الوفاء للشعب وللأمة من واقع الإسلام

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: الوفاء؛ قيمة اخلاقية، عرفها الانسان منذ قديم الأزمان، وعدّها من مرتكزات البناء الاجتماعي، حيث كلما انتشرت الثقة بين افراد المجتمع، زادت فرص العمل والانتاج، وايضاً الحياة الطيبة. أما التنكّر ونقض الوعد، فانه بالقطع يؤدي الى هدم قاعدة الثقة، ثم زعزعة البناء الاجتماعي، بمعنى أن كل شيء قابل للتغيير والإلغاء في أي وقت، فلا وعد ولا موعد دقيق، وإن كانت – كما هو الحال في حياتنا اليومية- فهي ظاهرية وقشرية لا لباب فيها ولا فائدة، إنما للمجاملات أو إظهار الجدية وإدعاء الصدقية في العمل، في مختلف مجالات الحياة، من داخل البيت الصغير، وحتى المحلّة ومحيط العمل، وحتى البلد الكبير.

هذه القيمة الاخلاقية، كما هو حال القيم الاخرى، مثل الصدق والأمانة، لا ينكرها أحد، بل يدعي الجميع وصلاً بها، حتى الطغاة والبغاة في أشد مراحل حكمهم، فهم يدعون الصدق مع شعوبهم، والأمانة على شعاراتهم، والسبب أكثر من واضح، فالجمالية والجذابية في هذه القيم، تعود الى جمالية فطرة الانسان ونقائها، فالانسان، بما هو إنسان، لا يقبل لنفسه استساغة الكذب والخيانة ونقض الوعود وعدّها أمور صحيحة.

ولأن المسألة فطرية وذاتية، نجد أن الإسلام يعطي أبعاداً اجتماعية وحضارية واسعة لهذه القيمة الانسانية والاخلاقية، وهذا ما سلّط الضوء عليه سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- وخير تجسيد يأتي من سيرة الرسول الأكرم، وايضاً أمير المؤمنين، صلوات الله عليهم. وذلك في طيات كتابه "السياسة من واقع الإسلام". حيث يقدم لنا سماحته صوراً بأبعاد عديدة لهذه القيمة العظيمة. فهناك الوفاء للانسان الفرد، كما حصل مع ذلك الشخص الذي واعد النبي الأكرم، في مكان محدد بمكة المكرمة، وذلك في الفترة التي سبقت بعثته للنبوة، فما كان من النبي إلا ان ينتظره لساعات طويلة، ثم مضى يوم كامل، ومر اليوم الثاني والثالث، والنبي في مكانه ينتظر صاحب الوعد. وفي الاثناء مر ذلك الشخص ووجد النبي في نفس المكان، فأخبره بأنه ينتظره على الوعد الذي قطعه معه.

وهذه صورة مصغرة، لكنها ليست صغيرة بالطبع، لأنها تعكس مدى اهتمام والتزام النبي بهذه القيمة، بمعنى أن بحثنا عن الوفاء، يجب أن يبدأ من المجتمع الصغير قبل الكبير، وهو في الأسرة الصغيرة، وفي العلاقات بين الزوجين ومع الابناء، أو بين الاخوة والاخوات في مرحلة الرشد، وايضاً بين افراد العائلة الكبيرة، ثم في مساحة أوسع، في محيط العمل والسوق، ومن ثم في مستوى المسؤولين في الدولة المفترض التزامهم بتحقيق أهداف وطموحات البلد. سماحة المرجع الشيرازي – دام ظله- يقول في هذا الصدد: "سياسة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، التي هي بمعناها الصحيح، إدارة البلاد والعباد كما يحب الله تعالى ويرضاه، كانت مبتنية أيضاً على الوفاء بالوعد، والالتزام بالقول، والوفاء الخلقي".

ويذكر لنا سماحة المرجع، درس آخر من الدروس النبوية في الوفاء، حيث ينقل، أن النبي الأكرم، وبعد وفاة السيدة خديجة، كان يرسل هدايا تقديرية الى إمرأة في مكة كانت تتعهدها عندما كانت وحيدة، وقد هجرها ابناء عشيرتها وعمومتها، فكانت تأتيها وتؤنسها وتساعدها، وكان يقول صلى الله عليه وآله: "إنها كانت حب خديجة، انها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان".

وهناك دروس وعبر عديدة من نبينا الأكرم في الوفاء وحسن العهد والتقدير في حياته الاجتماعية، تحفل بها صفحات السير والتاريخ، أبرزها موقفه التاريخي بعد استتباب الامر للرسالة بفتح مكة ونشر الإسلام في ربوع مكة والجزيرة العربية، فبالرغم من أن النبي عاد الى مسقط رأسه – مكة- ومهوى أفئدة الناس، وموطن ذكرياته، وقد أمضى فيها حوالي خمسين سنة من حياته الشريفة، لكنه قرر العودة مع الأنصار الى المدينة، ولم يتركهم يعودوا وحدهم، يقول سماحته في هذا الصدد: حتى لا يكون "قد شاركهم مادام في العسرة فإذا تم الفتح تركهم.. بل أمّر على مكة بعض أصحابه، وقفل راجعاً إلى المدينة بصحبة الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، وآووه ونصروه. وقال قولته المشهور: "اليوم، يوم برٍ ووفاء". ثم توجه الى الأنصار قائلاً: "المحيا محياكم، والممات مماتكم".

وهنا يضع سماحة المرجع الشيرازي في كتابه، يده بقوة على الجرح الذي طالما تعاني منه بلادنا، وهو الوفاء والاحترام والتقدير للناس الذين يبذلون ويرحبون ويقدمون لذلك القائد او الرئيس، ثم نجد التنكّر والجفاء، وأحسن الأحوال إطلاق الوعود الفارغة والمعسولة لتهدئة الخواطر والنفوس. لذا يعبر سماحته عن موقف النبي الأكرم بأنه " الفريد من نوعه في تاريخ العظماء والقادة والثوار، فإنهم إذا أخرجوا من ديارهم نتيجة الثورة فإذا قضوا على الزمرة الظالمة عادوا إلى ديارهم، إلا الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يعد إلى مكة المكرمة ليبقى فيها، بل رجع إلى المدينة المنورة مع الأنصار، وبقي فيها حتى توفاه الله تعالى والتحق بالرفيق الأعلى، ولم يسكن في مكة المكرمة، ولم يبت فيها ليلة واحدة".

النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، كان يتعامل مع مكة والمدينة وسائر الامصار الاسلامية آنذاك كبلد واحد ورقعة جغرافية واحدة، بمعنى أن الدرس بليغٌ لنا ولا مجال للتهرّب، فالمسؤولون الذين يصلون الى المناصب العليا بآراء الناخبين، من نساء ورجال وشباب، ويتلمسون الاموال ويتحسسون بلذة الامتيازات، عليهم تعلّم الدرس من النبي الأكرم، الذي كسب أهل المدينة، ثم العالم بأجمعه بهذه الخصلة، وخصال وصفات حميدة وعظيمة، وبات حتى غير المسلم، يكن له الاحترام والتبجيل. فاذا اراد الوزير والنائب والرئيس، في بلادنا، أن يدوم معه الاحترام والتبجيل والقدير من شعبه، سواءً أكان خلف مكتبه، أو بعد انتهاء مدة خدمته، ما عليه إلا ان يلتزم بنفس الوفاء والتقدير والتبجيل الذي أبداه له شعبه وأهله، بل وأكثر من ذلك. وإن حصل العكس، فبالقطع لن يحصد ويرى سوى العكس.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 5/كانون الأول/2013 - 1/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م