تكافؤ الفرص... الحلقة المفقودة

 

شبكة النبأ: الشعوب والأمم المتقدمة، تحقق التقدم والتطور ثم الرفاهية، ليس من خلال اجراءات ترقيعية مؤقتة، من قبيل تشييد الأبنية الجميلة، وتوزيع المنح المالية والعينية مثل قطع الأراضي والسيارات، وحتى الامتيازات والمناصب، إنما بخطوات شمولية تتعلق بحياة الانسان الفرد والمجتمع، حيث تتداخل عوامل عديدة ذات صلة بالتغيير والإصلاح، مثل الاقتصاد والسياسة والاجتماع.

نعم؛ ربما يقال: ان بلادنا – والعراق مثالاً- يزدحم بحملة الشهادات الاكاديمية في شتى الاختصاصات والمجالات، فهم بامكانهم الإسهام في مشروع الإصلاح والتغيير على طريق تحقيق التقدم للبلاد، وهو أمر صحيح من حيث المبدأ والنظرية، لكن ماذا عن آلية التطبيق، فلو كان الأمر هكذا، لما كنا نعيش كل هذا التخلف والحرمان والهزيمة النفسية والتبعية للآخرين.

من الخطوات المهمة والعملية التي نراها غائبة ومؤثرة حالياً وفي آن، هي افتقادنا لتكافؤ الفرص.. فعندنا المال متمثلاً في الثروة النفطية الهائلة، وعندنا الجامعات ومراكز البحث العلمي، وحتى الطرق السالكة للزمالات خارج البلاد. لكن السؤال؛ في مدى استيعاب الامكانات لشريحة المتعلمين والطامحين في المجتمع..؟ وهل الجميع يستفيد بشكل متساوٍ من المال والعلم في بلاده؟

لنأت بمثال بسيط من صميم الواقع، يكشف مفارقة عجيبة حقاً في أرض عُرفت دائماً بثروة العلم والمال.. ففي المرحلة الإعدادية، حيث يتطلع الطالب الى الجامعة بعلامات عالية تؤهله لارتقاء سلم  العلوم الرفيعة مثل الطب والهندسة وغيرها. نجد أن الرسالة الصريحة من الكادر التدريسي – الحكومي ، هي الاعتماد على التدريس الخصوصي اذا ما اراد الطالب فهم المادة الدراسية الصعبة والمعقدة، مثل الرياضايات والفيزياء والكيمياء، ومن ثم حصوله على العلامات العالية، أما المدرس فليس لديه الوقت والمزاج الكافي لإيصال مادة الدرس على جموع الطلاب، حتى وإن كانت الدولة سخية في الرواتب والامتيازات والاجازات.

طبعاً؛ هذه الظاهرة ليست مقتصرة على العراق، إنما سبقتنا بلاد عديدة تفتقد المنهج التدريسي الصحيح الذي يشمل برعايته جميع شرائح الطلاب المنحدرين من مستويات اقتصادية مختلفة، لذا نجد الطالب ذو الوزن الثقيل ترجح كفته، ويكون مقبولاً ومحظوظاً، ثم يكون مطمئناً على مستقبله، بينما يبقى الطالب الآخر في الحالة المعاكسة مسكوناً بالقلق والاضطراب، فهو يعاني الإهمال والقصور في التدريس – في مظم الاحيان- ، كما يعاني الغموض في رؤيته لآفاق المستقبل.

بالمحصلة؛ كيف يتسنّى لنا اكتشاف الطاقات والمواهب بين الطلاب، إذا كان معيار الدخول الى كليات حيوية مثل الطب والهندسة، وما يتفرع منهما من اختصاصات عديدة، هو الطبقية المقيتة؟

لو عدنا قليلاً على الوراء في مسيرة التعليم بالعراق، لوجدنا مفارقة أخرى، وهي أن المجتمع العراقي كان بعد لم يشهد الحالة الطبقية الموجودة حالياً، وكانت تغلب عليه الطبقة الوسطى، وحتى الفقيرة، غير  مرئية ومندمجة مع الشرائح الاخرى. وكان مستوى التعليم بدرجات عالية جداً، حتى كان  العراق مضرب الامثال في المنهج التعليمي من الصفوف الابتدائية وحتى الاعدادية ثم الجامعة، وقد تخرج الأفذاذ من علماء الذرة والطب والهندسة، وحتى العلوم الاخرى مثل اللغة والتاريخ، ثم لو راجعنا الخلفية الاجتماعية لمعظم أولئك الطلبة المتفوقين، لوجدنا أن الأبوين لم يكونا من العلماء ولا الأثرياء ولا ممن يوظفون مدرسين خصوصيين لأولادهم في البيوت، إنما من الكسبة والمهنيين العاديين.

في الوقت الحاضر، وفي خضم الازمات السياسية والاقتصادية التي يعيشها المجتمع العراقي، يطالب البعض بالتوزيع العادل للثروة، ثم تحول المطلب الى وسيلة رخيصة – للأسف- بيد بعض الساسة وطلاب السلطة والحكم، لأن يرفعوه شعاراً بحجة المطالبة بحقوق الناس، فتارةً نسمع بتوزيع عائدات النفط على المواطنين، أو توزيع البدل النقدي عن البطاقة التموينية، وغير ذلك، وإن كان المطلب من الحقوق الاساسية للشعب، والثروات الموجودة والهائلة في العراق، هي ملكاً حقيقياً للشعب العراقي. لكن الحقيقية الاخرى التي يجب الالتفات اليها؛ ان هذا الاسلوب في التوزيع ونثر الاموال، لن يلغي الطبقية، ولن يوفر فرص العيش الكريم للجميع، لأن ببساطة المال، مهما كان، ينفذ ويستهلك، لاسيما اذا كانت ثمة حيتان كبيرة في محيط الدولة تعبث بالاسعار وحتى تؤثر في مستوى اقتصاد الدولة. بينما اذا كانت هذه الثروة الطائلة في خدمة العلم والمعرفة، ثم منح الفرص المتكافئة للجميع لينهلوا من العلوم المختلفة، كلٌ حسب استيعابه ومواهبه وقدراته الذهنية، فان الوضع سيختلف تماماً.

ولمن يريد إحصاء الفوائد العظيمة التي تعود الى البلد من تحقيق هذا الطموح الكبير، ليس عليه إلا ان يلاحظ فقط عمق التدنّي في المستوى الاقتصادي والعلمي ثم السياسي في العراق، ليكتشف الحاجة الماسّة الى تلك الخطوة الشجاعة والكبيرة. هكذا تقدمت بلاد من العالم الثالث الفاقدة للثروات النفطية والزراعية، كالذي نمتلكه في العراق. مثل كوريا الجنوبية والهند والبرازيل وغيرها، فضلاً عن دول مثل اليابان والمالنيا، شهدت حروباً طاحنة ومدمرة، لكنهم اهتموا بالبنية التحتية من خلال اكشتاف القدرات وصقل المواهب والبحث عن العقول، وليس عن الاشخاص والذوات. ومن أجل هذا نجد أن الحكومات، أو لنسميها "السلطة التنفيذية" كما يحلو للبعض هنا تسميتها، في تلك البلاد تعمل على خدمة شريحة العلماء والباحثين والخبراء، وايضاً اصحاب المصانع والمنتجين المبدعين، كونهم يشكلون العصب الاقتصادي للبلد. فهؤلاء يبدعون وينتجون الأفضل ويجهزوه للتصدير، بينما تكون مهمة الحكومة المراقبة والمتابعة ثم التفاوض مع دول العالم لتصدير السلع والبضائع المختلفة، بل وحتى الخبرات والتجارب التي تكون بأثمان عالية. 

فهل يصل المعنيون في العراق يوماً الى هذا المستوى من الشعور بالمسؤولية التاريخية والاخلاقية والحضارية؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 27/تشرين الثاني/2013 - 23/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م