخلل الذي يعرفه النظام الاجتماعي ككل بطرق سلمية.
لكن تعاطي الدولة مع الحركات الاجتماعية عن طريق الأجهزة القمعية (العنف
المادي) والإيديولوجية (العنف الرمزي)، يعطي للحركات الاجتماعية في
مرحلة معينة الحق في تبني العنف المضاد بنوعيه المادي والرمزي للدفاع
عن قضيتها وتغيير واقعها والاتجاه إلى قلب البنية الاجتماعية. ففي وقت
الأزمة، فإن الحكومات لن تعطي الحلول ولن تنقد المجتمع، لأنها حكومات
فاسدة ومخترقة.
ففساد الأنظمة الحاكمة يؤدي بالضرورة إلى سوء توزيع الثروة، نظرا
لأنها تعمل على احتكار وسائل الإنتاج، الشيء الذي يساهم في خلق عدم
التوازن على مستوى المصالح والأهداف والغايات من داخل النظام
الاجتماعي. مما يساعد بشكل أو بآخر على تقوية الصراع الاجتماعي وإعادة
إنتاج الصراع الطبقي بين كل القوى الفاعلة، نتيجة لسوء تدبير النخب
السياسية، وعدم قدرتهم على بناء نظام اجتماعي يقوم على مجموعة من الأسس
أهمها العدالة الاجتماعية بالدرجة الأولى. من هنا يأتي دور الحركات
الاجتماعية كظاهرة اجتماعية في حل هذا التناقض الذي يخيم على المجتمع،
ومطالبتها بإصلاحات لتجاوز الأزمة وإعادة التوازن إلى المجتمع. فعوامل
الظلم الاجتماعي كالإقصاء والتهميش والفقر وعدم تكافؤ الفرص وعدم
احترام الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية...إلخ، هي شروط لإنتاج
الحركات الاجتماعية، لأنه في ظل تواجد الأزمة بالمجتمع، يمكن القول
أننا لسنا على أعتاب مجتمع ما بعد الحركات الاجتماعية.
وخلاصة القول، فإن الحركات الاجتماعية عبارة عن خطة جماعية تعبر عن
خلل وظيفي من داخل المجتمع، حيث تعمل على تجاوز ذلك الخلل عبر مجموعة
من الوسائل والطرق التي ترى أنها مناسبة ومفيدة وستساعد على تحقيق
مطالبها وانتزاع حقوقها، هذا من جهة. ومن جهة ثانية فإن نجاحها مرتبط
أساسا بالقطع مع ما هو إيديولوجي أو التنازل عن القميص السياسي
والإلتفاف حول الهدف الذي يؤطر المعركة النضالية التي تخوضها.
* باحث في علم الاجتماع
Abdelilah.farah89@gmail.com |