أمريكا وإيران.. من الصداع النووي الى الشفاء السلمي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: صحيح أن الاتفاق المرحلي الذي تم التوصل اليه لحل الأزمة النووية بين إيران والغرب، تم بحضور الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي بإضافة المانيا فيما يسمى بـ مجموعة "5+1"، إلا ان ما هو غير بعيد عن الستار والأضواء، التسوية السلمية بين ايران والولايات المتحدة، التي قطعت فتيل القنبلة التي كان البعض يعوّل على تفجيرها في المنطقة.

الرئيس الامريكي ووزير خارجيته كانا واضحين جداً في التعبير عما حققته امريكا من الاتفاق الجديد. وهو انه "يقفل الطريق الأوضح" امام طهران لتصنيع قنبلة نووية.. ودعا الرئيس الامريكي باراك أوباما الكونغرس بعدم التصويت على عقوبات جديدة على ايران، ليكون قد وفّى بإحدى بنود الاتفاق مع ايران.

فيما قال وزير الخارجية جون كري، بعد لحظات من التوقيع على الاتفاق في جنيف للصحافيين: انه "سيجعل العالم اكثر أمناً.." وحدد المقصودين بالأمن وهم اسرائيل، و"وشركاءنا في المنطقة"، ويقصد الدول الصديقة في المنطقة، وتحديداً السعودية.

عشر سنوات من المحادثات بين ايران والغرب، تخللتها تحولات ومعطيات سياسية كبيرة في المنطقة، منها الحرب الأمريكية على العراق، وعملية الإطاحة بنظام صدام عام 2003، وحصول انعطافة جديدة في العلاقات الايرانية – الامريكية، حيث بات معروفاً التنسيق بين الجانبين للتخلص من نظام صدام، وإرساء دعائم البديل السياسي الجديد في العراق. ثم صعود النهج المتطرف على كرسي الحكم في ايران، لايجاد التوازن الذي تحرص عليه ايران دائماً، بين الشعارات التعبوية والحماسية ضد امريكا والغرب، وبين مسارات السياسة الخارجية، وما تطمح اليه في المنطقة والعالم.

وربما لم يكن من الصدفة أن يكون أول مفاوض ايراني، وما يسمى بـ "كبير المفاوضين" في الملف النووي، هو حسن روحاني، الذي كان يشغل عام 2002 منصب مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الايراني الأسبق محمد خاتمي، وفي عهده هو، يتم قطف ثمار تلك المسيرة الطويلة من المحادثات مع الغرب. علماً أن هذه المسيرة تخللتها ورقتين لعبت بها طهران: الاولى: الإصرار على حقها في تخصيب اليورانيوم بنسبة عالية تصل الى (20%) وهي النسبة المعروفة في العالم، بأنها تمكن صاحبها من انتاج القنبلة النووية، أما الورقة الثانية المكملة للغة الحماس والتعبئة، فهي الدعوة الى تدمير اسرائيل ومحوها من الوجود، وهو ما جاء في لسان الرئيس الايراني السابق، محمود أحمدي نجاد.

 كان واضحاً أن الايرانيين، ومنذ تورط امريكا في الحرب المعقدة والشائكة في كل من افغانستان والعراق، يبحثون عن كسب الوقت للمضي قدماً في ابحاثهم النووية وإنشاء المراكز وتطوير المعدات اللازمة للحصول على التكنولوجيا النووية بعيداً عن التدخل الامريكي والغربي المباشر، وكان لها ذلك، عندما اكتشف الغرب أن ايران باتت تنتج أجهزة الطرد المركزي القادرة على تخصيب اليورانيوم، وهي خطوة متقدمة لبلد مثل ايران، وربما فوجئت بعض العواصم في الغرب، ودفعت بالبعض الآخر لإرسال رسائل تحذير شديدة من مغبة تجاوز خطوط حمر في هذه اللعبة، منها ما جاء من اسرائيل. فكان اغتيال عدد من علماء الذرة في طهران، وتسيير لجان تفتيش ومراقبة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمراقبة منشآت باتت معروفة بأنها تعمل على تخصيب اليورانيوم مثل منشآت "اراك" و "نطنز".

ويمكن القول أن أسوء ما تخللته فترة "الصداع النووي"، هو "الصداع الأمني" المزمن في العراق، والذي تحول فيما بعد الى غدة سرطانية خبيثة، تهدد جميع العراقيين بالموت قتلاً على الهوية، أو التمزّق اشلاءً في الشوارع والاسواق.

فالميول الواضحة لبعض المسؤولين العراقيين نحو طهران منذ الاطاحة بنظام صدام، دفع الاميركيون لأن يغضوا الطرف عن تحركات استفزازية بدوافع طائفية مقيتة من السعودية لأن تخوض في دماء العراقيين بحجة تحقيق التوازن السياسي والمزيد من مشاركة المكونات الاجتماعية في الحكم، والمقصود دائماً هو المكون السنّي. وجاءت خطوة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في حزيران 2007، بدعوة كل من سفيري ايران وامريكا في بغداد لتمثيل بلديهما على طاولة عراقية، وإجراء محادثات من المتوقع أن تفضي لحل نقاط الخلاف بين الجانبين فيما يتعلق بالوضع العراقي. إلا ان المراقبين والخبراء آنذاك، لم يجدوا في "حسن كاظمي قمّي" ولا في "رايان كروكر"، ما يخولهما لأن يرفعا نقاط التصادم بين بلدين كبيرين، وبمصالح واسعة ومتشعبة في المنطقة، وخلال ساعات محدودة، وفي بلد وعاصمة، هي تعاني بالأساس من أزمة أمنية وسياسية متفاقمة.

إذن؛ كان تأثر العراق سياسياً واقتصادياً وأمنياً بالعلاقات الامريكية- الايرانية يُعد واقع حال يعترف به الجميع في بغداد، بل أقرته جميع الاطراف السياسية في العراق، المشاركة في الحكم والمعارضة له. فالموالين لايران كسبوا الدعم السياسي والمخابراتي للوقوف فترة أطول أمام التحديات الأمنية والسياسية للخصوم، فيما وجدت ايران في العراق المنفذ الاقتصادي المهم، أو بالاحرى الاحتياطي الاخير للتخفيف من وطأة العقوبات الاقتصادية القاسية المفروضة عليها دولياً. أما المعارضون لحكومة بغداد، فانهم استفادوا من واقع الحال هذا، في كسب المزيد من الدعم السياسي والمالي وحتى الاعلامي من السعودية تحديداً، للحؤول دون تكريس النفوذ الايراني في العراق.

ويمكن القول، أن هؤلاء – المعارضون- سواء كانوا في رداء الساسة المتغلغلين في أروقة الدولة، او كانوا في زي الملثمين وتحت مسميات ارهابية – تكفيرية تنتشر بين الصحاري والبساتين، هم الذين تغذوا على افرازات الصراع الايراني – الامريكي في العراق.

وهذا بالطبع؛ من مقتضيات السياسة، لكن للأسف أن الشعب العراقي لم يكن له شأن بها ولم يقبض منها، سوى الدماء والأشلاء والخسائر الفادحة في الارواح والممتلكات بشكل يومي. وما يقربنا الى اليقين بأن العراقيين كانوا الضحية الاولى، ما جاء على لسان "عباس عراقجي" أحد أفراد الطاقم المفاوض في جنيف، وكان الى جانب "ظريف"، في مفاوضات ايران مع الغرب، بأن هنالك "ثمن قدمته ايران للتوصل لهذا الاتفاق"، دون أن يشير الى طبيعة هذا الثمن، وربما يوحي الى الوضع الاقتصادي للداخل الايراني، في ضوء العقوبات الاقتصادية الدولية، إلا ان من يقرأ الشارع الايراني العام عن قرب، يجد ان التأثيرات ليست بالشكل الذي يصوره الاعلام، في ظل نظام اقتصادي حكومي محكم، وبرامج وخطط معد لها سلفاً لمواجهة هكذا عقوبات، جعلت الشعب الايراني يشعر بالحد الأدنى من العقوبات على حياته العادية. هذا فضلاً عن أن ايران ليست جديدة العهد على العقوبات الاقتصادية، فقد خبرتها منذ تأسيس نظام الجمهورية، عام 1979.

وعليه؛ فان لا امريكا ولا ايران، خاضتا مواجهة مباشرة، رغم التصعيد الخطير الذي تخلل فترة حكم الجناح المتطرف في ايران في دورتين رئاسيتين لنجاد، فالاولى لم تكن على استعداد، لا من الناحية السياسية ولا من الناحية العسكرية – اللوجستية، ولا حتى من الناحية النفسية، خوض مواجهة ولو محدودة مع ايران، من قبيل توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الايرانية، أما الثانية (ايران)، فانها لم تكن بحاجة الى هكذا مواجهة حقيقية، ما خلا بعض التهديدات والتصعيدات الاعلامية والكلامية، التي كان معروفاً منها أنها للاستهلاك المحلي، حيث أجمع المراقبون والمسؤولون في الغرب على استحالة دخول الطرفين في مواجهة مكشوفة، نظراً لعواقبها وتداعياتها الخطيرة على المنطقة المتأزمة والمشحونة بالأساس.

وهناك نقطة أخرى يشير اليها المراقبون، وهي لا تقل أهمية عن وسائل الدفاع الوقائي التي أعدتها ايران أمام امريكا، وهي التحولات في النهج الايراني، داخلياً وخارجياً، فايران عام 1979، تختلف كليةً عن ايران في الألفية الجديدة، فليس هنالك شعارات لتصدير الثورة، ولا المواقف المتشددة في الأصعدة كافة، ربما منها على الصعيد الاجتماعي، وهي مسألة ينظر اليها الغرب بأكثر من عين، فقد باتت شعارات "الثورة الاسلامية"، منفصلة عن حياة الانسان الايراني، بل أن "الثورة"، اليوم لا تعدو كونها ذكرى تاريخية في ذهن المواطن الايراني. إذن؛ لا حاجة الى حرب كالتي شنها صدام على ايران واستمرت ثمان سنوات. لذا اكتفت امريكا بسياسة الاحتواء التي انطلقت منذ عهد الرئيس الامريكي – الديمقراطي- بيل كلنتون، وما تزال من بنود السياسة الامريكية إزاء ايران، متمثلة بالعقوبات الاقتصادية المباشرة من جانب امريكا، من قبيل الاجراءات العقابية للشركات العالمية المتعاونة مع ايران. وايضاً بالعقوبات الدولية التي أحرزتها امريكا من مجلس الأمن الدولي.

من هنا؛ لغة التعامل الامريكي مع ايران، كشعب ونظام حكم، يختلف تماماً عن الطريقة التي تعاملت بها مع العراق، الشعب ونظام الحكم، فاذا كان بعض المراقبين والسياسيين يشيرون الى الخسائر التي تكبدتها امريكا من حربها في العراق، فان البعض الآخر يشير الى المكاسب الكبيرة التي حققتها امريكا من الاطاحة بنظام صدام، ليس أقلها ايجاد توازن جديد للقوى في المنطقة تكون أحد أركانه ايران، وإلغاء وجود العراق من التأثير الاستراتيجي في المنطقة الى الأبد، بعد أن كان كذلك خلال العقود الماضية، على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والعسكرية. فالعراقي اليوم يكابد ويكافح ليس للتطور والتقدم، إنما للعيش والحياة خوفاً من ان يتخطفه الموت من كل ناحية.

لذا يمكن القول أن ما كسبته ايران من الاتفاق الأخير في جنيف، لم يكبد الولايات المتحدة شيئاً، فان حصول ايران على حق معترف به دولياً بتخصيب اليورانيوم بنسبة (5%) لن يلحق الضرر بالسياسة الامريكية في المنطقة، فهي على صداقاتها وعلاقاتها باسرائيل والسعودية، و ربما لا يجهل اصدقاء امريكا أن هذه النسبة لن تكون كافية لانتاج السلاح النووي، لكن الانزعاج السعودي والاسرائيلي المتزامن والمترابط، جاء لخروج ايران من الضغوط الدولية، وتنفسها الصعداء، ولو بشكل جزئي وتدريجي، لأن هذا المتنفس بحد ذاته، يوفر لايران فرصة التقدم التكنولوجي النووي، وهذا تحديداً هو الطموح الايراني، هو ان تسمى ايران بـ "النووية"، او صاحبة التكنولوجيا النووية، وليس فقط تستوردها، مثل بعض دول المنطقة مثل السعودية. وهكذا تكسب الاحترام والتبجيل اقليمياً ودولياً، ولن يفكر أحد بعد اليوم بتغيير النظام او الحديث عن مدة صلاحيته، كما يحصل اليوم لأنظمة الحكم في المنطقة. والى جانب ايران، فان امريكا هي الاخرى كسبت الاحترام والتبجيل في المنطقة والعالم، بالاتفاق الذي رعته وساندته في جنيف، أما المنزعجين من هذا الاتفاق، فانهم يثبتون غبائهم المفرط في التمسك بالانماط القديمة للتعامل مع الوقائع والحقائق على الأرض، لذا نجد السعودية هي الوحيدة بين دول الخليج، وحتى الدول العربية وغير العربية في المنطقة التي أظهرت تبرمها وانزعاجها، لأنها لم تشهد صراعاً وحرباً كالتي شهدتها وأطربت عليها خلال الثمانينات من القرن الماضي، حيث يجلس أمراء النفط خلف مكاتبهم ويضخون الاموال والاسلحة الى سوح المعارك ليشهدوا سقوط الآلاف من القتلى، والامر نفسه تكرر الى حدٍ ما في داخل العراق. وهذا يقودنا للقول بشكل عفوي: أن السعوديين الذين شهدوا مكرهين بداية الشفاء للصداع النووي الايراني، لن يكرروا التجربة مهما كانت النتائج، في شفاء العراقيين من "الصداع الأمني"، أو بعبارة أكثر دقّة من "النزيف الأمني" الرهيب.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 1/كانون الأول/2013 - 27/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م