نبض الأرض

إهداء لكل مُغترب

رائد البغلي

 

علاقة الفرد بأرضه لا يمكن أن تُحدَّد في شكلٍ دبلوماسيٍّ مٌطلق، ولا أن تؤَطّر في أُطُرٍ رسمية تأخذ شكل أوراق وبطاقاتٍ ثبوتية. بل إن هذه العلاقة تحكمها معايير إنسانية وسيكولوجية بحتة. فالكثير من الناس يحملون جنسياتٍ لدولٍ دَلَفوا إليها، وعاشوا فيها ردحاً من الزمن، لكنهم لا يشعرون بالإنتماء إليها -وإن ادَّعَوا عكس ذلك-، بل قد لا يُتقنون لهجتها، ولا يُجيدون إرتداء زيّها، رغم أن اللهجة والزيّ يندرجان ضمن الثقافة الوطنية. ربما قدِموا لتلك الاوطان وسَعَوا للحصول على جنسياتها لغاياتٍ يرومونها، وأهدافٍ يضمرونها. لكن يبقى إنتمائهم الحقيقي لوطنهم الأم.

العلاقة بالأرض ليست مُجرَّد جنسية تُمنَح، فمن يتنازل عن جنسيته الأصلية للحصول على جنسيةٍ أخرى، قد يتنازل عن الأخيرة لقاء حصوله على جنسية أخرى إن تسنَّى له ذلك، لكن مَن يأسُرُ في قفصه الصدري عشق وطن، فلن يستعيض عنه بعشقٍ آخر، حتى وإن نال جنسيّة أخرى.

في الضفة الأخرى، نجد أن هنالك أناس سقطت رؤوسهم، ونشأوا وترعرعوا على أرضٍ ليست بأرضهم، ولا يحملون جنسيتها، لكنهم تطبّعوا بطباعها، وأصبحوا يتحدّثون بلهجتها، ويرتدون زيّها، ويحبون أكلها، ويستنكفون عن مغادرتها، ويكنّون لها الولاء، ويشعرون نحوها بالإنتماء، ولا يرضون حتى بأوطانهم الحقيقية بديلةً عنها. فهي في اعتبارهم الوطن الفعلي، الذي عاشوا فيه، وحفظوا تفاصيله، وسكن فيهم قبل أن يسكنوا فيه. حيث لا أكسجين يستنشقونه إلا في هذه الأرض، ولا شمس تُشرق إلا عليها، ولا قمر يطلّ إلا فوقها، ولا طير يْحلِّق إلا في سمائها. أمَّا وطنهم الأم، فهو مجرَّد حواديت وأساطير سمعوا عنها ولم يرونها، فوطنهم الفعلي هو الواقع الذي عاشوه وتلمَّسوه.

علاقتنا بالأرض لا تختلف عن علاقة الأشجار بها، فجذورنا ممتدَّة في أعماقها، وفروعنا متفرّعة إلى عنان السماء.

علاقتنا بالأرض أيضاً لا تختلف عن علاقة الموج بالشَطآن، فنحن نعيش معها ما بين مَدٍّ وجَزرٍ، وحلٍّ وترحال. فقلوبنا تمخر عباب البحر، ثم تعود إلى المرسى مُجدَّداً.

الوطن يا رفاق لا يختلف عن الجسد. فالوطن يتكوَّن من أرجاء، والجسد يتكوَّن من أعضاء. فلا يُصبح الوطن وطناً إلا بأرجائه، ولا يُصبح الجسد جسداً إلا بأعضائه.

حتى وإن رَمَت بنا أمواج الحياة إلى سواحل بعيدة لطلب علم أو رزق أو ثمّة أشياءٍ أخرى، سنكتشف رغم بُعد المسافة أننا على بُعد خطوات من أوطاننا، بل على بُعد نبضات.

في كل مرّة نزور فيها أوطاننا ننتشي فرحاً، ونستنشق هواءً مختلفاً مُعطَّراً بعبقها، ونصول ونجول في شوارعها متأملين أدَقّ تفاصيلها، وكأننا نرى تلك الشوارع لأول مرّة في حياتنا، وهي الشوارع التي حملت ذكريات كل سنة، بل كل شهر، بل كل أسبوع، بل كل يوم وساعة ودقيقة من أعمارنا. وما أن نغادرها مُجدَّداً ونعود أدراجنا، إلا ونتذكّر أننا نسينا بها شيئاً كبيراً لا يُنسى البتَّة، لكن في خضَمّ السلام والتوديع وحَزم الأمتعة استعداداً للسفر نسيناه عنوة. نحاول التذكّر، لكن الذاكرة لا تسعفنا للوصول لهذا الشيء، وبعد تفكيرٍ مَليّ، وتنقيبٍ عَصيّ، نكتشفُ أن ما نسيناه في أوطاننا هو قلوبنا، ونستغرب، كيف لنا أن نكون على قيد الحياة في الغربة، وقلوبنا الخافقة في أوطاننا؟!

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 27/تشرين الثاني/2013 - 23/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م