شبكة النبأ: مما ميّز الإسلام عن سائر
الديانات والمناهج السماوية التي نزلت للإنسان، أنه حمل برنامجاً
متكاملاً لبناء الإنسان بالطريقة التي يزهو بها في حياته، ويعيش
الكرامة والحرية والتقدم في الحياة. وقد تجسّد هذا البرنامج في سيرة
النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، فخلال عشر سنوات فقط من معايشته
المجتمع العربي آنذاك، وهو خليط من الحضريين وسكان البادية، تمكّن من
تغيير قدر كبير من السلوك والعادات والافكار لدى الناس. فمن الغلظة
والقسوة والعدوانية وغيرها من الخصال الذميمة، الى الرحمة والتعاون
والتكافل وسائر الصفات الحميدة. وهذه النقطة بالتحديد، هي التي أثارت
استغراب المفكرين الغربيين، فأقرّوا له، صلى الله عليه وآله، بالتفوق
على جميع شخصيات العالم على مر التاريخ. فكتبوا بكثير من الإعجاب
والانبهار، عن كيفية تغيير تلك الشخصية البدوية القاسية، والصخرة
الصمّاء، وتحويلها الى شخصية تنبع منها الاخلاق والرحمة والتضحية من
أجل القيم والمبادئ، وهذا ايضاً، يمكن عدّه أحد أهم عوامل تقدم الحضارة
الاسلامية، وبزوغ نورها في أرجاء المعمورة، وها هي عديد المؤلفات
الصادرة في الغرب تؤكد على فضل العلوم والثقافة الاسلامية، على التقدم
العلمي والتقني في الغرب.
وفي كتابه "السياسة من واقع الإسلام"، يبين سماحة المرجع الديني آية
الله العظمى السيد صادق الشيرازي – دام ظله- هذه الأسبقية والريادة،
حيث يشير الى بعض الدول في العالم التي تتباهى بالتعليم الالزامي، في
حين إن الأسبقية تعود الى الإمام الصادق، عليه السلام. يستند سماحته
على الحديث الشريف: "ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا". ويقول:
"عالم اليوم يفتخر بالتعليم الإجباري الذي فرض في بعض الدول على عامّة
النّاس، مع أنّ المخطِّط الأوّل لذلك في إطاره الإيجابي الإنساني دون
السلبي الممارس حالياً عند البعض، هو حفيد رسول الله صلی الله عليه و
آله، الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، صاحب هذه الكلمة النادرة. فهو
يتمنى لو استطاع جبر أصحابه على التفقّه والتعلّم ولو بسبب ضربهم
بالسياط".
وفي هذا الكتاب يشير سماحته الى اهتمام القرآن الكريم بالعلم والثقافة،
حيث يبين أن حجم الاهتمام بالعلم والثقافة يصل الى الربع مما يضمه
الكتاب المجيد، من أحكام ومفاهيم اخلاقية ودروس وعبر وموضوعات اجتماعية
واقتصادية وغيرها. وعدّ سماحته أكثر من (1500) آية كريمة تتحدث عن
المواد التالية: "العلم"، "المعرفة"، "التعقّل"، "التذكّر"، "التدبّر"
التي يجمعها – يقول سماحته- معنى الثقافة.
السؤال هنا: لمن هذه العلوم والمعارف التي يحثّ الاسلام على
اكتسابها وتطويرها؟
عندما نطرح هذا السؤال على الانسان الغربي، سيكون جوابه؛ الربح،
والتوسع الاقتصادي، والتأثير الفكري والثقافي، وحتى المكاسب السياسية..
أما الانسان الغربي نفسه، فهو بعيد عن الفوائد الحقيقية لهذه العلوم
والمعارف، وربما يجد نفسه انساناً متكاملاً من الناحية المعنوية
والاخلاقية، وأي تصرف او توظيف للعلوم فانه في الطريق الصحيح. بينما
الاسلام يدعو الى البناء الذاتي، وبعده البناء الاجتماعي، ومن ثم بناء
الأمة، وعندما نطالع بعض الصفحات التي حفظها لنا التاريخ عن مجتمعنا
الاسلامي الأول، وكيف أنه لم يشهد الأوبئة الخطيرة، ولا الظواهر
الاجتماعية الشاذة مثل السرقة والاحتيال والبطالة والمجاعة وغيرها، بل
العكس، كان الانسان المسلم في ذلك العهد يشهد المعمارية الجميلة وطرق
الري والزراعة والقانون، وغيرها، وبشكل عام، لم يكن الناس في حيرة من
أمرهم في أي شأن من شؤون الحياة. بينما نلاحظ الاوضاع السائدة في عالم
اليوم، حيث كل شيء مسكونٌ بالقلق والاضطراب والتأزم. والسبب في ذلك –
من جملة أسباب- أن العلم والمعرفة، لم تساعد الانسان يوماً على تغيير
واقعه وذاته من السيئ الى الاحسن، نعم؛ ثمة الخدمة الظاهرية التي
نشهدها ونلمسها، وهي ليست بالمجان، إنما هي ضمن عملية تجارية واضحة
المعالم، حيث تخضع لمعادلة الربح والخسارة، فما يضمن الربح الاكثر، هو
الاكثر حضوراً في الاسواق.
من هنا، نلاحظ أن معظم الذين يستبصرون بنور الاسلام وأهل البيت
عليهم السلام، يتوجهون فوراً على طلب العلوم الدينية، ويحاولون
الالتحاق بإحدى الحوزات العلمية، لسبب بسيط واحد؛ أن التعاليم والاحكام
الاسلامية لصيقة بواقع الانسان الفرد والمجتمع، ومعرفة الاحكام
والتعاليم، بمعنى معرفة المجتمع وحاجاته.
الى هذه الحقيقة يشير سماحة المرجع الشيرازي في احدى محاضراته وهو
يتحدث عن منزلة العلم والثقافة في نشر الدين في العالم، حيث تحدث عن
تجربة مضيئة في هذا المجال، وهي قصة تعود الى حوالي (200) عاماً، ومن
احدى مناطق شمال ايران التي تقطنها الاقلية المسيحية، وهناك نشأ شاب
مسيحي يمتلك درجة عالية من الذكاء والنبوغ، بحيث أهله ذلك أن يتخطّى
مراحل الدراسة الدينية في الكنيسة، وفي وقت مبكر أصبح أحد ابرز
القساوسة في منطقته، بعد أن أكمل دراسته في "الفاتيكان"، لكن هذا الشاب
المسيحي والعالم الباهر في شؤون دينه، التقى بشباب من سنّه في مدينة
"أرومية" شمال ايران، وبعد فترة وجيزة واذا به يتخلّى عن المسيحية
كاملة، ويتحول الى الاسلام، ثم يتوجه الى دراسة العلوم الدينية، بل
تحوّل الى أحد ابرز علماء الدين الشيعة، وحمل لقب "فخر الإسلام".
يتحدث سماحته في مسيرة هذا العالم في الاجواء الاسلامية، و "أنه كان
سبباً في هداية الآلاف من المسيحيين إلى نور أهل البيت صلوات الله
عليهم، في العديد من المدن الإيرانية. وألّف عشرين كتاباً في مجال
تفنيد عقائد المسيحية وادّعاءاتها ومزاعمها، وكان أسلوبه فيها جيّداً
وبليغاً و رائعاً، ومنها: كتاب أنيس الأعلام في نصرة الإسلام والردّ
على النصارى في مجلّدين، وكتاب بيان الحق والصدق والمطلق في عشرة
مجلّدات، حيث اختصت المجلّدات الأربعة الأولى منه في إثبات أحقيّة
القرآن الكريم ونبوّة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله".
هنا؛ يتساءل سماحته عن هوية أولئك الشباب الذي تمكنوا من تغيير ذلك
العالم الشاب والطامح والتألق في الديانة المسيحية..؟ وبالقطع فان
سماحته يريد أن يثير الجواب فينا، بأن – بلا شك- كانوا أكثر علميةً
وثقافة ومعرفةً من ذلك العالم المسيحي، وإلا لما كان بامكانهم تغييره،
وهو بذلك الذكاء والنبوغ. وإذن؛ فان العلم والثقافة بمعناها الصحيح، هي
تلك التي تضع الانسان على الطريق الصحيح خدمة له ولمستقبله ومصيره في
الحياة، وليس في الأمر إكراه او تغرير او تضليل، كما نلاحظ في نهج
المسيحية اليوم في انحاء العالم، حيث تفعل كل شيء من أجل الانتشار
وتغيير عقائد الناس، مستخدمة في ذلك آخر ما توصلت اليه التقنية الحديثة
من وسائل الاعلام والاتصال.
من هنا يدعو سماحته الجميع الى الانتباه لمسألة تطوير العلوم وتكريس
الثقافة الأصيلة لدى الشريحة المتعلمة، بل وتوسيعها في المجتمع لإعادة
أمجاد الحضارة الاسلامية من جديد. أما الطريق الى ذلك، فيبين سماحته
أنه بحاجة الى تضحية وعزم وإرادة على تخطّي الصعاب، وذلك على صعيدين:
الاول: الصبر والتحمّل من الآخرين، والامر الآخر، العفو والحلم، بمعنى
العطاء والتفاني من أجل الآخرين. وهذه بالتحديد من الصفات التي كان
يتحلّى بها ابرز علماءنا وأكثرها نجاحاً وتألقاً في تاريخنا الشيعي.
ومن هؤلاء أولئك العلماء الشباب الذين تمكنوا من تحقيق ذلك التغيير
والبناء العظيم في انسان كان مسيحياً ثم تحوّل مسلماً وعالماً معطاءً. |