الحكومات ستضطر خلال العقود القادمة إلى تأدية مهمات وأعمال بالغة
التعقيد والصعوبة، وتلك التعقيدات ستنبع من اتجاهين رئيسيين، أولهما :
نتيجة حتمية لظهور مهمات جديدة وغير متوقعة ومعتادة في طريق تقدمها
وتنميتها، وثانيا : نظرا لزيادة تعقيد المهمات التقليدية القديمة التي
كانت تقوم بها من قبل، وذلك بسبب عدم صلاحية الأدوات المستخدمة من
قبلها، أو نتيجة لعدم تطويرها لتلك الأدوات القديمة المتهالكة في
مواجهة طوفان المتغيرات والتحولات كثيفة التعقيد والمتسارعة بشكل كبير
في البيئة المحيطة بها، وهو أمر يجب أن يدفع الحكومات الواعية
والمستنيرة منها إلى ضرورة إعادة تحديد مهامها وتوجهاتها وأولوياتها
وأدواتها المستقبلية.
حيث لم تعد تقتصر مسؤوليات ومهام ووظائف المؤسسات العامة للدولة أو
الحكومة على البقاء مقيدة بعربة الضرائب، أو تقديم خدمات عامة تقليدية
محددة الأنماط لمواطنيها أو المستفيدين من خدماتها كما هو معمول به في
اغلب الحكومات المركزية البيروقراطية، أو إدارة البرامج الخاصة بضمان
الحاضر الراهن لاستمرار بقاء الدولة وحياة مواطنيها والمقيمين عليها،
بقدر ما باتت مطالبة بالاستثمار في المستقبل من اجل المستقبل، ووضع خطط
إستراتيجية مستقبلية تقوم مقام الضمانات الوطنية لمستقبل مواطنيها
بمختلف شرائحهم وأجيالهم القائمة وتلك القادمة من جهة، وأخرى للاستقرار
والأمن بمختلف المستويات والجوانب الحياتية والوطنية من جهة أخرى.
والأمر المهم في كل ذلك هو ضرورة إشراك المواطنين في وضع تلك الخطط
والاستراتيجيات المستقبلية والمرئيات الوطنية بمختلف شرائحهم وفئاتهم،
وتحويل دور الحكومة من دور المجدف إلى الموجه، ومن العامل القائم على
تقديم الخدمات إلى المشرف والناظر الذي يقوم بالمتابعة والإشراف على
سير عمليات التقدم والتنمية وتوزيع المهام والسلطات، ومراقبة التوجهات
العامة للدولة ودقة الخدمات التي يقدمها القطاع الخاص للمواطنين بعد أن
تم تحويل اغلب الخدمات الحكومية إليه كما يفترض.
كما بدأت ترشح بشكل واضح مشكلة أخرى زادت من اتساع خارطة التعقيدات
في تلك المهام والأعمال الموكلة لها، - واقصد – ازدياد شعور موظفيها
والعاملين بمؤسساتها بالتعقيد نفسه الذي تشعر به، واستفحال الإحساس
بالقلق من قيود تلك القواعد والتعليمات والتنظيمات التي باتت تتحكم بهم
وكأنهم مبرمجين عليها، وبدا اغلبهم يشعر بأنهم مخدرون بمهمات روتينية
مملة، ومكلفون بمهمات يعرفون أنهم يستطيعون انجازها بنصف الوقت لو سمح
لهم باستخدام عقولهم وقدراتهم.
لذا فان اغلبهم يعيش في تلك المؤسسات العامة حياة من اليأس الهادئ
الخامل، ونحن ندرك بأنه حين يغيب إسهام الموظف في هذا الإطار، ويصل إلى
هذه المرحلة من الثقافة السلبية تجاه مؤسسته العامة التي يعمل بها فان
ثمة خطأ ما ولا شك في البنية والمؤسسة والهيكل الإداري الذي يوجهه أو
يعمل لديه، كما يشير إلى ذلك الرئيس الخامس للجمهورية الإيرانية السيد
محمد خاتمي بقوله : (إن الحكومة التي تعجز عن تحقيق التنمية في داخلها
لن تنجح أبدا في تحقيق التنمية في البلاد – أي – أنها ستخفق في تامين
المشاركة العامة وبناء الأرضية التي تكفل توفير فرص حياة متكافئة
لأبناء الشعب).
والحقيقة أن المتتبع لأصل المشكلة يجد أنها تكمن في مسالة عدم قدرة
بعض تلك الحكومات على مواكبة التسارع في التغيير والعصرنة نتيجة لعدم
امتلاك الأدوات الفاعلة أو الأوراق الرابحة لذلك كما سبق واشرنا، أو
ربما لعدم رغبة تلك الحكومات في التغيير أو خلع جلباب الكلاسيكية
القديمة في إدارة شؤون الحكم ومؤسسات الدولة العامة نتيجة وجود نافذين
ومتحكمين من طراز العقول الإدارية والسياسية القديمة التي تسيطر على
مفاصل الدولة وخصوصا القرارات الإستراتيجية، والتي يخشى اغلبهم الى أن
يؤدي التغيير والتطور أو التحديث في الأفكار والمرئيات والمؤسسات إلى
التخلي عنهم وعن خدماتهم، وبالتالي ضياع مصالحهم ومكانتهم الرسمية
والاجتماعية، أو لعدم اقتناع الجهات القائمة على رسم سياسات وخطط
الدولة الإستراتيجية بماهية وشكل ومضمون التغير المطلوب خلال العقود
القادمة.
أما بالنسبة للمهام الجديدة بالغة التعقيد فان التأكيد على انه
وبالإضافة إلى ما سبق ذكره يمكن إضافة ارتفاع حجم البشرية ومنسوب وعي
المجتمعات الإنسانية وثقافتها بسبب الزيادة المتسارعة في نسبة التعليم
وسهولة التواصل مع الأحداث والأفكار القادمة من الخارج، وغيرها العديد
من الأسباب والدوافع التي يمكن أن ينسب إليها بروز وولادة مهام جديدة
بالغة التعقيد أمام اغلب الحكومات المركزية والبيروقراطية في مختلف
أرجاء العالم في مختلف القطاعات والأنشطة والجوانب الوطنية الداخلية
والخارجية وعلى جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وما
إلى ذلك.
وبينما كان يفترض أن يعي القائمين على وضع التوجهات والسياسات
العليا إلى أن أفضل الطرق للعمل في عصر المعرفة وتسارع المعلومات
لاحتواء تفاقم وزيادة حجم التعقيد في المهام الحكومية هو التخلي عن
البيروقراطية وروتين المكاتب أو زيادة قوة المركزية الحكومية في اتخاذ
القرارات لحساب الانفتاح وتفكيك نظرية سلسة الهرم والقاع وخفض حمولة
القرارات باقتسامها مع المجتمع وذلك بالسماح لمزيد من القرارات بان
تتخذ في المستوى الأدنى أو الأسفل بدلا من تركيزها على المركز الواقع
أصلا تحت الضغط والآخذ عمله في الاختلال.
وجدنا أن تلك المؤسسات باتت تراوح مكانها دون حراك حقيقي يواكب
حركة التغيير الحاصل في البيئة الخارجية الدولية والإقليمية وحتى تلك
الداخلية المتعلقة بالمجتمع، بل و- للأسف الشديد - اندفع بعضها لمواجهة
أو احتواء ذلك الأمر (بالضغط في اتجاه اتخاذ مزيد من القرارات على نحو
متسرع مما انصب بقسوة على تعقيد متزايد في المهمات – المعقدة أصلا -،
نتيجة جهل البيئة التي يجب اتخاذ القرارات بشأنها، كما أكد ذلك إلفين
توفلر في كتاب ديمقراطية التوقع السابق، والنتيجة هي حمولة زائدة
وساحقة من القرارات – وباختصار – صدمة سياسية غير محسوبة العواقب في
المستقبل).
ما نتج عنه إضعاف اغلب المؤسسات العامة التي تقوم عليها الدولة
ويعتمد عليها المجتمع في تقديم الخدمات وعلى رأسها المؤسسات ذات الطابع
السياسي والتخطيطي بغض النظر عما تقدمه تلك المؤسسات من خدمات مباشرة
أو غير مباشرة، فالتعقيدات الجديدة التي ظهرت على المهمات القديمة
وتقديم الخدمات في تلك المؤسسات برزت كأمر حتمي لتطور البيئة المحيطة
بالمجتمع ومؤسسات الدولة، بداية من التسارع في المعارف والمعلومات
ومرورا بانعكاسات ونتائج التطور الهائل والغير مسبوق في تكنولوجيا
الاتصالات والبرمجيات وليس انتهاء بزيادة تضاعف حركة المرور على شبكات
الانترنت.
فكما هو معروف أن هناك علاقة وطيدة بين حضارة المجتمع بكل جوانبها
الإنسانية والمادية والمؤسسات العامة في أي دولة، فتقدم المجتمع أمر
حتمي يفرض ضرورة تطور وتحديث مؤسسات الدولة وارتفاع منسوب ثقافة واطلاع
ووعي القيادات الموجهة لسياساتها العامة،- وأي–اختلال أو ترهل في تلك
المؤسسات أو ضعف في تلك القيادات سيؤدي إلى زيادة تعقيد مهمات تلك
المؤسسات والخدمات التي تقدمها للمجتمع كلما تقدمت خطوة إلى الأمام في
طريق المستقبل، وهو ما سينعكس سلبا على منسوب الثقة المتبادلة وسيرفع
من سقف الاحتقان والامتعاض تجاه تلك الخدمات وتلك القيادات الموجهة
للسياسات العامة للدولة وخصوصا الخدمية منها أو تلك المرتبطة بمعيشة
المواطنين ومستقبلهم خصوصا.
هكذا يتضح لنا من خلال استشراف مستقبل الحكومات خلال العقود
القليلة القادمة، انه مقبل على مزيد من اتساع دائرة التعقيد في المهمات
والأعمال الموكلة لها، وبطريقة تحتم عليها ضرورة التريث في وضع الخطط
والمرئيات الإستراتيجية المستقبلية الخاصة باحتواء ومواجهة ذلك التطور
الحتمي المتسارع في صيرورة المجتمعات والدول في عصر المعرفة والمعلومات
من جهة، وضرورة التفكير بشكل جدي وريادي للانتقال من عصر المركزية
والبيروقراطية المكتبية في اتخاذ القرارات والتنظيمات إلى تبني خيار
الحكومات الريادية بشتى توجهاتها والتشاركية الاجتماعية والشعبية في
رسم سياسات وتوجهات الدولة المستقبلية من جهة أخرى.
* باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
azzammohd@hotmail.com
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mohamdalfitisi.htm |