تجارب العنف و قدوات السلام..

مانديلا مثالا

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: تحتفي الشعوب في العالم بزعماء ورموز لها، ناضلوا من أجل حريتهم وكرامتهم وحقوقهم، كما هو الحال في "غاندي" الهند، و "مارتن لوثر كنغ" في امريكا، وأخيراً وربما ليس آخراً، "نيلسون مانديلا" في جنوب افريقيا، الذي توفي مؤخراً عن عمر ناهز الـ (94) عاماً، وكان أحد رموز المعارضة ضد نظام التمييز العنصري منذ خمسينات القرن الماضي، وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاثين عاماً، ثم أفرج عنه عام 1990، بعد أن قضى (27) عاماً، لكن خروجه من السجن، لم يكن مثل دخوله، فقد خرج منتصراً.. قائداً لمرحلة انتقالية لشعب جنوب افريقيا ذو الأغلبية السمراء، والذي حكمته لعقود طويلة من الزمن، أقلية بيضاء زرعها المستعمرون، ثم وقف الغرب بأسره الى جانب هذا النظام الذي تمسك بنهج الفصل العنصري وحيداً بين دول العالم.

فما الذي فعله مانديلا حتى كسب الحب والتأييد من شعبه، بل والاحترام من الأقلية البيضاء التي تلطخت أيدي أفراد منها بدماء المواطنين السود في الشوارع أو في المعتقلات؟.

إن نشأة مانديلا الاجتماعية، تبين قدرته على تجاوز العقبة النفسية التي كان يضعها النظام العنصري أمام اصحاب البشرة السمراء، ممن يرومون طي مراحل التطور والتقدم في الحياة.

ففي قرية صغيرة تدعى "كونو"، ولد طفل صغير حمل اسم "روليهلاهلا مانديلا"، وكان يعيش مع افراد عائلته في أكواخ صغيرة، وكانت تأكل من المحاصيل المحلية من الذرة والفول واليقطين وتشرب من مياه الجداول. وعندما أراد هذا الولد وضع قدمه في المدرسة، كان عليه أن ينسى اسمه القبلي والمحلي، ويحمل اسماً جديداً اختارته له  المدرسة وهو: "نيلسون"، بناء على النظام البريطاني في التعليم هناك، حيث يفرض على الاطفال اختيار اسماً غربياً لسهولة النطق به.. 

وفي سن التاسعة توفي والد منديلا نتيجة مرض في الرئة، وقد كان زعيماً لقبيلته، فانتقل الطفل ا لصغير مع عائلته للعيش مع حاكم شعب ثامبو "جونجينتابا داليندييبو" الذي أراد من خلال تبني نيلسون مانديلا رد الجميل لوالده بعد أن زكاه رئيسا لقبيلة الثامبو قبل سنوات. فعاش مانديلا في الإقامة الملكية وبسرعة تأقلم مع نمط الحياة في بلدته الجديدة "مكيكيزويني". وكان له نفس وضع ومسؤوليات إبني الحاكم الآخرين الإبن "جاستيس" و الابنة "نومافو".

كان زملاؤه في المدرسة ينادونه "القروي" تهكماً، ولكن ذلك لم يمنعه من ربط صداقات مع عدد من الطلبة، وسجل تفوقاً في الدراسة، في المراحل الابتدائية، ثم الثانوية، ثم تمكن من الوصول الى الجامعة لدراسة القانون.

هذه المسيرة واكبت المواجهات والصدامات في الشارع، بين سكان البلاد الأصليين، وبين النظام الحاكم ذو البشرة البيضاء المدعوم غربياً، فكان القمع الوحشي والاضطهاد والاعتقالات والقتل واقتحام الاكواخ والبيوت، من المشاهد المعتادة في جنوب افريقيا، وكان العالم، منذ عام 1948، تاريخ تأسيس هذا النظام، يرى ويسمع مشاهد مريعة من الضرب بالهراوات والرفس والاعتقالات التعسفية، وايضاً التعذيب الوحشي في أقبية السجون، من دون أن يطال ذلك النظام البشع والشاذ، أي عقوبات دولية أو ضغوطات من لدن منظمات انسانية، او من الامم المتحدة، سوى بعض المقاطعة والاستنكار الخجول من بعض الدول، إنما وصل التغيير الى  افريقيا الجنوبية مع نسمات الديمقراطية التي هبت على أوربا الشرقية، ومسحت عنها آثار الكآبة والحزن والحرمان، و رفعت عنها الى الأبد ذلك الصنم الماركسي الذي جثم عليها طيلة حوالي سبعين عاماً. فكان لابد من خروج النظام العنصري بوجهه البغيض "أبارتايد"، وبشكل يحفظ ماء وجهه، وماء وجه الداعمين والمؤيدين له في الغرب، في مقابل الحرية والديمقراطية للأغلبية السمراء، والتخلص من الضرب المبرح في الشوارع والتعذيب في المعتقلات والإذلال والتنكيل والموت.

لقد واجه هذا النظام، نشاطات مسلحة من جانب "المؤتمر الوطني الافريقي" الذي حمل السلاح ولجأ الى العنف في محاولة لايقاف العنف والدموية العنصرية عند حدّ معين. لكن هذا لم ينجح لعدم التكافؤ في ميزان القوة، فما كان من الغرب الداعم، وتحديداً الولايات المتحدة، وفي عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان، إلا أن يصنّف هذا المؤتمر ضمن قائمة المنظمات الارهابية، لانه يقوم بعمليات مسلحة دفاعاً عن نفسه، وعن المتظاهرين الذين كانوا يطالبون بحقوق بسيطة، مثل المواساة والعدالة واحترام حقوق الانسان.

هنا؛ كان على مانديلا اختيار أحد سبيلين: إما الاستمرار في النضال المسلح الى جانب خلايا منظمة المؤتمر الافريقي، أو سلوك نهج السلم ومنطق الحوار مع النظام العنصري الذي كان بأمسّ الحاجة لمخرج مستنقع الدم الذي صنعه هو بنفسه، وهذا يقتضي من المحاور المسالم، أن يغضّ النظر عن أمور كثيرة، أهمها "الانتقام"، والرد بالمثل الى الجرائم التي يرتكبها النظام العنصري الدموي. بمعنى أن تكون الخطوة الاولى من مانديلا الذي تحول الى رمز للنضال السلمي في جنوب افريقيا، ولذا نجد أنه أفرج عنه قبل ثلاث سنوات من إتمام فترة سجنه، وهذا ما لم يرتضيه الكثير في "المؤتمر". وفي حشد جماهيري كبير دعا مانديلا و بصوت عالٍ أن "ألقوا بسكاكينكم وأسلحتكم في البحر.."! مطلقاً دعوته بأن العنف لن يؤدي الى مزيد من العنف. ثم توجه بخطابه في وقت لاحق الى العالم، والى الغرب تحديداً، بان النضال المسلح الذي انتهجه شعب جنوب افريقيا، فهو بالحقيقة للدفاع عن نفسه أمام سياسات القمع والتنكيل الوحشية، أما عن نهج العنف، فهو وسيلة للمطالبة بحقوقهم المشروعة، وليس هدفاً بحد ذاته.

هذا النهج بالقدر الذي كسب تأييد النظام الحاكم في بريتوريا، عاصمة افريقيا الجنوبية، فانه أشعل نار الخلافات بين المؤتمر الوطني الافريقي الذي يعد نفسه أميناً على سجل نضال وكفاح الآلاف من المعذبين والمضطهدين طيلة العقود الماضية. إلا ان مانديلا، أحد قادة المؤتمر، تمكن من إقناع رفاقه وايضاً جمهور الشعب بأن الخيار الأصلح والأفضل لهم هو التطلع الى الأمام والتفكير بالمستقبل بدلاً من استذكار الماضي المرير والاستمرار في لغة الانتقام والعنف. لذا كان على جنوب افريقيا أن تنتظر ثلاث سنوات كمرحلة انتقالية من عام 1990، وحتى عام 1993، عندما تخلّى الساسة البيض عن الحكم بشكل نهائي ليتم الاعداد لانتخابات رئاسية جرت عام 1994، وفاز فيها مانديلا بأغلبية الاصوات ليكون أول رئيس جمهورية أسود في افريقيا الجنوبية.

بالمحصلة النهائية، فان "نيلسون مانديلا" الذي نقل بلاده من القمع والاضطهاد، الى الحرية والاستقلال والكرامة، تحول هو شخصياً الى رمز وطني في حياته، وفي مماته تحول الى رمز عالمي لتحقيق الحرية وحقوق الانسان من خلال الوسائل السلمية، وقبل انتخابه رئيساً لبلاده، حصل مانديلا على جائزة "نوبل" للسلام عام 1993، وهي الجائزة التي يعطيها الغربيون لمن يسهم في إحلال الأمن والاستقرار، محل العنف، سواءً كان ذلك الشخص مثل "بيغن" رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق، الذي وافق على مبادرة السلام المصرية – الساداتية، أو كان "مانديلا" الذي رفض الاستمرار في لغة العنف لمواجهة النظام العنصري.

وهذا يدعونا الى الالتفات الى أن قدوات للسلم واللاعنف، لن تكون متكاملة في العصر الحاضر، لأنها تحمل هذه المفاهيم المحببة للانسان، عبر صفقات سياسية، وربما دهاليز مخابراتية، يكفي أن نعرف أن مانديلا، كان محروماً من زيارة الولايات المتحدة ودول غربية أخرى لأنه ينتمي الى المؤتمر الوطني الافريقي المدرج على قائمة "التنظيمات الارهابية" من قبل الخارجية الامريكية، ونقل عن وزيرة الخارجية في عهد الرئيس بوش، شعورها بالحرج من هذه الناحية، وعملت جاهدة لترتيب زيارة لهذا الزعيم الافريقي ، وكان عام 2008، مجرد شخصية عالمية معروفة، بعد أن ودع السياسة والزعامة، فحصل اللقاء بينه وبين بوش في البيت الأبيض، لتتضح حقيقة السياسة الامريكية والسياسات الغربية التي تقرأ المفاهيم الانسانية بلغتها الخاصة، وليس بلغة أهلها المضطهدون.

بينما لو تأملنا شخصية الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، نجد أنه كافح التمييز العنصري، وكل اشكال التفرقة والتمييز بين النوع الانساني، ليس من خلال صفقة سياسية، إنما من خلال اتفاق غير مكتوب يبرمه الانسان مع نفسه، بعد أن يزن المساواة والعدالة وحقوق الانسان في ميزان الوجدان والضمير والفطرة السليمة، فيجد أنها أرجح من غيرها، لذا لن يكون ثمة مكاناً للتمييز والتفوق والطبقية، اذا ما كان الانسان حقاً يريد العيش بسلام وهناء بين أقرانه وابناء مجتمعه. لذا نجد مبادئ حقوق الانسان الذي جاء بها الاسلام، من خلال سيرة النبي الأكرم، وأمير المؤمنين والأئمة المعصومين، عليهم السلام، راسخة ومتجذرة في النفوس، لا يمكن الالتفاف عليها أو تفسيرها وفق مصالح معينة. مثال ذلك؛ سلمان المحمدي وأبا ذر.. كان الأول مشمولاً بالتمييز القومي، والثاني مشمول بالتمييز الطبقي والاجتماعي، لكنهما كانا يرفلان بالعزّ والكرامة في عهد النبي الأكرم، فاصبح "سلمان الفارسي" محمدياً و "..منّا أهل البيت"، كما أصبح أبا ذر، أصدق ذي لهجة ممن هو على البسيطة، كما مدحه النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله. هذا النهج المحمدي، امتد حتى عهد أمير المؤمنين، ومن بعده الحسين والحسين، عليهم السلام، عندما تعرض "الموالي" لسياسة التمييز العرقي والقومي التي اتبعها الأمويون، فوقف أهل البيت، عليهم السلام، ضد هذه السياسات اللاانسانية محاولين دائماً توحيد المجتمع ضمن إطار المصالح المشتركة والاحترام المتبادل، حتى نقرأ في التاريخ، أن المسلم وغير المسلم، كانوا يعيشون في ظل الدولة الاسلامية بحرية وأمان واستقرار.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 16/كانون الأول/2013 - 12/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م