أخلاقيات التغيير... مفهوم الغدير بين الحكومة والحاكم

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: مالك الاشتر، الصديق الصدوق للامام علي عليه السلام، وفي لغة العرب هو الصاحب من الصحبة والملازمة، ومن الصدق تشتق كلمة الصداقة، وهو واحد من بضعة (أصدقاء – أصحاب) للامام الذين يشار اليه بارفع الصفات وانبلها.. واقترن باسمه ما يعد ارفع وثيقة للحكم بين حاكم اعلى (الخليفة) وهو الامام علي عليه السلام وبين حاكم ادنى او ما اصطلح عليه في التراث الإسلامي بتسمية (الوالي) واقصد به عهد الامام علي عليه السلام الى مالك الاشتر.

للصحبة قيم وسلوكيات لا تنفصل عن الصاحب والمصاحب، وفي كل علاقة من هذا القبيل هناك مسارب للتأثر والتأثير، ومن خلالها احتفظ لنا تاريخ الشعر العربي بهذا الوصف: لا تسل عن المرء وسل عن قرينه فان المرء بالقرين يقرن.

وتأسيسا على هذا القول تكون الصحبة والملازمة والقرن هي الهوية وبطاقة التعريف للإنسان، صاحبا وصديقا.. لمالك الاشتر موقف أخلاقي يمكن وصفه بثقافة (البحث عن اعذار للمخطئين للتمهيد لمسامحتهم لا معاقبتهم) لما للمسامحة والعفو من قوة للتغيير، تغيير الاخلاق والسلوك، وهو أيضا، يكشف عن جانب أخلاقي اخر، مترفع، كبير، زاهد، لا يميل الى استغلال سلطات او قوة الصاحب والقرين لمعاقبة او التنكيل بالآخر الخاطئ او المخطئ.

مالك الاشتر، يتعرض لموقف فيه الكثير من الإهانة والسخرية، لعدم معرفة المستهين والساخر بعلاقته بالصاحب –الخليفة، لكن الجهل سرعان ما يتحول الى معرفة عن طريق احد الحاضرين للواقعة.

طلب الاعتذار يلح على هذا الساخر، والسؤال ان يجد من كان محط سخريته.. لم يذهب الى دار الحكومة او الخلافة لرفع شكوى ضده بالتعدي، انه في المسجد يصلي، ركعتان للاعتذار لتلك الإساءة وطلب المغفرة لصاحبها.

يعترض احد الخوارج على الامام علي عليه السلام في صلاة الجماعة داخل المسجد، كافر ما أفقهه.. وهي في الممارسة السياسية في الدارج منها هذه الأيام، تعبير عن رأي المحكوم تجاه حاكمه، لتقصير في الأداء او الواجب او المسؤولية.. لكنه هنا في مقام (الرأي المؤدلج) والذي يستحل تكفير المخالف واخراجه من الملة وما يترتب على ذلك.

اتباع علي عليه السلام، يحاولون الانقضاض على صاحب هذا التقول، لكن خليفة المسلمين له رأي اخر، ليس له علاقة بالبطش او التنكيل او المعاقبة التي عادة ما يمارسها الحكام ضد أصحاب الرأي، (دعوه انما هو سب بسب، او عفو عن ذنب).. في الحالة الأولى الحاكم والمحكوم يخضعان لنفس القاعدة الأخلاقية التي يرسمها القران الكريم للمؤمنين، المسؤولية العامة المشتركة، وفي الحالة الثانية، الحاكم والمحكوم يخضعان لجملة من القواعد القانونية، المساءلة والمحاسبة وايقاع العقاب، لكن العفو أولى من موقع الاقتدار والقوة حين امتلاك مصادرها.

السلوك الأخلاقي للحاكم في المثال الثاني جذره التأثيري يمتد الى المثال الأول للصاحب، وهو تأثير لا يقتصر على فترة زمنية معينة، او تغير المواقع والمناصب.

الغدير في التاريخ عيد، لا يقتصر على المدونة التاريخية للحدث، انه يتواصل مستمرا حين يعود المجرى الى مصبه الطبيعي، وهو هنا الخلافة التي عادت لصاحب العيد، بانتخاب او بيعة غير مشروطة بتعيين حكام يكون راي أحدهم هو الأرجح في التعويل عليه.

انتخاب حر ومباشر، بعد اضطراب وفتنة، قادت اليها جملة من الأسباب لعل البارز منها غياب العدالة الاجتماعية وسوء التوزيع للثروات بين المسلمين.

(الحاكم – الخليفة) الجديد، واع للأسباب التي قادت الى الاضطراب، وهو يسعى الى وضع كل شيء في موضعه الصحيح.. انه يبدأ بنفسه، وهو مهيأ لتلك البداية، لانه قد وعى يوم الغدير وما يعنيه من واجب ومسؤولية..

والغدير هو التساوي في (الارواء) حين يمر على الضفاف، فهو يوزع ماءه على الشجر والحجر والانسان، لا تفريق بينها..

في كتابه (نفحات الهداية) وهو مجموعة محاضرات أخلاقية للمرجع الديني السيد صادق الشيرازي، يكتب عن الغدير من خلال شخصية صاحبه الحاكم، الذي تستوطنه صورة الانسان الكامل الذي يطمح اليه القران، انسان لا تبدله تقلبات الظروف والمواقع..

يقول السيد صادق الشيرازي:

(احدى خصال الامام علي عليه السلام خاصة في فترة خلافته، تعاطفه مع الناس، ويتجلى تعاطفه مع افقر الناس من خلال عمله)، وقد قال: (الا وان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه).

فهو لم يضع حجرا على حجر، ولم يسكن قصرا فارها، بل تحمل كل المصاعب والالام لئلا يكون هناك فرد في اقصى دولته يتبيغ بفقره لا يجد حتى وجبة غذاء واحدة تسد رمقه.. وهو القائل (لعل بالحجاز او اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع)..اراد الامام علي عليه السلام بنهجه هذا تحقيق هدفين:

الهدف الأول: ان يبعد عنه أي شبهة كحاكم إسلامي، ويسلب منتقديه أي حجة تدينه.

الهدف الثاني: تذكير الحكام المسلمين بمسؤولياتهم الخطيرة تجاه الآم الناس وفقرهم في ظل حكوماتهم، وضرورة إقامة العدل والتعاطف مع آلامهم وعذاباتهم، والسعي بجد من اجل تامين الرفاهية والعيش الكريم لهم.

من هذا المنطلق فان مجرد احتمال وجود جياع في ابعد نقاط الحكومة الإسلامية يعتبر في ميزان الامام علي عليه السلام مسؤولية ذات تبعات، لذا فهو يؤكد على الحكام ضرورة ان يجعلوا مستوى عيشهم بنفس مستوى عيش أولئك وان يشاركوهم شظف العيش.

وهنا تتجلى عظمة الغدير اكثر فاكثر، وتسطع انوار القيم والتعاليم السامية التي يحملها يوما بعد اخر، تلك القيم التي تؤمن التوازن السليم بين المتطلبات الروحية والعقلية والمادية والمعنوية للبشر، لتحقق السعادة للجميع افرادا وجماعات، حكاما ومحكومين

الغدير وفق صورة الخلافة الحاكمة، او الحاكم الواجب الطاعة من قبل المحكومين، بعد ان توفرت الشروط لجريانه في جسد الامة الإسلامية، هو تحقيق السعادة بعد تامين متطلباتها بين الحاكم والمحكوم.

التغيير في الفضاء السياسي لواقعنا المعاصر يجب ان ينطلق من فكرة الجريان المستمر وليس الركود والبقاء عند حافة وحد الاستذكار التاريخي، نحن بحاجة الى ان نشق مسارب متعددة في نفوسنا وضمائرنا وعقولنا لكي يتسرب اليها ماء الغدير وننهل من عذوبته وصفائه..

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 3/كانون الأول/2013 - 29/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م