المثقف البدائي

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: بعد النظر، وسعة الآفاق، والرؤية الثاقبة، والادراك العميق، صفات يتميز بها المثقف المدني، وضيق الآفاق وانحسار الرؤية الثقافية المتوازنة، والتعامل وفقا لما تمليه الغرائز، هي الصفات التي نجدها لدى المثقف البدائي، وبهذا المعنى يقترب الاخير من الانسان البدائي كثيرا، ذلك الانسان الذي كان يحتكم الى غريزته في كل شيء، ويجعلها معيارا للصحيح والخاطئ، بل تصبح غرائزه دليله للقبول او الرفض بكل الأشياء ولكل المواقف.

المثقف البدائي لا يعود وجوده الى العصور القديمة، عصور ما قبل التاريخ، أو العصر الحجري، انه يعيش معنا الآن!، إننا يمكن أن نجد مثل هؤلاء البدائيين في افكارهم وافعالهم بيننا، مع أنهم يعلنون على الملأ بأنهم مثقفون، ينتمون الى  الساحة الثقافية والفعل الثقافي، لكننا عندما نتابع أو نحاول أن نكتشف استحقاق الانتماء الثقافي لهؤلاء، سنجد أنهم لا يستحقون هذا الانتماء بطبيعة الحال، لسبب بسيط أنهم يتعاملون مع الثقافة وفق رؤية بدائية، ترفض جميع الاشتراطات التي تفرضها الثقافة الانسانية السليمة، فمثلا يرفض هذا النوع من المثقفين الحوار جملة وتفصيلا، ويعدّه فاقدا للجدوى، أو يحيله الى الضعف في الارادة والشخصية وما شابه، فالمثقف البدائي يتسم بالتطرف و الحدّية دائما، فضلا عن الجهل، وعدم القدرة على بلوغ الاعماق، كونه يرى السطوح الخارجية فحسب، لذلك غالبا ما تكون مداركه سطحية ومتعجّلة، وشخصيته سريعة الانفعال.

على العكس تماما من المثقف المدني الذي يحتكم في أفكاره وأفعاله وقراراته، الى منظومة ثقافية راسخة و واضحة المضامين، وهو غالبا ما يتسم بسعة الرؤية وعمقها، ويتحلى بالقدرة الدائمة على التحاور مع الجميع، والانفتاح على الثقافات الاخرى، بكلمة أوضح، المثقف المتمدن لا يرى ضيرا في التداخل مع المثقفين الآخرين، من اصحاب الافكار والاتجاهات المختلفة، إنه دائما يجد في الاختلاف نوعا من إغناء الذات والتجربة، فيما يشعر المثقف البدائي، أن الاختلاف الثقافي او الفكري هو نوع من الخلاف المستعصي، لذا يتعامل معه من وجهة نظر معادية تماما، فأما أن تلتقي معي وتخضع لافكاري، أو أنك تقف في الصف المعادي لي، هكذا يؤمن المثقف البدائي، وفي ضوء هذه الرؤية الضيقة، يقود العلاقات المتبادلة مع الاخرين، اذ لا سبيل لديه بقبول الرأي الاخر والفكر المختلف.

السبب كما هو متوقع، أو كما هو معروف، الخضوع التام لحدس الغريزة، الذي يحتكم اليه هذا النوع من المثقفين لاكتشاف الآخرين، ولعل الخطورة التي يمكن أن تنعكس عن مثل هؤلاء المثقفين، انهم يسهمون في تشويه الثقافة، وقد تنعكس رؤيتهم المتطرفة على السلوك المجتمعي، خاصة اذا لم تتوافر إمكانية دحض مثل هذه التوجهات، ولابد أن نعترف أن حاضنة التطرف موجودة في مجتمعاتنا، بسبب ضعف الوعي وهبوط المستويات الثقافية لدى كثيرين، لأسباب متعددة، منها حرمانهم من فرص التعليم، والتثقيف، ومعاناتهم من الجهل والفقر والمرض، هذا الثالوث الذي ألحق أضرارا فادحة في مجتمعاتنا، وأعني العربية والاسلامية على نحو العموم.

لذا نحن بحاجة الى النقد دائما، ونعني هنا نقد الثقافة والمثقف، من أجل تجنب انتشار (المثقف البدائي) بيننا، حتى نتجنب ثقافة التطرف والانحسار، ورفض الاختلاف واحترام الرأي الآخر، والنقد هنا لا نعني به الحطّ من الافكار الأُخَر، بل تجنب المتطرف منها، كوننا نحتاج أن نبني مجتمعا شفافا، يحتضن الجميع وفق معايير متساوية، تنصف الجميع، وتساعد على نشر ثقافة متوازنة، وتنتج أفرادا مثقفين وجماعات واعية، تؤمن بحق الانسان بتبادل الافكار والاراء، وتقبل الانفتاح على الجميع، ولها الحق أن تتجنب الرأي والفكر الدخيل الوافد، اذا كان  يتسبب بأضرار معنوية للفرد والمجتمع في وقت واحد، لذا نحن نحتاج المثقف المتمدن واسع الرؤية والادراك، فهو في جميع الاحوال مستعد للبناء والابداع والتطور، أما المثقف البدائي، فإنه يقف ضد الحياة بل هو لا ينتمي إليها أصلا!.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 19/تشرين الثاني/2013 - 15/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م