استلاب

اعداد: حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: حتى في طبيعة النظرة الى الاخرين تجد الاستلاب، والكلمة في معناها اللغوي تعني الاختلاس، ومن ذلك اختلاس النظر، ونظرة مختلسة..

العيش في حياة مستلبة، تعني انك تعيش خاضعا، مستعبدا، وهو يؤدي بك الى اقصى درجات الاقصاء والتهميش.. الأسباب اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، سياسية، وهي خارجة عن إرادة التحكم من قبل صاحب الحياة المستلبة...

في عمليات المثاقفة بين الحضارات تجد استعمالا لهذه الكلمة أيضا.. فالنقد الموجه للحضارة الغربية ينطلق أيضا من حالة التبعية والتقليد لهذه الحضارة، وهو استلاب ثقافي يقف ضده بقوة كثير من المنظرين، هل نجحوا في وقف الاستلاب؟

 الاستلاب في الفلسفة (انتزاع من الذات لإرادتها وحقوقها). وهو (نفي لها بان تكون مناقضة لطابعها الأصيل والسوي، وهو ما يملي عليها تفاعلا مع واقعها لا ينسجم وماهيتها الحقيقة).

وهو (انعدام القدرة أو السلطة، أي الشعور بالعجز).. وهو أيضا ( العزلة)، ويستعمل اكثر لوصف وظيفة وحال المثقف أو المفكر الذي يفقد الاندماج النفسي و الفكري مع المعايير الاجتماعية وذلك ليس بسبب ضآلة الدفء العاطفي لدى المثقف إزاءها وإزاء مجتمعه ولكن لأنه لا يرى في كثير من غايات و أهداف مجتمعه قيمة يثمنها.

والاستلاب هو (الاغتراب عن الذات)،بمعنى انفصال الفرد عن ظرف إنساني مثالي كما يحدث بالنسبة للفرد الذي يكتشف اندفاعه في الاستهلاك المظهري غير المعلن والمروج ضمن تيار التبذير بغرض إرضاء الآخرين.

في الجهد الفلسفي للماركسية، اضافت الاستلاب السياسي لانواعه المتعددة، وسمته (استلاب الدولة).. والذي رأى فيه هيغل انه لا يمكن رفع هذا الاستلاب الا بعد (تحول الفرد إلى مواطن).. تضيف الماركسية شكلا اكثر عمقا للاستلاب والذي يراه ماركس يقف خلف مختلف هذه التلوينات من الاستلاب هو (استلاب العمل).

فالعامل يصبح أفقر كلما أنتج ثروة أعظم والحط من قدر العالم الإنساني يسير جنبا إلى جنب مع استغلال العالم الموضوعي والأفدح أن العمل يمثل نشاط الإنسان الوجودي الخلاق الذي ينمي من خلاله ماهيته الكلية ويحقق به إمكانات جنسه. هكذا يذهب ابراهيم تيروز في بحثه (الاستلاب: مفهوما فلسفيا، و واقعا معيشا)..

لا يقف الاستلاب عند حدود العمل الذي نظّرت لها الفلسفة الماركسية، انه من وجهة نظر نفسية عربية يتعالق مع الحب، عبر كتاب للباحث المغربي (محمد شاويش) حمل عنوان (حول الحب والاستلاب دراسات في التحليل النفسي للشخصية المستلبة).

الكاتب ينطلق من رؤية تقول إن هناك ترابطاً بين معايير الجمال الجسدية والطبقات الاجتماعية, فالسمات الجمالية برأيه هي (السمات المميزة للطبقة الأعلى), والسمات القبيحة هي(السمات المميزة للطبقة الأدنى), وسيادة هذه القيم التراتبية تجعل الفرد في المجتمع الطبقي يفقد ذاته الفردية والاجتماعية الحقيقية محاولاً امتلاك ذات أخرى نقيضة تتوافق مع هذه القيم السائدة. وهذه الحالة سماها الاستلاب.

والاستلاب يتمظهر في صور متعددة حصرها محمد شاويش في أربعة أصناف هي: استلاب تغلبي, استلاب أخلاقي, استلاب طبقي, واستلاب عنصري. فالاستلاب عنده حالة من القناعة الذاتية بالدونية, وهي تأخذ شكل:

ـ الدونية التغلبية فيشعر الفرد بصفرية القوة في التغالب الاجتماعي وحتمية الهزيمة.

ـ دونية أخلاقية فيلازمه الشعور الدائم بالإثم واحتقار النفس.

ـ دونية طبقية تجعله يشعر بأنه ينتمي إلى طبقة أدنى تلتصق بها كل صفات القبح والاحتقار.

ـ ودونية عنصرية تُشعر الفرد بأنه ينتمي إلى عنصر بيولوجي أدنى لا يتمتع بصفات العنصر البيولوجي الأعلى.

لا يتوقف الاستلاب عند العمل او الحب، انه يتمدد ويوسع مساحاته لتشمل التقانة أيضا، في عصر يعيش الانسان فيه اقصى مديات الاستلاب..

(الانترنت والاستلاب التقاني) للدكتور عبد العالي معزوز. يبحث الكاتب في كتابه مفهومي "التقنية" و"الانترنت" عبر ثلاث مقاربات فلسفية: الفيلسوف هيدجر والفيلسوف هابرماس والفيلسوف جاك إيلول. ويستنتج في نهاية بحته اغتراب الإنسان عن ماهيته الإنسانية نتيجة تبعيته للتقنية التي اخترعها وعلى رأسها الانترنت.

إن التقنية من منظور الفيلسوف الألماني هيدجر هي تحريض للطبيعة لكي تخرج طاقتها وتخزينها وإعادة توزيعها، وحتى الانسان مطالب تسليم ما بداخله من قوة. فهيدجر يعتبر أن الإنسان بالنسبة للتقنية ليس سوى موردا من الموارد تترجم في علوم التسيير إلى موارد بشرية.

أما هابرماس فيعتبر التقنية أوسع من أن تحصر في أدوات وأجهزة. و يلتقي مع هيدجر في عدم اعتبار التقنية محايدة حيث ينظر إليها من الناحية الإيديولوجية والاجتماعية. إنها (المنطق العام الذي يهيمن على الاقتصاد والإدارة والسياسة والسلطة والذي تعتبر سمته المهيمنة النظر إلى كل شيء، لا على أساس أن له قيمته في ذاته بل على أساس أنه موجه نحو غاية: الانتاج و مزيد من الانتاج في الاقتصاد و الرقابة والضبط في المجتمع و مأسسة الهيمنة في السياسة).

بالنسبة لهابرماس، تعتبر التقنية هي هيمنة العقل الاستراتيجي والمنطق التقني الذي يعتبر العقل المنظم للمجتمعات الحديثة. و الهدف هو تحقيق النفع والمردودية والربح وإرساء الضبط و الرقابة الاجتماعية وترسيخ الهيمنة السياسية.

ويذهب هابرماس الى اعتبار العلم والتقنية إيديولوجيا جديدة في المجتمعات الرأسمالية، حيث ساعد ( هذا الجهاز التقني والعلمي الدولة المعاصرة على إفراغ السياسي من السياسة، وتحويل الديموقراطية إلى تقنوقراطية.. واستحالت الثقافة في المجتمعات الرأسمالية إلى صناعة للأوهام، واختزلت في مجرد تنظيم لأوقات الفراغ، وتحولت إلى تسلية وترفيه، والحال أن الثقافة سمو وترقي وتربية ذوق).

منظور هابرماس للتقنية يمكن الإشارة اليه عبر أهم مظاهر التحكم الإيديولوجي للعلم والتقنية، وهي:

1. تقنية المراقبة والاتصال، جعلت المجتمعات مجتمعات تلصص و تجسس على موطنيها عبر كاميرات المراقبة في كل ركن وكل زاوية.

2. تطوير وسائل تقنية للتحكم في النظام الجيني وتوجيهه بما يتلاءم مع الليبرالية ومبدأ الفعالية.

من جهته يعتبر الفيلسوف جاك إيلول التقنية. إنها المنطق الناظم لكل الآلات والأجهزة والأدوات ولكل الطرائق والأنظمة. " فلا معنى لسرعة الاتصالات في العالم التقني الذي نعيش فيه بدون ربطها بأنماط الشغل وبأشكال السكن...

اين هو موقع الإنسان من العالم التقني؟.

 بالنسبة لجاك إيلول التقنية هي المحيط الذي يسبح فيه الإنسان المعاصر.. والماء الذي يستحم فيه، والوسط الذي يترعرع فيه. كما أن العالم التقني هو ما يهيأ إليه الإنسان ويعد له وينشأ ويربي عليه. فالتقنية، بالنسبة لإيلول، هي التي تولد الرغبات، فالإشهار مثلا يخلق الحاجة إلى الاستهلاك، والمواصلات تخلق الحاجة إلى التنقل... وبالتالي لا يوجد أية إمكانية خارج العالم التقني وخارج نظام التقنية المعاصر، إنه الشرط الوجودي للإنسان.

وبالنسبة لعلاقة الحرية بالتقنية، فإن جاك إيلول يعتبر أنه (لا وجود للحرية في العالم التقني لأن الاختيار بين إمكانات متعددة لا يعتبر حرية)، لأن منطقة اختياراتي محددة بالعالم التقني، وبالتالي ( لا يمكن الحديث في المجتمعات التقنية المعاصرة عن الحرية بقدر ما يمكن الحديث عن الاستلاب. ف(الإنسان لا يملك أفعالا بل فقط ردود أفعال، وللنظام التقني اليد الطولى فيما يختاره).

واستلاب الإنسان واغترابه في المجتمع التكنولوجي المعاصر، على الرغم من اكتسابه للوعي الذاتي وللعقل والقدرة على التخيل، هو استلاب عميق ومركب. فالإنسان غريب عن ذاته اي عن النوع الإنساني برمته وغريب في عمله أي عن نشاطه الذاتي وغريب عن الآخرين وغريب عن الأشياء المنتجة والمستهلكة ومن خلالها عن الطبيعة ذاتها.

يلاحظ أحد الباحثين أن هذا الاستلاب، على الرغم من ارتباطه ببنية اجتماعية-تاريخية محدودة، إلا أنه أصبح من القوة والرسوخ بحيث يكاد يبدو وكأنه استلاب طبيعي ذو جذور بيولوجية أو مرتبط بالشرط الإنسان ذاته.

فالإنسان كائن ذو حاجات لا نهاية لها ولا إشباع لها، ابتداء من الحاجات البيولوجية الأساسية إلى الحاجات السيكولوجية والاجتماعية التي لا قرار ولا إشباع لها. فوعي الإنسان بحاجاته ومشاكله يحول بينه وبين الشعور بالإشباع والاكتفاء، حتى وإن ثم إشباع الحاجات الأساسية. وهذه الحاجات السيكولوجية والاجتماعية العميقة والأساسية تتمثل في:

- الحاجة إلى إقامة علاقات مع الآخرين.

- الحاجة إلى الإبداع والفعل.

- الحاجة إلى الأمن والأمان والاستقرار.

- الحاجة إلى هوية خاصة مميزة.

- الحاجة إلى السلوك والتوجه في المجتمع، أي إلى فهم وتحليل العالم المحيط وإعطائه معنى.

إلا أن الطبع المجتمعي المهيمن في المجتمع الرأسمالي الصناعي المعاصر يكيف كل هذه الحاجات إما بالقمع، أو التحويل، أو التمويه وهو يجعل الفرد في حالة عناء وإرهاق نفسي تعمقه مشاعره بالاستلاب.

ما الذي يفعله الانسان المستلب، وخاصة في مجتمعاتنا؟

انه يلجأ الى (التماهي) بحثا عن خلاص متوهم.. وهذا التماهي هو نوع جديد من الاستلاب، يُعَرِّفُهُ الدكتور مصطفى حجازي - في كتابه (سيكولوجية الإنسان المقهور) بأنه (استلاب الإنسان المقهور الذي يهرب من عالمه كي يذوب في عالم المُتَسَلِّط؛ أملاً في الخلاص).

التماهي يأخذ ثلاثة صور:

الأولى: التماهي بأحكام المُتَسَلِّط.

الثانية: التماهي بعدوان المُتَسَلِّط.

الثالثة: في آخر أشكال التماهي بالمُتَسَلِّط يصل الاستعلاء أخطر درجاته، لأنه يتم بدون عنف ظاهر، بل من خلال رغبة الإنسان المقهور في الذوبان في عالم المُتَسَلِّط.

يقول الدكتور مصطفى حجازي: (وأقصى حالات التماهي المُتَسَلِّط تأخذ شكل الاستلاب العقائدي؛ ونقصد بذلك تَمَثُّل واعتناق قِيَم النِّظام، والانضباط والامتثال، وطاعة الرؤساء الكبار، وهي قِيَم تخدم - بما لا شك فيه - مصلحة ذلك المُتَسَلِّط؛ لأنها تُعَزِّز مواقعه وتصون مُكتَسَبَاتَهُ).

التَّمَاهي إذن: هو تماثل وتطابق ناتج عن رؤية مصلحية تصل إلى حد تغييب العقل، وتصل في التوصيف الأخلاقي إلى النفاق والكذب مُجْتَمِعَيْنِ.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 7/تشرين الثاني/2013 - 3/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م