ثمة صفات وسمات عديدة، تتصف بها المجتمعات الإنسانية المتخلفة
والمتأخرة عن الركب الحضاري، وغير القادرة على النهوض في مختلف جوانب
الحياة..
وهذه الصفات والسمات، ليست متعلقة بحياة الأفراد فحسب، بل هي متعلقة
بحياة المجتمعات وأنظمة العلاقة الداخلية بين مختلف الشرائح والفئات،
وأنماط العيش، وسبل التعامل مع الثروات والإمكانات الطبيعية
والاقتصادية المتوفرة..
كما أن هذه الصفات تؤثر على طبيعة الثقافة السائدة وأولوياتها
ومعايير التفاضل على مستوى القيم الاجتماعية والعملية..
وما أود أن أتحدث عنه في هذا المقال، جانب واحد، يتعلق بالجوانب
المعرفية والمنهجية وهذا الجانب هو طبيعة العقل والعقلية السائدة في
المجتمعات المتأخرة والمتخلفة..
وقبل الخوض في هذا الجانب من الضروري في هذا السياق التفريق بين
مفهوم العقل وهو ما وهبه الله سبحانه وتعالى لجميع الناس الأسوياء
بالتساوي، والعقلية وهي نتاج الثقافة والبيئة الاجتماعية التي يعيشها
الإنسان فرداً أو جماعة..
فنحن جميعاً كبشر أسوياء، نمتلك العقل، ومواده الخام إذا صح التعبير
واحدة سواء عشنا في الغرب أو الشرق، في هذه اللحظة الزمنية الراهنة أو
في أي لحظة زمنية أخرى..
وبين العقلية وهي نتاج طبيعة وضروري لنوعية وطبيعة الثقافة التي
يتلقاها الإنسان وطبيعة الظرف الاجتماعي والاقتصادي الذي يعيشه
الإنسان.. فعقليات البشر مختلفة ومتنوعة ومتفاوتة، باختلاف وتنوع
وتفاوت حصيلة الإنسان الثقافية وطبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية
التي يعيشها الإنسان..
وعلى ضوء هذا نستطيع القول: إن عقلية الإنسان الذي يعيش في مجتمعات
متقدمة ومتطورة علمياً وإنسانياً، تختلف في منظومتها وأولوياتها
وهمومها واهتماماتها، عن تلك العقلية التي تشكلت في مجتمعات متخلفة
حضارياً ومتأخرة اقتصادياً واجتماعياً..
وانطلاقاً من هذا التباين والاختلاف في عقليات البشر، تبعاً إلى
طبيعة حياتهم الحضارية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، يمكن
الإشارة إلى طبيعة العقل بمعنى (العقلية) التي تتشكل لدى الآحاد
والمجموعات في المجتمعات المتقدمة والمتأخرة في آن..
فالعقلية التي تسود في المجتمعات المتأخرة، هي عقلية سجالية، لا
تراكم المعرفة، ولا تتجه صوب تظهير وتجلية الحقيقة أو الحقائق، بل تتجه
إلى الشخصنة والدخول في معترك سجالي يتجه صوب الإفحام والإحراج والخروج
من لحظة السجال الأعمى بحالة من القبول والرضا عن الذات وأدائها.. لذلك
نجد أن في المجتمعات المتأخرة تكثر السجالات والنقاشات، والتي في
أغلبها حول موضوعات خارج نطاق الواقع المعاصر والمعاش..
وهذه السجالات في أغلبها، لا تؤسس لمعرفة جديدة، ولا تعمل في صياغة
رؤية أو نظرية للخروج من المآزق الراهنة التي تضغط سلباً على حركة
المجتمع بكل فئاته وشرائحه.. ولعل من أهم سمات العقلية السجالية هي
أنها تتجه في سجالاتها صوب الأشخاص والذوات وليس حول القناعات
والأفكار.. لذلك حينما أرفض فكرة تبعاً لذلك أرفض صاحبها وفي بعض
الأحيان أمارس الإساءة إليه..
لذلك يبقى المجتمع يعيش السجالات تلو السجالات، دون أفق عملي
واجتماعي لهذه السجالات، سوى المزيد من الاحتقان والتأزيم الاجتماعي..
كما أن من سمات هذه العقلية السجالية، هي أنها لا تبحث عن الحقيقة
وتوسيع المساحات المشتركة بين البشر.. بل كل إنسان أو طرف راض دون فحص
عملي دقيق وموضوعي بما عنده، ويرى أن وظيفة كل السجالات هو إثبات أن ما
لدى الذات هو كل الحق والحقيقة وما لدى الآخر هو كل ما يخالف الحق
والحقيقة.. فجدل وصراخ واستماتة في الدفاع عن قناعات الذات وأفكارها،
دون أن يكلف الإنسان نفسه فحص ما لدى الإنسان وفق معايير علمية
وموضوعية..
لذلك فإن هذه السجالات، لا تؤسس لمعرفة موضوعية سواء عن الذات أو عن
الآخر.. وكل ما تعمله هذه السجالات هو المزيد من الشحن النفسي
والاحتقان الاجتماعي..
فالسجال لا يبحث عن حلول ومعالجات لأزمات العلاقة بين المختلفين،
وإنما يزيد من الإحن والأحقاد، ويوفر المزيد من المبررات والمسوغات
لاستمرار القطيعة والاحتراب المادي والمعنوي بين المختلفين.. فالإنسان
المنخرط في حروب السجال لا ينظر إلى ما قيل، وإنما ينظر إلى من قال..
ولكون هذا القائل من الضفة الأخرى فكل ما يقوله ويتفوه به، ليس مادة
للتأمل والنقاش العلمي الهادئ، بل كل ما يقوله الآخر هو محل الرفض
والازدراء بكل صنوف الازدراء..
فالعقلية السجالية تحول المختلف إلى خصم فكري واجتماعي.. لذلك فإن
العقليات السجالية هي المسؤولة إلى حد بعيد عن خلق البغضاء والعداوة
بين أبناء المجتمع والوطن الواحد.. ولعل من أخطر سمات العقلية
السجالية، هي عقلية لا تستهدف خلق التفاهم بين المختلفين، بل تغطية
الممارسات العدوانية على المختلف والمغاير.. لأن هذه العقلية تنتهك
الحرمة المعنوية والمادية للمختلف، كمقدمة لنبذه واستئصاله وشن الحرب
المعنوية والمادية عليه. لذلك فإن الاختلافات الطبيعية تتحول بالعقلية
السجالية إلى اختلافات جوهرية.. لكونها عقلية تعتمد في عملية التقويم
على رأيين لا ثالث لهما، فهو إما معي فهو يستحق التبجيل حتى لو لم تكن
ثمة مبررات حقيقية للتبجيل، أو ليس معي فهو وفق النسق السجالي ضدي ولا
يستحق مني إلا النبذ والتشويه وإطلاق التهم بحقه جزافاً وكذباً
وبهتاناً..
ونحن نرى إن استمرار العقلية السجالية هي السائدة في المجتمعات،
يعني المزيد من الحروب العبثية والمزيد من التآكل الداخلي لمجتمعاتنا..
لأننا نريد جميع الناس على رأينا وقناعاتنا أو نحاربهم ونعاديهم بكل
السبل والوسائل..
ولا سبيل للخروج من الكثير من المشكلات التي تعانيها مجتمعاتنا على
صعيد علاقاتها الداخلية بين جميع مكوناتها إلا التحرر من ربقة العقلية
السجالية وتأسيس العقلية النقدية القادرة على خلق بيئة معرفية
واجتماعية محفزة على الوئام والتضامن الاجتماعي مهما كانت موضوعات
الاختلاف..
فالعقلية النقدية المطلوبة، هي التي تخرج ذواتنا وأشخاصنا من كل
جولات الحوار والنقاش.. فالحوار لا يتم بين ذوات، وإنما بين أفكار
وقناعات، ولا شك أن هذه الآلية تساهم في إزالة البعد النفسي الذي يحول
دون القبول بالحق أو الحقيقة..
كما أن الحوار وفق النسق الثقافي النقدي، لا يستهدف الإفحام وتسجيل
النقاط على الطرف الآخر، وإنما تجلية الحقائق وتعريف الذات بعلمية
وموضوعية تامة.. فالآخر المختلف ليس فضاءً للنبذ وإطلاق التهم جزافاً
بحقه، بل هو مساحة للفهم والتفاهم، للحوار والتعارف، بعيداً عن
القناعات المسبقة والمواقف الجاهزة..
كما أن الحوار وفق النسق الثقافي النقدي، مهمته الأساسية هو تعزيز
الجوامع المشتركة وسبل تفعيلها في الواقع الاجتماعي، ومعرفة الآخر
معرفة حقيقية ووفق نظامه العقلي والثقافي الداخلي.. فالنسق النقدي يعمل
على خلق أصدقاء ومنظومات اجتماعية متداخلة مع بعضها البعض بعيداً عن
الرؤى النمطية، التي تستسهل الخصومة والعداوة مع المختلف والمغاير..
وجماع القول في هذا السياق: إن المجتمع الذي تسود فيه العقلية
السجالية، سيعيش في كل لحظاته أسير صراعاته الحقيقية والوهمية، دون
إرادة حقيقية للمعالجة والبحث عن حلول ممكنة..
والمطلوب ليس الخضوع إلى متواليات العقلية السجالية، وإنما معالجة
الأمر، وتفكيك كل الحوامل المعرفية والاجتماعية التي تعزز عقلية السجال
في البيئة الاجتماعية، والعمل في آن واحد على بناء أسس ومرتكزات
العقلية النقدية لكونها العقلية القادرة على مراكمة المعرفة، وضبط
الصراعات الاجتماعية والأيدلوجية بعيداً عن الاحتراب والعنف..
كما أنها عقلية تستهدف معرفة الحقيقة بدون افتئات على أحد..
فالعقلية السجالية صانعة أزمات ومشاكل باستمرار حتى بمبررات واهية أو
ناقصة أو غير حقيقية، والعقلية النقدية تبحث عن استقرار اجتماعي على
قاعدة معرفة عميقة ومتبادلة بين المختلفين..
العقلية السجالية من أولوياتها إسقاط حرمة المختلف، بينما العقلية
الأخرى تعمل على صيانة وحماية حرمة المختلف.. العقلية السجالية تبحث عن
التباينات التي تبرر لصاحبها البقاء على موقفه العدائي من الآخر، بينما
النسق النقدي يبحث عن تدوير الزوايا وعن الحلول الممكنة لمشكلات واقعة
وراهنة.. لذلك لا خروج من مسلسل الأزمات والمشاكل العبثية والصغيرة،
إلا بتفكيك حواضن العقلية السجالية لأنها المسؤولة عن الكثير من
الأزمات والمشكلات على المستوى الاجتماعي - الداخلي.. |